مصيرُ العالم والإرهاصاتُ المُقلِقَةُ!

الدكتور فيكتور الزمتر*

“النظامُ العالميُّ” (World Order) أشبهُ بعقدٍ دوليٍّ، إطارُه العام قائمٌ على جُملة مواثيق ومبادىء وأعرافٍ، مُستنبَطَة من عُصارة الفكر السياسي، ومُهمَّتُه العملُ كناظمٍ لارتضاء غالبيةُ الدُوَل الإهتداء بتلك المُسلَّماتٍ، في علاقاتها مع نظيراتها في الأُسرة الدولية، على مدى زمنيٍّ قد يمتدُّ لعقودٍ طويلةٍ.

تجاربُ التاريخ تُظهرُ أنَّ ولادةَ هذا النظام، كمرجعيةٍ دوليةٍ، غالبًا ما تحصلُ غداةَ مواجهةٍ عسكريةٍ مُدمِّرةٍ، أو اضطرابٍ سياسيٍّ أو تطوُّرٍ ثوريٍّ أو إيديولوجيٍّ. على أنَّ الغرضَ من هذه المرجعية الدولية يبقى نُشدانَ السلم، وإرساءَ قواعد الإستقرار.

بدأت معالمُ النظام الدَولي مع “صُلح وستفاليا”، في العام 1648، الذي أرسى مبدأَ سيادة الدُوَل، “State Sovereignty”، في أوروبا، مركز العالم في ذلك الوقت، عقب إنتهاءِ حروبها الدينية والتوسُّعية، على أُسُسٍ وطنيةٍ وقوميةٍ.

وفي الزمن المُعاصر، قد يكونُ توماس وودرو ويلسون، الرئيسُ الأميركي الأسبق (1913-1921) أوَّلَ من أطلقَ مُصطلحَ “النظام العالمي”، في سياق تسويق مبادئه المثالية الأربعة عشر، لبناء السلام الدولي، القائم على العدل والتضامن، من خلال تأسيس “عُصبة الأُمم” (League of Nations). ومع دخول مبادئ هذه العُصبة حيِّز التنفيذ، اعتبِرَ العالمُ أنَّه دخلَ مرحلةَ نظامٍ عالميٍّ جديدٍ، قائمٍ على مبادئ التعاون وعدم الإعتداء، واحترام حدود الدول وسيادتها.

إلَّا أنَّ النظامَ العالميَّ الجديدَ لم يدمْ سوى عقدين من الزمن، بسبب خطَإِ الحلَفاء في إذلال ألمانيا المنهزمة وعزلها، وتركها تتخبَّطُ بدمارها وديونها وانهيار عُملتها. وجاءت أزمةُ “الكساد الكبير” (Great Depression)، التي بدأت في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1929، مع انهيار سوق الأسهم الأميركية، لتُفاقمَ الوضع الإقتصادي الألماني. وهذا ما هيَّأَ الظروفَ لوصول النازية، المؤمنة بالدولة القومية وبالبُنية العسكرية، إلى الحكم. فسارعت إلى التفلُّت من العقوبات، مُتمرِّدَةً على شرط عدم العسكرة، من خلال بناء جيشٍ جرّارٍ، أوصلها إلى الحرب العالمية الثانية (1939-1945).

انتهت الحرب العالمية الثانية على جُملة مُستجدّات، إبتداءً بهزيمة دُوَل المحور، (ألمانيا، اليابان، إيطاليا) وتقاسُم ألمانيا، وانحسار النفوذين البريطاني والفرنسي، لمصلحة الولايات المُتحدة والإتحاد السوڤياتي. ومع حلول “مُنظَّمة الأُمم المُتحدة” مكان “عُصبة الأُمم”، بدأ نظامٌ عالميٌّ جديدٌ، بزعامةٍ ثُنائيةٍ بين واشنطن وموسكو.

أحسنَ الحُلَفاءُ المُنتصرون في الحرب العالمية الثانية بالإستفادة من تجارب الحرب العالمية الأُولى، بحيثُ لم يُقصوا دُوَلَ المحور المهزومة، بل عملوا، بوصاية الولايات المُتحدة، على احتضان تلك الدُوَل، سياسيًا واقتصاديًا وعُمرانيًا ودفاعيًا، من خلال “مشروع مارشال” الإعماري، وحلف شمال الأطلسي (الناتو) الدفاعي.

إلّا أنَّ “الوسواسَ الخنّاسَ” بدأَ “يُوسْوِسُ ويُوغِرُ في صُدور” الغرب الأميركي الأوروبي والشرق السوڤياتي، ما أدّى إلى نشوب “الحرب الباردة”، التي، لحُسن الحظّ، لم تتحوَّلْ إلى ساخنةٍ، بفضل “الردع النووي”. ولم يُفلحْ ميثاقُ الأُمم المُتحدة في رأب الصدع بين المُعسكرَين، حيث أدَّى الإرتيابُ إلى سباقِ تسلُّحٍ وحملات تجسُّسٍ وحروبٍ بالواسطة… لغاية 26 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1991، تاريخ تفكُّك الإتحاد السوڤياتي، وانفراط عقد “حلف وارسو”.

مع هذا الحدث الكبير، انبلَجَ نظامٌ عالميٌّ جديدٌ آخرٌ، بعد أُفول النظام المُنبثق عن الحرب العالمية الثانية. وإذا اتصفَ هذا النظامُ العالمي الجديد بآحادية الزعامة الأميركية، فقد شهدَ العالمُ، خلال العُقود الثلاثة والنصف الماضية، جُملة تحوُّلاتٍ نازعت تلك الزعامةَ الآحاديةَ، وأبرزت انبعاثَ الصين المُبْهِر وعودة الإتحاد الروسي إلى المُنافسة على استعادة شراكته في كعكة الزعامة العالمية.

وما زادَ في تعقيد العلاقات بين الشرق الآسيوي والغرب الأوروبي الأميركي، جُنوح هذا الأخير إلى مدِّ “مداه الحيوي” إلى أسوار الكرملين، بعد ضمِّ غالبية جمهوريات “حلف وارسو” إلى “حلف الناتو”، بالرُّغم من الوعود الأميركية بعدم التوسُّع الغربي شرقًا، “ولو لإنشٍ واحدٍ”.

عاملٌ آخرُ دخل على خطّ الكباش الشرقي-الغربي، تمثَّلَ بتصميم خُصوم الولايات المُتحدة، على خوض معركة إنزال الدولار الأميركي عن ناصية التداول الدولي. وهذا، بحدِّ ذاته، تحدٍّ يقضُّ مضجعَ واشنطن، المُسرِفة بطباعة الدولار بدون مقابل ذهبي. ولولا ارتكاز الدولار على قوَّة الإقتصاد الأميركي، لأضحى دولار “العم سام” مُجرَّدَ عُملةٍ ورقيةٍ، لا تساوي قيمة الورقة التي طُبِعَت عليها.

للتذكير، سبقَ لاتفاقية “بريتون وودز” (Bretton Woods)، المُبرَمة في 22 تموز (يوليو) 1944، أنْ ثبَّتَت العُملات الأجنبية مقابل الدولار، على مُعدَّل خمسة وثلاثين دولارًا مقابل 31.1 غرام من الذهب. استمرَّ العملُ بهذه المعادلة حتّى العام 1971، تاريخ إلغاء الرئيس الأميركي الأسبق، “ريتشارد نيكسون”، “التحويل الدولي المُباشر من الدولار الأميركي إلى الذهب”؛ حيثُ أُطلقَ على هذا التحوُّل الكبير مُصطلح “صدمة نيكسون” (Nixon Shock).

ما تقدَّمَ أعلاه، لا يُظهرُ أنَّ العالمَ بخيرٍ، وسطَ حال الإنقسام وجموح التسلُّط وسياسة “الأنا أو لا أحد” وانتفاء روح التعاون بين الشعوب والأُمم. ففي الشرق الأوسط، فشل الرُسُلُ والأنبياءُ بحمل أحفاد إبراهيم على التعايُش بسلام. وفي الشرق، من كشمير إلى الكوريتين إلى اليابان وبحر الصين، ودُرَّته تايوان، ما تزالُ الخصوماتُ تُهدِّدُ الإستقرار، وتستولدُ الأحلافَ والعسكرةَ.

أمّا في أوروبا، وَلَّادة الحروب العالمية، يُخشى أن يُعيدَ التاريخُ ذاته، فيستبدلُ صربيا (1) وبولندا (2) بأوكرانيا، حيث تدورُ رحى حربٍ ضاريةٍ بالوكالة بين الروس والغرب الأوروبي الأميركي. آخرُ فصول هذه الحرب، توجيهُ الرئيس دونالد ترامب، يوم الثلاثاء الفائت، ما يُشبهُ الإنذارَ “العرقوبي” إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين، مُمهلًا إيّاه عشرة أيّامٍ للتجاوب مع دعوته لوقف إطلاق النار في حرب أوكرانيا، قبل أن يلجأ إلى خياراتٍ تصعيديةٍ ضدَّ موسكو. هذه الدعوةُ- الإنذارُ صدرت على وقع قرقعة طبول العسكرة الأُوروبية، ما يُنذرُ بمواجهةٍ عسكريةٍ، يُخشى أن يكونَ مِسكُ ختامها مُرًّا.

ومع استمرار القلق من تجذُّر الحقد في النفس البشرية المريضة، يحدونا الأملُ بأنَّه ما زال على هذه الفانية بعضُ الحكمة، لابتكار مُقارباتٍ تُقلِّصُ الفجوات. فالبشريةُ بحاجةٍ إلى نقاهةٍ لا إلى مزيدٍ من الجراح، إلى السلام لا إلى مزيدٍ من الآلام!

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.

 

هوامش

(1)- مقتلُ ولي عهد النمسا في صربيا، في العام 1914، أشعلَ الحربَ العالميةَ الأُولى.

(2)- غزوُ هتلر لبولندا، في العام 1939، أشعلَ الحرب العالمية الثانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى