إتفاقُ ترامب–الاتحاد الأوروبي: هدنةٌ تجاريةٌ بطَعمِ الإذعان

السفير يوسف صدقه*

منذ تولي الرئيس دونالد ترامب الحكم في الولايات المتحدة، بادرَ إلى انتهاجِ سياسةٍ أميركية حادة وعنيفة تجاه الاصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء، تمثّلت في زيادة الرسوم الجمركية على كلِّ دول العالم، ومنها دول الاتحاد الأوروبي. وقد أدّى ذلك إلى صدمةٍ سياسية كبيرة بين أطراف ضفتي الأطلسي.

فسياسة “أميركا أوّلًا”، أدّت الى تعثّرِ العلاقات على الصعيد الاقتصادي بين الطرفَين الحليفين، إلّا أنَّ تدخُّلَ رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر قد خفّفَ الى حدٍّ ما من غلواء ترامب، من دون أن تُحَلَّ كلُّ المشاكل العالقة.

وبعد محادثات بين ترامب ومسؤولي الاتحاد الأوروبي في منتجع ترنبري باسكتلندا في 27 تموز (يوليو) 2025، تمَّ التوصّلُ إلى اتفاقٍ تجاري بعد مفاوضاتٍ مُضنية.

اعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أُرسولا فان دير لاين وترامب التوصل إلى اتفاقٍ تجاري إطاري ثنائي شامل، يهدف إلى إنهاءِ أشهرٍ من التوتر التجاري بين الجانبين، وتفادي اندلاع حرب تجارية شاملة. وقد تضمّنَ الاتفاقُ حزمةً واسعة من البنود، تغطي مجالات التعريفات الجمركية والسلع الصناعية، والزراعة والتكنولوجيا والطاقة وغيرها.

 

1- الرسوم الجمركية المُوَحَّدة : فرضت واشنطن تعرفة موحَّدة بنسبه 15%، على معظم صادرات الاتحاد الاوروبي إلى الولايات المتحدة. هذه النسبة تعتبر نسبة ثابتة، مما يوفّر المعلومات الواضحة للشركات، مع العلم أنَّ نسبة 15% تمثل 3 اضعاف متوسّط التعرفة السابقة ( 4.8% تقريبًا)، وهي تمثل اقل من التعرفة العقابية البالغة نحو 30%، التي حددتها واشنطن، إذا لم يبرم الاتفاق قبل 1 آب (أغسطس). وبالمقابل فإنَّ بروكسل، التزمت بإزالة ما تبقّى من الرسوم الجمركية المنخفضة على الصناعات الاميركية إلى أوروبا، كما تم الاتفاق على  إلغاء الرسوم الرقمية الجديدة على الخدمات الالكترونية.

نذكر في هذا السياق القطاعات التي تمَّ خفض الرسوم الجمركية عليها وهي:

  • قطاع السيارات : يعتبر قطاع السيارات أبرز المتأثّرين بالاتفاق. فقد اتفق الطرفان على خفض التعرفة الأميركية على السيارات وقطع الغيار الأوروبية من 27.5% إلى 15%. في المقابل قررت الاتحاد الأوروبي تخفيضَ رسوم استيراد السيارات الأميركية من 10% إلى 2.5% مما يُشكّلُ مكسبًا مهمًّا لصناعة السيارات الأميركية الساعية إلى دخول السوق الأوروبية.
  • التكنولوجيا والأدوية:

شملت المفاوضات السلع التقنية والأدوية الحساسة. أعلن البيت الابيض أنَّ الأدوية الأوروبية والرقائق الإلكترونية ستخضعُ هي الأُخرى لرسوم 15% عند دخولها أميركا، وبصورةٍ مؤقتة. وستظل صادرات الأدوية الاوروبية معفاة عبر تحديد رسومٍ منخفضة جدًا كما كانت. وقد انتزع الاتحاد الاوروبي التزامًا بألّا تتجاوز أي رسوم مستقبلية نسبة ال15%.

  • المعادن والصناعات الثقيلة:

لم تتنازل واشنطن في هذا القطاع، إذ أبقت على الرسوم الاميركية الباهظة بنسبة 50% على واردات الصلب والألمنيوم وهي سارية في الوقت الحالي، وتم التفاوض على وضع نظام حصص (كوتا) جديد لهذه المعادن خلال الفترة المقبلة…

  • اعفاءات جمركية محددة ( zero – for- zero):

نجح الاتحاد الاوروبي في تأمين قائمة اعفاءات متبادلة، في الرسوم (صفر جمارك) لعدد من القطاعات الاستراتيجية. تشمل القائمة، جميع الطائرات المدنية وقطع غيارها، وهو تطوُّرٌ مهم لإنهاء النزاع الطويل بين بوينغ وإيرباص، وكذلك المواد الكيميائية ومعدات تصنيع أشباه الموصلات، علمًا أنَّ التنفيذ ما زال قيد النقاش والتفاوض.

  • الزراعة والمنتجات الغذائية:

واجهت المفاوضات في هذا المجال، تعقيدات سياسية، إذ أصرّت بروكسل على حماية قطاعاتها الزراعية الحسّاسة، وقد أسفر الاتفاق على فتحِ أسواق الاتحاد أمام بعض المنتجات الزراعية الأميركية بشكلٍ محدود عبر نظام الحصص. حافظ الاتحاد الأوروبي على حماية المنتجات الزراعية الأوروبية الحساسة متل ( اللحوم الحمراء، الأرُز، السكّر، والدواجن) التي استثنيت من الإجراءات الجمركية …

  • الطاقة والاستثمارات والاتفاق الدفاعي:

تضمّن الاتفاقُ أيضًا جوانبَ اقتصادية استراتيجية، حيث قدّم الاتحاد الأوروبي التزامات مالية كبيرة لصالح الاقتصاد الأميركي. تعهّد الاتحاد بشراء منتجات أميركية بمبلغ 750 مليار دولار أميركي بحلول العام 2028. تشملُ كمياتٍ ضخمة من الغاز المُسَيَّل (LNG) والنفط والغاز والوقود النووي الأميركي، لتغذية محطات الطاقة الأوروبية.

وبالمقابل، يُوفّرُ الطلب الأوروبي الضخم دفعةً هائلة لصناعة الطاقة الأميركية، كذلك تعهدت الشركات الأوروبية باستثمار 600 مليار دولار في مشاريع داخل الولايات المتحدة حتى العام 2028. كما وافقت دول الاتحاد الاوروبي على شراء كميات كبيرة من المعدات العسكرية الأميركية، ضمن صفقات تسليم ضخمة بالتوازي مع إعلان ترامب، بأنَّ على أوروبا دفع ثمن الأسلحة الأميركية المُرسَلة إلى أوكرانيا .

 

2- الايجابيات الاقتصادية المحتملة للاتحاد الاوروبي :

رحّبت الأوساط الأوروبية المؤيدة للاتفاق بالخطوة، واعتبرتها إنجازًا يمنعُ الأسوأ، وتحقيق بعض المكاسب المهمّة للإقتصاد الأوروبي، وفي ما يلي أبرز الإيجابيات المحتملة:

  • تفادي حرب تجارية شاملة، وتجنّب كارثة اقتصادية كانت وشيكة. فقد جاء الاتفاق قبل أيامٍ فقط، من موعدٍ كان ترامب يُهدّدُ فيه بفرضِ رسومٍ عقابية بنسبة 30% أو أكثر على الواردات الأوروبية بدءًا من شهر آب (أغسطس). وقد لوّح شخصيًا برفع الرسوم حتى 50% إذا لم ترضخ بروكسل لشروطه. لذلك يُنظَرُ إلى الاتفاق على أنه اختراقٌ جنّبَ أوروبا سيناريوًا رهيبًا، كما وصفه مفوَّض التجارة الاوروبي في الاتحاد، وإن الاتفاق يُشكّلُ نجاحًا كبيرًا في مواجهة حرب تجارية محتملة.
  • الاستقرار للشركات الأوروبية:

أكد الجانبُ الاوروبي، أنَّ الاتفاق يوفّرُ درجةً عالية من الوضوح والاستقرار للشركات بعد فترةٍ من التقلّبات، وقد صرّحت فان دير لاين: “إننا نوفّرُ بهذا الاتفاق وضوحًا لشركائنا في أوقات مضطربة، مما يمكنها من التخطيط والاستثمار بثقة. إنَّ توحيدَ الرسوم الجمركية عند 15% كسقفٍ أقصى، ومعرفة أنها لا تتصاعد أكثر، يُعَدُّ مكسبًا مهمّا، إذ يخلق بيئةً يمكن التنبؤ بها للمصنّعين والمصدّرين الأوروبيين في السوق الأوروبية”.

  • تحسين الوصول الى السوق الأميركية:

على الرُغم من انَّ الاتفاق، يتضمّن فرضَ رسوم 15% على معظم الصادرات الأوروبية، إلّا أنه أيضًا يحمل بعض التحسينات، وذلك بدخول السلع الأوروبية إلى السوق الأميركية مقارنة بالبدائل الأسوَإِ، أي من نسبة 5، 27% إلى 15%.

  • الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع واشنطن:

ساهمَ الاتفاقُ في ترميمِ الثقة في التحالف عبر الأطلسي، فقطاعات مثل الصناعات الدفاعية الأوروبية، قد تستفيدُ بشكلٍ غير مباشر من استمرار التنسيق مع الولايات المتحدة. كما أتاحَ الاتفاق الوقت لأوروبا لترتيب أوضاعها الاقتصادية. باختصار، أزال الاتفاق شبحَ أزمةٍ تجارية كبرى عن اوروبا، ووفّر لها أرضيةً أكثر استقرارًا للعمل الاقتصادي في المستقبل.

 

3- السلبيات والمخاطر المحتملة على اقتصاد الاتحاد الأوروبي:

يرى بعضُ المراقبين والمسؤولين الأوروبيين أنَّ كلفة هذا الاتفاق كانت باهظة، وأنه كرّسَ اختلالًا في ميزان القوى لصالح واشنطن .

نعرض في هذا السياق أهم السلبيات والمخاطر التي تلوح في الأُفق من جرّاء هذه الصفقة: يضيف منتقدو الاتفاق إنَّ ما حدث، يُعتَبَرُ بمثابة عقدِ إذعانٍ أوروبي للإملاءات الأميركية تحت التهديد. فقد قدمت أوروبا تنازلات جوهرية في مجال التعرفة الجمركية والاستثمار وفتح الأسواق مقابل مكاسب محدودة لتجنّب السيناريو الأسوَإِ.

  • مخاطر الرسوم على الصناعات الأوروبية:

لا تزال الرسوم الجديدة مرتفعة وذلك يؤثر سلبًا في عودة القطاعات الاوروبية. ففَرضُ تعرفة 15% يعني ارتفاعَ تكلفة المنتجات الأوروبية في السوق الأوروبية كذلك تقليص فرصها للتنافس مع الخارج.

  • الكلفة المالية المباشرة على اوروبا:

يُحمّلُ الاتفاقُ الاتحاد الأوروبي إلتزاماتٍ مالية هائلة قد تُشكّلُ نزيفًا للأموال والاستثمارات نحو الخارج. فتعهُّدُ شراء الطاقة بـ750 مليار دولار خلال 3 سنوات، يُعتبَرُ نزيفًا للميزانيات والشركات الأوروبية. وكذلك ضخّ استثمارات بـ600 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، مما يؤدّي عمليًا إلى استثمار هذه الاموال خارج أوروبا.

  • انقسامات داخلية في الاتحاد الأوروبي:

أبرزَ الاتفاقُ بعضَ الخلافات في الموقف الأوروبي الموحَّد، قد تكون لها تبعات سياسية واقتصادية، حيث أيدت ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا الاتفاق على مضض، باعتباره الخيار الوحيد المتاح. .

خرجت فرنسا بقيادة رئيس الوزراء فرنسوا بايرو بانتقاداتٍ لاذعة، ودعت بصراحة الى تفعيل “أداة مناهضة الإكراه الأوروبية“، وهي التي تسمح للاتحاد الاوروبي بالرد على الضغوط الاقتصادية من دول أخرى بأساليب غير تقليدية. وقد يواجه الاتفاقُ بعضَ العقبات لتصديقه في البرلمانات الأوروبية، ومع ذلك فإنَّ الخيارات تظلُّ محدودة إزاء الاتفاق.

في المحصلة يمكن وصف ردود الفعل الأوَّلية التي تلت الاتفاق، بأنها مزيد من الارتياح والتوتر، وذلك لمنع الحرب التجارية الآتية. أما التوتر فيعود الى الشعور بالأسى لعدم التوازن في الاتفاق، وذلك لصالح الولايات المتحدة . أما التصريحات الرسمية فجاءت بين مباركة ومعارضة للاتفاق، مما ينذر بأن الفترة المقبلة قد تشهد تجاذبات داخل الاتحاد الأوروبي، في كيفية المضي في تطبيق الصفقة وتخفيف آثارها السلبية على الاتحادات الاوروبية.

تعتبر اساليب الرئيس الأميركي ترامب مقاربة جديدة طارئة على العلاقات الدولية. فلم يشهد الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه حربًا تجارية معلنة من الولايات المتحدة، وذلك بأسلوب الهيمنة وفرض الشروط القاسية.

وقد بينت القيادات الأوروبية عجزها عن مقاومة سطوة ترامب في المجال الاقتصادي والسياسي مما يمكن تصنيف الاتفاق التجاري بمثابة عقد إذعان.

* السفير يوسف صدقه هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى