الميكروفون الذي نَذُمُّ به الغرب: قراءةٌ في مُفارقاتِنا الحضاريّة
فاروق غانم خداج*
في عالمنا المعاصر، تتجلّى مفارقة حضارية عميقة في تفاصيل حياتنا اليومية، سواء على مستوى السلوك الفردي أو البنى الاقتصادية والتعليمية والثقافية. لقد غزا الغرب، بعلومه وتقنياته، تفاصيل يومياتنا حتى دون أن نشعر؛ نستيقظ على ساعة سويسرية، نشرب قهوتنا باستخدام آلات يابانية وأوروبية، ننتقل بسيارات ألمانية الصنع، ونستخدم الطائرات التي بدأت مع الأخوين رايت منذ أوائل القرن العشرين. الغريب أنَّ الأدوات نفسها تُستخدم في أماكن العبادة ومنابر الخطاب لنُدين الغرب ونهاجمه. هذا التناقض الصارخ يطرح تساؤلات كبيرة حول وعينا الحضاري ومدى إدراكنا للتبعية المعاصرة، ويكشف عن فجوة بين القول والفعل، بين ما يُعلَن وما يُمارَس فعليًا في حياتنا اليومية.
الميكروفون، الذي اخترعه الألماني إيميل بيرلينر في العام 1876، أصبح أداةً أساسية في إيصال الصوت بوضوح وقوة، خصوصًا في خطب الجمعة والدعوات التي تنتقد الغرب. والكهرباء التي تشغّله، والتي جاءت ثمرة جهود توماس إديسون ونيكولا تسلا، لا تقل أهمية في توسيع دائرة التأثير وبثِّ الخطاب. أما السيارة، المرتبطة باسم كارل بنز وغوتليب دايملر، فهي ليست مجرّد وسيلة نقل، بل رمزٌ للحضارة والتنقُّل السلس، ساعدت على إعادة تعريف مفهوم الحركة في المجتمع الحديث، ونقل الإنسان من قرية أو مدينة صغيرة إلى فضاءٍ أوسع من الفرص والمعرفة.
في مجال الطب، لا يُمكنُ تجاهل الإنجازات الغربية التي تنقذ حياة الملايين يوميًا. التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) الذي قام على اكتشافات بول لوتربر وبيتر مانسفيلد، الحائزَين جائزة نوبل للطب في العام 2003، والتصوير المقطعي المُحَوسَب (CT) المرتبط بغودفري هاونسفيلد وألان كورماك الحائزَين الجائزة نفسها في العام 1979، كلها أمثلة على العمق العلمي الغربي الذي نعتمد عليه بلا شك. وكشفت جائحة كورونا معدن المجتمعات؛ ففي الوقت الذي واجهَ بعضُ الحكومات عجزًا عن تقديم حلولٍ فعّالة، أنتجت مختبرات “فايزر” و”موديرنا”و”أُكسفورد” لقاحاتٍ طبّية أعادت الأمل للعالم أجمع، وأثبتت أنَّ العلمَ والتعاوُنَ هما السلاح الأقوى لمواجهة الأزمات الصحّية العالمية.
ولم تقتصر المفارقة على التكنولوجيا، بل امتدت لتشمل التعليم والثقافة أيضًا. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يدرس آلاف الطلاب العرب في جامعاتٍ مُتقدّمة، ينهلون من خبراتٍ طبية وهندسية وإدارية متطوّرة، وغالبًا تكون هذه البرامج مدعومة أو مجانية، ما يسهم في بناء قدراتهم العلمية ومهاراتهم المهنية بشكل كبير. لكن عندما يعود كثير من هؤلاء الطلاب إلى أوطانهم، لا يجدون البيئة المناسبة لبناء مستقبل وطني مزدهر، فتظل البنى التعليمية والبحثية ضعيفة، ويقف الطالب بين حب الوطن ومرارة الواقع، محاصرًا بين إمكانياته العلمية والقيود العملية التي يفرضها النظام القائم.
أحد أبرز التناقضات يظهر في الخطاب الديني؛ فبينما يُنتَقَدُ الغرب وحضارته، نجد الصوت يُرفَعُ عبر ميكروفوناتٍ ألمانية، نصلي في مساجد تُدفأ بآلات مكيفة صنعت في الغرب، ونستخدم تقنيات غربية في التعليم والتواصل والإدارة. هذا الاختلاف بين القول والفعل يعكس أزمة ثقة عميقة في القدرة على التغيير، ويبرز فجوة بين النظرية والتطبيق.
الدين، المفترض أن يكون دافعًا للنهوض والابتكار، أضحى أحيانًا أداة لتبرير الجمود والانعزال بدلًا من أن يكونَ محفّزًا للإبداع والتقدم.
إنَّ استمرار استهلاك منتجات الغرب مع إنكار فضلها يدفع نحو المزيد من التبعية ويقيد الاقتصاد الوطني. فالاقتصاد الذي لا يعتمد على الإنتاج والابتكار محكوم عليه بالبقاء سوقًا تابعة، نستورد كل شيء من الإبرة إلى الطائرة. هذا النمط يولد فقرًا تقنيًا واعتمادًا دائمًا، يعيق فرص الابتكار المحلي ويؤدي إلى جمود اقتصادي ومعيشي، ويترك المجتمعات عاجزة عن المنافسة في أسواق عالمية تتسم بالتطور والتجدد. لذلك، من الضروري إعادة النظر الجذرية في السياسات الاقتصادية والتعليمية، لتعزيز ثقافة الابتكار والإنتاج، وإلّا ستظل المجتمعات تراوح مكانها تحت ظل التبعية، بعيدين عن بناء مجتمع قائم على المعرفة والبحث العلمي والإبداع التقني.
الحل يكمن في التغيير من الداخل. على الفرد أن يبدأ بالتعلم والبحث والابتكار في مجاله، وعلى المؤسسات توفير البيئة الحاضنة لهذا الإبداع، مع دعم الحكومات للمشاريع البحثية، وتمويل المبتكرين، وتحديث المناهج لتشمل التفكير النقدي والمهارات العملية والابتكار. في الواقع العربي، هناك أمثلة واعدة من مراكز بحوث وشركات ناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة يجب توسيعها وربطها بسياسات الدولة لتحقيق تنمية اقتصادية وتقنية واجتماعية متكاملة، ترفع من مستوى الحياة وتقلل من التبعية الاقتصادية.
الميكروفون الذي نذمُّ به الغرب هو رمز لتناقض حضارتنا العميق. الغرب ليس خصمًا، بل شريك في الحضارة الإنسانية، ومن واجب المجتمعات الاعتراف بفضله والعمل على تحقيق توازن بمسؤولياتها الفردية والجماعية. يجب أن نفكّ عقدة الإنكار وقرار الاصطياد السهل، وأن نبدأ فعلًا بالتصنيع والابتكار وبناء اقتصاد مستقل ومستدام. حينها فقط، سيتم الانتقال من موقع التابع إلى موقع الشريك، ومن أسواق مستهلكة إلى اقتصاد منتج قادر على المنافسة والابتكار. حضارتنا العربية والإسلامية قادرة على الإبداع والتفوق طالما أُعطيت الفرصة والدعم، والتقدم الحقيقي يبدأ بالعمل المستمر والتعليم الصادق، والبحث العلمي الدؤوب، وتحمل المسؤولية الفردية والجماعية.
- فاروق غانم خداج هو كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني.