“ما هكذا تُورَدُ الإبَلُ”، يا عَرَب! (عفوًا، يا سعد)

الدكتور فيكتور الزمتر*

من ثوابت هذا الكون الفريد، خُضوعُه، بما فيه وبما عليه، إلى سُنَّة التحوُّل والتطوُّر، فعلًا وتفاعُلًا، على قدر ما في الطبيعة من قوى لا تقوى عليها قوى البشر، وبقدر ما في طباع البشر من طاقةٍ على التحمُّل والتعايُش، وعلى الفعل والتفاعُل مع تلك القوى الطبيعية.

على هذا القياس، لا مفرَّ من التسليم بأنَّ الممالكَ، بقيامها، تسلكُ مسارَ النشوء والفُتُوَّة والكهولة، قبل أنْ تشيخَ وتندثرَ، مُفسِحةً المجالَ لقوَّةٍ صاعدةٍ. وعليه، ليس بوِسْع العالم العربي أنْ يشذَّ عن هذه القاعدة الثابتة، حيث لا يُستبعدُ أنْ تكونَ تجاعيدُ الشيخوخة قد أضحت باديةً على مُحيّاه المُنهَك. وإذا جازت مُقارنةُ بعض مُسبِّبات هشاشته وعدم استقراره بما عانته أوروبا، في القرون الوسطى، زمن الإقطاع والإنقسام العرقي والمذهبي، فلا بُدَّ له من أنْ يمرَّ بما يُشبه المحطّتَين التاريخيَّتَين الِمفصَليَّتَين، اللَّتين عرفَهما العالمُ الأوروبي، واللَّتين أفضيتا إلى ما هو عليه اليوم من استقرارٍ سياسيٍّ وانتظامٍ مؤسَّساتيٍّ وتقدُّمٍ تكنولوجي.

فللتذكير، سبقَ لأوروبا أن أنهت صراعاتها المذهبية والإقطاعية والسياسية، عَبْرَ “صُلح وستفاليا” (24 أُكتوبر 1648)، ودعَّمت بنودَ هذا الصلح في “مؤتمر ڤيينّا” (1814-1815)، ما أرسى توازنَ القوى في أوروبا. هذا مع الإشارة إلى أنَّ المراحلَ المِفصليةَ في حياة الأُمم والشعوب، تستوجبُ قادةً رؤيويين من قماشة رجالات الدولة، ورُوّاد الإصلاح الديني والدُنيوي، ورُعاة السياسة المدنية العلمانية وعُتاة علوم الإجتماع والقضاء والقانون والإقتصاد.

فانطلاقًا من الإنقسام المذهبي كقاسمٍ مشترك بين العالم العربي (سُنّي وشيعي) والعالم الأوروبي (كاثوليكي وبروتستانتي)، يتوجَّبُ على العالم العربي، والإسلامي استطرادًا، لتجاوز عُقدة وِراثة “أهل البيت”، أنْ يمرَّ بمرحلةٍ مطهريَّةٍ يتركُ فيها الخلافَ الفقهي جانباً، اطمئنانًا منه لانتماء المذهَبَين إلى العائلة الدينية الواحدة، وأن ينصرفَ إلى بناء الأوطان، على قاعدة “الدينُ لله والوطنُ للجميع”.

لقد نجحَ العالمُ العربي، بعد الإستقلال، في إقامة دُوَله لكنَّه فشلَ في بناء أوطانه، التي لُوِّنَت بأطيافِ الأعراق والطوائف والمذاهب. وكان أحرى به أنْ يبني أوطانَه على أساسِ المُواطنة المُتساوية بالحقوق والواجبات، بدون تمييز. لذلك، لا عَجَبَ إنْ بدت غالبيةُ الدُوَل العربية مُشبعةَ الجينات بمشاريع الفرز والتقسيم، الآيلة إلى قضم حدودها واندثارها.

إنَّ مُراجعةَ التعديلات التي أُدخلت على خرائط حدود الدُوَل، منذ نهاية الحرب العُظمى (1914-1918) لتاريخه، كافيةٌ لأخذ ما تتداولُه التقاريرُ من أحاديث حول إعادة تشكيل الشرق الأوسط على محمل الجدّ. فإعادةُ التشكيل إنَّما هي مُجرَّدُ تعبيرٍ مُنمَّقٍ، يستبطِنُ العبثَ بالحدود القائمة، بما يُرضي شهيةَ المُتسلِّط والمُهَيْمِن. وبالرُّغم من تشكيلِ مُنظَّماتٍ دوليةٍ لتثبيت الإستقرار والسهر على الأمن الدولي، لم تنجح “عُصبةُ الأُمم” (1919) ولا مُنظّمة الأُمم المُتحدة (1945) بلجم جُموح الدُوَل الطامعة على التسلُّط على ما لدى غيرها، استعمارًا كان أو انتدابًا أو قضمًا أو اجتياحًا.

إنَّ ما أفرزته نهايةُ الحرب من تفكُّك دُوَلٍ كبرى ونُشوء أُخرى، قد ينسحبُ، حاليًا، على بعض الدول العربية، المُهدَّدة بمخاطر كيانيةٍ جدِّيةٍ، من فلسطين إلى العراق، مُرورًا بالأردن ولبنان وسوريا. فمع تهاوي الدُوَل، جرّاء تصدُّعها الداخلي، تتحفَّزُ شهيات الطامعين لمزيدٍ من العبث بالحدود. فها هو الربعُ الأوَّلُ من الألفية الثالثة يتمخَّضُ، عربيًا، عن الربيع العربي، الذي مزَّقَ ليبيا واليمن وسوريا. كما انفصلَ جنوب السودان (2011) عن السودان الأُم، وسعى تنظيمُ “داعش” إلى إقامة “الدولة الإسلامية” بين العراق وسوريا. ومع كتابة هذه السطور، يُسفَكُ الدمُ الفلسطيني، منذ واحد وعشرين شهرًا، مَنعاً لإعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزَّة.

فقطارُ التغيير، في الشرق الأوسط، تقودُه إسرائيل المُهَيمِنة بوتيرةٍ سريعةٍ، مُستفيدةً من انتصاراتها على محور المُمانعة، للعبث بحدود مُحيطها الجنوبي والشمالي والشرقي، بدليل مُجاهرتها، بلا خجل ولا وجَلٍ، بعزمها على البقاء في قطاع غزَّة وتهجير سكانه وسكان الضفة الغربية، وعدم اكتفائها باحتلال الجولان وضمِّه، بل باحتلال المنطقة العازلة في مرتفعاته، وِفقَ اتفاق فصل القوّات، في العام 1974، وإبقائها على احتلال جُملة تِلالٍ في جنوب لبنان.

وعليه، على الدُوَل العربية المعنية بالمخاطر الجادَّة المُحدِقة بمصائرها، أن تُجري مُساءلةً جدّيةً حول مسؤولية حُكّامها، عمّا آلت إليه أحوالُها من وضعٍ مُذزٍ، نتيجةَ قِصر النظرِ والجهل القاتل والتعصُّبِ البغيض والإنحلال الوطني، بدل الإكتفاء بإلقاء المسؤولية على إسرائيل. فالحاجةُ أضحت مُلِحَّةً لإعادة النظر بمقاربات العرب لقضاياهم المصيرية، بعد أنْ تفشّى السُمُّ الزُعاف في جسم العروبة، بدون أنْ يُوفِّرَ قلبَها النابض. وغدا الحُكمُ، الطامحُ إلى إقامة العدل ورفع التمييز بين مُكوِّنات الوطن، عاجزًا عن لجم غريزة الحقد والعداوة، التي عاثَت فسادًا وذبحًا وكراهيةً، في طول البلاد وعرضها. وأصبحَ التساؤُلُ مشروعًا حول منزلة العالم العربي في مآثر الأُمم الخلّاقة، لجهة مساهماته في مجالات العلم والترقي، بعد أنْ أصبحَ مُجرَّدَ مُستهلكٍ نَهِمٍ لِعُصارة الفكر الريادي، بينما هو مُستكينٌ لإرث التآويل والأضاليل والأباطيل، الخارجة عن صفاء الإيمان الحنيف.

إنَّ موقفَ إسرائيل ممّا يجري في سوريا مكشوفٌ، لا يخفي لَعبَها على الأوتار العرقية والطائفية والمذهبية، لتحقيق المزيد من الشرذمة. فسوريا الغارقةٌ في كفكفة دموع الإنقسام، وتضميد الجراح، بعد ما يقربُ من عقدٍ ونصفٍ من التذابُح الأهلي، تبدو لُقمةً سائغةً لتحقيق إسرائيل المزيد من مكاسب قضم الأراضي، في الزمن الضائع. فما تدَّعيه إسرائيل عن حماية الأقليات، هو ذرٌّ للرَّماد في العيون، وطعنةٌ نجلاءُ في جسد سوريا النازف أساسًا.

لقد قيلَ، أخيرًا، الكثيرُ عن اتصالاتٍ سوريةٍ-إسرائيليةٍ، برعايةٍ أميركيةٍ، راوحت تقديراتُها بين التطبيع، كحدٍ أقصى، وترتيبات أمنيةٍ، كحدٍّ أدنى، تبدأُ بإقامة منطقةٍ عازلةٍ جنوب الجولان، بانتظار التطبيع الحتمي عند نضوج الظروف الإقليمية.

أمّا على الصعيد اللُّبناني، فما جرى ويجري، بين لبنان وإسرائيل، يندرجُ ضمن المُخطَّط الصهيوني، الهادف إلى مدّ حدود الكيان الإسرائيلي الشمالية، بما يضمنُ للكيان الإسرائيلي مصادرَ المياه. وللتذكير بالتاريخ، تقدَّمَ حاييم وايزمن، رئيسُ الوفد الصهيوني إلى مؤتمر الصلح في “فيرساي”، في العام 1919، بمِذكَّرةٍ اقترحت رسم حدود الدولة اليهودية الشمالية بعُمق أربعين ميلًا. هذه المُطالبة، قبل قُرابة نصف قرنٍ على قيام الدولة اليهودية، تعني قضم ثُلث الأراضي التي رافعت الوفودُ اللُّبنانيةُ الثلاثة إلى مؤتمر الصلح، لمنحها للكيان اللُّبناني العتيد.

والشيءُ بالشيء يُذكرُ، فقد كشفت إسرائيلُ، أواخر المواجهة العسكرية مع لبنان، العام الماضي، عن مطلبها بإخلاء جنوب لبنان، داعيةً السكان إلى مغادرة مساكنهم إلى شمال نهر الأُوَلي، أي بعُمق أربعين ميلًا عن حدودها الشمالية. وهذا إنْ عنى شيئًا، إنَّما يعني تنفيذَ مطلب آبائها المؤسِّسين، في العام 1919، ليسَ لرسم الحدود الشمالية بالإقتراح، بل بالحديد والنار، هذه المرَّة، وعلى حساب الدموع والدماء اللُّبنانية.

يُستفادُ ممّا تقدَّمَ، إنَّه لا يُمكنُ للعالم العربي مُجابهةُ إسرائيل، بعقلية الإرتجال وردَّة الفعل وإدارة الظهر، بل بما يتماهى مع عقليتها المنهجية، القائمة على إيمانها المُطلق بأنَّ قضيتَها قضيةٌ وُجودية، تستوجبُ وحدةَ وتضحيةَ أبنائها، في الداخل وما وراء البحار، وتسخيرَ نُبوغِهم في استنباط الإفكار والأساليب للفتك بالمُحيط المُعادي، بدون رحمةٍ أو تسامُح.

ولكن ، لبلوغ هذا المُستوى من النِزال العادل، أمامَ العرب مشوارٌ طويلٌ من التنشئة والتأطير التربوي والعلمي، لإعداد الأجيال الطالعة للغَرفِ من فضائل السلَف الصالح، لجهة التشبُّع بفضائل الأُخوَّة والسماحة والوحدة، لا الخصومة والحقد والتحارُب، بقدر التحرُّر من تُرَّهات الماضي الآسر، والإقتناع بأنَّ “العلمَ نورٌ ومصدرُ هدايةٍ وإرشادٍ، بينما الجهلُ ظلامٌ وضياعٌ”.

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى