مياه البندقية تغسل ريشة مونيه

هنري زغيب*
بين 20 تشرين الأَول/أُكتوبر الحالي والأَول من شباط/فبراير 2026، معرضٌ استثنائيٌّ فريدٌ في متحف بروكلِن للفنون (نيويورك): “مونيه والبندقية”، يضمُّ 19 لوحة للرسام الفرنسي الانطباعيّ كلود مونيه (1840-1926) وضعَها إِبَّان رحلته وزوجته إِلى البندقية سنة 1908. ومع تلك التسْع عشرة، نحو 100 لوحة انطباعية أُخرى، وأَغراض خاصة به، ودفاتر شخصية دوَّن فيها انطباعاته عن تلك الرحلة إِلى البندقية وعلاقته بها.

رائد الانطباعية
وردَت في المقدمة أَعلاه عبارة “الرسام الانطباعي”. ما علاقة مونيه بها؟
ساد تيار الانطباعية عالَمَ الرسم نحو 150 سنة في فرنسا وبعض أُوروبا، مُدهشًا نُقّادَ الفن ومؤَرِّخيه، وجمهورًا عريضًا من روَّاد المعارض، وعددًا كبيرًا من الغالريات والمتاحف الأُوروبية والعالَمية الرئيسة. ذاع انتشاره بدايةً لأَنه انطلق من رفضه قواعدَ الرسم الكلاسيكية التقليدية الجامدة الْكانت سائدةً فترتئذٍ في عالَم الفنون الجميلة. وتحديدًا، بدأَ ذاك التيار منذ معرضه الأَول في محترف المصور الفوتوغرافي “نادار” (غاسبار فيليكس تورناشون المعروف بـ”نادار”: 1820-1910) أَقامه نحو 30 رسامًا سنة 1872، وفيه من كلود مونيه لوحة “انطباع عند شُرُوق الشمس” هي التي أَعطت اسمها إِلى الانطباعية كتيار فنيّ.

البندقية
سنة 1908 قام كلود مونيه، تصحبُهُ زوجتُه أَليس (1844-1911)، برحلة إِلى إِيطاليا، قاصدًا البندقية. كان ذلك بتشجيعٍ وإِلحاح من زوجته، هو الْكان يرفض مغادرة منزله الذي شكَّله على ذوقه في جيفرني (منطقة النورماندي، شماليّ فرنسا). لكنه اقتنع بصوابية رجوعه عن ذاك القرار، حين بلغ البندقية، وأَدهشَه ما وجدَ فيها من سحرٍ متفرِّدٍ وجمالٍ فريد ومشاهد ومناظر ترجمها بريشته.
في تلك الرحلة وضع آخر لوحات جديدة لم يتَسَنَّ له عرضُها على حياته (إِلَّا بعضها في باريس سنة 1912)، فجاء اليوم متحف بروكلن، بعد 117 سنة، ليُطلعها أَوَّل مرةٍ من النسيان، ويعرضها على جمهوره الواسع طيلة أَربعة أَشهر،كي يُظهر فيها كيف جدَّد بها مونيه أُسلوبه التشكيلي ولغته اللونية ومواضيعه وموهبته الفنية الخارقة.

تجديد في الأُسلوب
تتشكّل علاقته بتلك المدينة من الفرق بين أُسلوبه الخاص في ثنائيات (لوحتان مضمومتان في موضوع واحد) كان رسمها مناظر ومشاهد في فرنسا، وما جدَّد من أُسلوبه وهو في حضن المدينة الإِيطالية المائية. ويتضح من هذه المقارنة أَن مونيه، في لوحات البندقية، أَهدأُ تعبيرًا، وأَكثَفُ أَلوانًا، وأَوضحُ إِشراقًا ضوئيًّا، وأَجمل جوًّا، أَكثرَ منها تقنيةً وتفاصيلَ ريشة. ويعود ذلك إلى أَنَّ في هندسة المدينة، وبيوتها المبنية في الماء، وقناتها المائية، ما جذَبَ مونيه فرسم لوحاته فيها كأَنها مغشوَّة بحجابٍ شفَّاف.
هذه الملاحظة أَكَّدت عليها الناقدة التشكيلية ليزا سْمُوْلّ (مديرة هذا المعرض في متحف بروكلن)، بنصِّها في تقديم المعرض: “وَجَد مونيه في هذه المدينة المائية مناخًا مثاليًّا لالتقاط أَثر الأَلوان في الفضاء، والنسيم في تماوجات مياه القناة على اللوحة، ليَطْلع بلغة تشكيلية جديدة أَوحتها إِليه البندقية. ففي لوحاته إِبَّان تلك الرحلة، ظهرت كنائسُ وقصورٌ منحها رقشاتٍ مبتَكَرَةً من ريشته، فبدَت غائمةً كأَنها في الحلم، متماوجةً منعكسة على وجه المياه. وما ظهَّر ذلك بشكلٍ خاص: تعبيرُ ريشته عن المياه وما ينعكس فيها. من هنا استخدامه أَكثر من ريشة في اللوحة الواحدة، ما أَعطى انطباع تموُّج المياه في القناة.
تأْثيرُ المدينة على ريشته
يُؤْثَر عن مونيه قوله: “البندقيةُ أَجمل من أَن ترسمها ريشة”. وكان ذلك تحدِّيه الذاتي في إِطلاع روائع اللوحات من البندقية وفيها وعنها. وبين روائعه تلك: لوحة “قصر دوكالي” و”القناة الكبرى”، جاء بهما متحف بروكلن من متحف سان فرنسيسكو لإِكمال سلسلة اللوحات التسع عشرة عن البندقية.
وفي معرض “مونيه والبندقية” أَيضًا لوحاتٌ من تنقلاته إِلى النورماندي ولندن، ومن منزله في جيفرني، بينها ثلاث لزنابق الماء، كان مونيه رسمها بعد سنواتٍ على عودته من البندقية.
ولدعم الفكرة العامة عن البندقية في لوحات الرسامين، يضمُّ المعرض كذلك بعض أَعمال من معاصري مونيه: أُوغست رُنوار، جون سارْجِنْتْ، جيمس ويسْتْلِر، وجميعهم زاروا البندقية ورسموا مشاهد منها، لتبيان الفروقات بين لوحاتهم هناك ولوحات مونيه. ففيما أُولئك ركَّزوا على شوارع البندقية وقنواتها المائية الشهيرة، ركَّز مونيه على السكان، وعلى الهندسة المعمارية وتزاوج النور والظل في تلك الأَبنية والقصور.
الإِقبال على البطاقات
وفي الكتيب الذي صدر لمناسبة المعرض، أَبحاث لخبراء عما في لوحات مونيه من منحى سوسيوتاريخي وبيئي يُغني ثقافة القارئ فيما يدخل إِلى المعرض. وفي الإِعلام عن المعرض، تنبيهٌ إِلى شراء البطاقات مسبقًا، كي يتمكن حاملوها من الدخول في نوبات كل 15 دقيقة. والبطاقات لليوم الواحد محدودة كي لا يكتظَّ الدخولُ فالتجوُّلُ داخل المعرض الذي يجمع هذا الكم من اللوحات عن البندقية منذ 100 سنة.
بعد ختام المعرض في بروكلن عند مطلع شباط/فبراير المقبل، ستنتقل اللوحات جميعُها إِلى معرض ضخم آخر لدى متحف الفنون الجميلة في سان فرنسيسكو.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.