مَمَرّاتُ النفوذ: كيفَ يُعيدُ الخليجُ صياغةَ التجارةِ العالمية

كابي طبراني*

في عالمِ اليوم المُشَظَّى، حيث تتشتّتُ مراكزُ القوّة الاقتصادية وتشتدُّ المنافسات الجيوسياسية، تَجدُ دولُ الخليج العربية نفسها في قلب تحوّلٍ تاريخي. لم تَعُد تكتفي بدورِ المُوَرّدة التقليدية للطاقة، بل باتت تسعى إلى ترسيخِ مكانتها كمُهندسةٍ لأضخمِ الممرّات الاقتصادية وأكثرها طموحًا في القرن الحادي والعشرين. فمن الممرِّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا المدعوم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى طريقِ التنمية العراقي المدعوم من تركيا، وصولًا اإلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، يبرزُ الخليج ليس فقط كمحطّةِ عبور، بل كلاعبٍ فاعلٍ وحاسم يُشكّلُ مستقبل العالم.

هذا الدورُ المُستَجِدُّ يتطلّبُ أكثرَ من مجرّدِ موانئ وسككٍ حديدية. إنّهُ يتطلّبُ رؤيةً ثاقبةً، ومُرونةً، واستعدادًا لاستخدامِ الترابُط كأداةٍ اقتصاديةٍ وديبلوماسيةٍ في آنٍ واحد. والسؤال هو: هل يستطيعُ قادةُ الخليج الارتقاءَ إلى مستوى الحدث ويغتنمون هذه اللحظة التاريخية – أم سيتحوّلون إلى مجرّدِ مُتفرِّجين سلبيين على مشاريع صاغها وصمّمها آخرون؟

على مدى معظم القرن الفائت، ارتبطَ ازدهارُ الخليج بالهيدروكربونات. لا يزالُ النفطُ محوريًّا ومهمًّا، ولكن في عصرِ الأسواق المُتقلّبة، وتحدّيات المناخ، والتحوّلات التكنولوجية السريعة، أصبحَ التنويعُ استراتيجيةً للبقاء. تُتيحُ الممرّات -تلك الشبكات من الموانئ والسكك الحديدية وكابلات الألياف الضوئية وخطوط أنابيب الطاقة- سبيلًا لدمجِ اقتصاداتِ الخليج في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية بما يتجاوز صادرات النفط الخام. لكن هذه الممرّات ليست مجرّدَ خدماتٍ لوجستية، إنها أدواتُ نفوذ. لقد أظهرت مبادرة الحزام والطريق الصينية كيفَ يُمكنُ للبنية التحتية أن تكونَ أيضًا رافعةٌ استراتيجية، تُعزّزُ الاعتمادَ على الديون والنفوذ الجيوسياسي. لقد تعلّمت دولُ الخليج من هذا المثال. فبعد أن كانت تكتفي سابقًا بتلقّي التمويل والخبرة من الخارج، باتت اليوم تُوَظِّفُ صناديقها السيادية الهائلة لتشكيل وتنقيذ المشاريع وفقًا لشروطها الخاصة. لم تَعُد أبوظبي والرياض تكتفي بقبولِ رؤى الآخرين فحسب، بل أصبحتا تموّلانها وتُصمِّمانها وتقودانها.

يأتي صعودُ الخليج في وقتٍ ينزلقُ النظامُ العالمي أكثر فأكثر نحو التعدُّدية القطبية. لقد ولّت لحظة القطب الواحد التي أعقبت الحرب الباردة، وباتَ التنافُسُ الأميركي-الصيني يُهدّدُ بتفتيت التجارة العالمية إلى تكتّلات مُتناحرة ومُتنافسة. لكن هنا تكمنُ ميزةُ دول الخليج الفريدة: تبنّيها لما يسميه قادتها “الحياد الإيجابي”. برفضها الانحياز إلى أيِّ طرف، تنخرطُ دولُ الخليج في ما يمكن تسميته بعدم الانحياز القائم على التواصل. إذ بإمكانها العمل مع واشنطن في مبادرة، والشراكة مع بكين في أخرى، والاستثمار مع أنقرة وبغداد في مبادرة ثالثة – كل ذلك في آنٍ واحد. هذه ليست مناورة تكتيكية ، بل استراتيجية. لقد منحت الجغرافيا الخليج السيطرة على مضائق استراتيجية مثل مضيق هرمز، بينما منحته رؤس الأموال والطموح نفوذًا على شرايين التجارة الجديدة. بموقعه عند ملتقى الشرق والغرب والجنوب، يُعيدُ الخليج تعريف مفهوم النفوذ: ليس عبر الهَيمَنة، بل عبر الوصول والربط.

الفُرَصُ هائلة. على سبيل المثال، يُمكِنُ للممرِّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا أن يُخفّضَ تكاليفَ النقلِ ويدمجَ القدرات الإنتاجية الهندية المتنامية مع قاعدة المستهلكين الواسعة في أوروبا، مع جعل موانئ الخليج ركيزةً أساسية. ويَعِدُ طريق تنمية العراق بإعادة ربط العراق ودمجه بالاقتصاد الإقليمي، مما يُسهم في استقرارِ جارٍ هشٍّ وتوسيع أسواق الخليج شمالًا. وتُواصِلُ مبادرة الحزام والطريق بدورها ضَخَّ التجارة والاستثمارات الصينية عبر مراكز الخدمات اللوجستية الخليجية، ما يُعزّزُ دورَ المنطقة كمحورٍ عالمي.

مع ذلك، فإنَّ المخاطرَ حقيقيةٌ بالقدرِ نفسه. فهذه الممرّات تمرُّ عبر تضاريس مُتقلِّبة: غزة والبحر الأحمر وشمال العراق ومضيق هرمز … ليست معروفة بالاستقرار. كما تُهدّدُ التنافسات والخلافات السياسية -من إصرارِ أنقرة على الانضمام إلى الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا إلى قلقِ الخليجيين بشأن دور إسرائيل في المشروع- بتقويض التقدُّم. وفوقَ كلِّ ذلك، هناكَ حقيقةٌ صادمة: ثلثُ الإنفاقِ العالمي على البنية التحتية يُهدَرُ بسببِ سوءِ الإدارة أو الفساد أو المبالغة في التقديرات. والخليجُ لا يملكُ ترفَ تمويل مشاريع ضخمة تُدارُ بهذه الطريقة.

الاختبار الحقيقي لهذه الممرّات لن يكونَ في الخرائط اللامعة والبرّاقة بل في مجتمعات الخليج نفسها. هل ستتمكّن هذه المشاريع من خلقِ وظائف لجيلٍ شابٍ يُعاني نسبَ بطالةٍ مُرتفعة؟ هل ستبني مهاراتٍ في الذكاء الاصطناعي واللوجستيات والتجارة الرقمية بدلًا من إدامةِ الاعتمادِ على العمالة الوافدة؟ وهل ستتوافق مع الأهداف البيئية في منطقةٍ مُعرَّضةٍ بشدّة لتغيُّرِ المناخ؟ إذا اكتفى الخليجُ بالاستثمارِ في الإسمنت والصلب، فسوفَ يُعيدُ إنتاجَ أنماطِ التبعية القديمة. لكن إذا دمج هذه المشاريع مع التدريب المهني، ونقلَ التكنولوجيا، والبنية التحتية الخضراء، فقد يؤسّسُ لمعجزةِ تنويعٍ حقيقية. ويُظهِرُ ميناء جبل علي الذكي في دبي، بأنظمته المُعتَمِدة على الذكاء الاصطناعي وسلاسل التوريد القائمة على تقنية “بلوكتشاين”، ما هو مُمكِن. إنَّ توسيعَ نطاقِ مثل هذه الابتكارات يُمكنُ أن يجعلَ الخليج ليس فقط محطّةَ عبور، بل رائدًا عالميًا في التجارة الرقمية.

لكي تنجح الممرّات، يجب على دول الخليج أن ترفُضَ الانجرارَ إلى لعبة القوى الكبرى. عليها أن تضعَ رؤيتها الخاصة وتُعبّرُ عنها – رؤيةٌ تُركّز على أولويات الخليج، كالأمن الغذائي والطاقة المتجدّدة والسيادة الرقمية. ومن شأن منصة حوار “مجلس التعاون الخليجي+” مع شركاء مثل تركيا ومصر والهند أن تُؤسّس لتعاون مؤسّسي، مع تجنُّب الارتهان لأيِّ قوّةٍ منفردة. وبالمثل، يُمكن للتنسيق الثلاثي مع الاتحاد الأوروبي والهند بشأن الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا أن يضمنَ أن تُشكِّلَ دول الخليج هذا المشروع الحيوي وأن تكون شريكًا فاعلًا لا مجرّد مضيف. والأهم من ذلك، يجب على قادة الخليج أن يدمجوا مبدأ الشمولية في التخطيط للممرات. وهذا يعني فَرضَ سياساتٍ لخلق فُرَصِ عملٍ محلّية، وتشجيعَ مشاركةِ القطاع الخاص، وضمانَ شفافية القوانين. فالبنية التحتية يجب ألّا تكون مشروعًا فوقيًا، بل مسارًا لفُرَصٍ اقتصادية للمواطنين. ومن دونِ قبولٍ شعبي، ستبدو هذه الممرّات مشاريع نخبوية بعيدة من حياة الناس اليومية.

يُعلّمنا التاريخ أنَّ البنية التحتية تُعيدُ تشكيلَ الجغرافيا السياسية. لقد فعلت قناة السويس ذلك لمصر في القرن التاسع عشر. وفعل ذلك نظام الطرق السريعة بين الولايات في أميركا في القرن العشرين. في القرن الحادي والعشرين، قد تكون الممرّات الاقتصادية هي الأداة التي تُغيّرُ موازين القوّة لصالح الخليج. لكنَّ التاريخَ يُعلّمنا أيضًا أنَّ مثلَ هذه اللحظات يُمكنُ أن تُهدَرَ وتضيع. فالاعتمادُ المُفرِط على القوى الأجنبية، أو الفشل في دمج السكان المحلّيين، أو الرهانات المالية قصيرة النظر، قد تُحوِّلُ طموحاتَ اليوم إلى خيباتِ الغد.

يقفُ الخليجُ عندَ مُفترَق طُرُق – حرفيًا ومجازيًا. إذا لعبَ أوراقه برؤيةٍ وبراغماتية، يُمكنه أن يُحوِّلَ هذه الممرّات إلى محرّكاتٍ للتنويع والديبلوماسية والمرونة. وإذا لم يفعل، فقد يجد نفسه مُحاصَرًا بإمبراطورياتٍ مُتنافسة، لتصبح جغرافيته نعمةً مُبَدَّدة. إنَّ العالمَ يراقب بينما يبني الخليج ليس مجرّدَ طُرُقٍ وموانئ، بل شرايين اقتصادٍ عالميٍّ جديد. والرهانُ لا يُمكنُ أن يكونَ أكبر.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى