هل انتَهَت وَظِيفَةُ إيران في النظامِ الدولي؟
محمّد قوّاص*
تَشتَبِهُ إيران بحصولِ تَغييرٍ عميق في النظام الدولي. دليلُ طهران أنَّ ذلك النظام يستغني عن دورِ ووَظيفةِ الجمهورية الإسلامية منذ قيامها في العام 1979. وَدّعَت إيران نظام “الحرب الباردة” الذي أتاح لنظامها العبور إلى السلطة، وتعايشت في كَرٍّ وفَرٍّ مع نظامٍ جديدٍ قادته الولايات المتحدة، فناكفتهُ تارةً، وتماهَت معه تارةً أخرى، وقدَّمت خدماتٍ من أجله طورًا. استَخدَمَت إيران السُبُلَ التي نجحت دائمًا، وهي تستنتجُ أنَّ سُبُلَها نفسها صارت مُتقادمة عَصِيّة على أيَّ نجاح.
تقدّمت إيران بـ”ثورتها” عام 1979 واعدةً بتصديرها إلى المنطقة في وقتٍ كانَ صراعُ الغربِ ضدّ الشرق على أشدّه لا سيما ضد الاتحاد السوفياتي. لاحقًا لم تكن العواصم الغربية تَجِدُ في حُكمِ الملالي في طهران خطرًا في وقتٍ كان الساسة الغربيون يحجّون إلى أفغانستان في أيام الاحتلال السوفياتي لالتقاطِ الصور مع “المجاهدين”. وحين تَوَسّعَ حضورُ تلك “الثورة” في لبنان واحتاجَ رسوخها إلى تفجير السفارة الأميركية ومَقرَّي المارينز والوحدة الفرنسية في العام 1983، حملَ هذا الغرب جنوده وانسحبَ أمام التقدُّم الإيراني.
كان رونالد ريغان الأميركي وفرانسوا ميتران الفرنسي ومارغريت ثاتشر البريطانية آنذاك يَجدونَ الشرَّ في الإمبراطورية السوفياتية ولا يجدون في النظام الذي أرساه الإمام روح الله الخميني، العائد إلى بلاده من فرنسا بتسهيلاتٍ أميركية، إلّا عاملًا دينيًا مُشاكِسًا لنظام “الإلحاد” في موسكو. وطالما أنَّ الحربَ رُغمَ برودتها مُستَعرَة ضد العملاق الأحمر، فيجوزُ التعايشُ مع واقع جمهورية الخميني وطموحاتها التصديرية.
استفادت إيران من لحظةٍ تاريخية كتلك اللحظة التي وَفّرت ظروفَ ولادة نظامها الإسلامي. باتت طهران في مناخات ما بعد “غزوة نيويورك” في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، حاجةً ضرورية للولايات المتحدة الجريحة. وَجَدَ مُنَظِّرو المحافظين الجُدُد المحيطين بالرئيس جورج بوش (الإبن) في إيران عنوانًا واحدًا للتحالف مع الشيعية السياسية ضد تلك السُنيّة السياسية التي ارتكبت جريمة نيويورك. لم يرمش لطهران جفنٌ في التقاط تلك اللحظة، مُتَطَوِّعةً بالعَونِ الكامل لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان (2001) ونظام صدام حسين في العراق (2003).
تأكّدَ دورُ إيران داخل النظام الدولي ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وخصوصًا ما بعد سقوط البُرجَين في نيويورك. تولّت إيران مَدَّ ثورتها وزرعَ الأذرع في المنطقة من اليمن إلى لبنان مرورًا بغزّة والخليج والعراق وسوريا تحت نظر، وربما رعاية، تلك الولايات المتحدة التي تقودُ ذلك “العالم الحر”. لم تكن إسرائيل بعيدة من تخادُمٍ جرى بين طهران والغرب. غَضَّ الرئيس الأميركي باراك أوباما الطرفَ عن ملفّات إرهاب وانخراط في منظمّاتِ إجرامٍ في العالم تورّطت بها طهران وفصائلها التابعة، وكانت أجهزة الأمن الدولية تُحقّقُ بها على نطاقٍ واسع. أُغلقت تلك الملفات من أجل ولادة الاتفاق النووي الشهير في فيينا في العام 2015.
مَن يُراقبُ ردودَ الفعل الحديثة الصادرة عن طهران يستنتجُ ذهولًا من “خيانة” ذلك الغرب لوظيفةٍ إيرانية حَظِيَت دائمًا بصمتٍ يوحي بالرضا. والأرجحُ أنَّ العالمَ قد تَغيّرَ بَعدَ حربِ أوكرانيا و”طوفان الأقصى”، وتَطوّرَ التناقُضُ مع الصين وعودة الترامبية بنسخةٍ محدثة. لم تعد قواعد العلاقات الدولية تجدُ للنظام الإيراني وظيفةً ودورًا مُلائمَين وإن لمّحت تلك القواعد بتمديد صلاحية ذلك النظام بـ”تغيير سلوكه”. تستنجُ طهران تلك الحقيقة بارتباكٍ بعدما داهمتها أثناء الحرب الأخيرة مواقف الصين وروسيا المُتماهية تمامًا مع قواعد العالم الجديدة.
من يتأمّل مواقفَ طهران إثر تلك الحرب، وتخبُّطَ أعذارها لتأخير العودة إلى التفاوض، والترويجَ لقطيعةٍ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والالتزامات المحيطة بها، وفُقدانَ رشاقةِ التعامُل مع الواقع الجديد، يستشعرُ اقتناعًا في إيران بأنَّ هذا العالم يستغني عن وظيفتها في النظام الدولي، وأنَّ إسقاط النظام أو ما يشبه ذلك قد يكون قرارًا قد اتُّخِذَ فعلًا قد تظهر أعراضه الحادة بعد أَجَل. وكما إنَّ هناكَ لحظةً تاريخية للولادة، هناكَ لحظةٌ أُخرى للاندثار حتى لو جاءَ بطيئًا.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).