ماذا وراء تعميق العلاقات العراقية-الأذربيجانية في مجالَي الطاقة والديبلوماسية؟

يُظهرُ النمو السريع للعلاقات بين العراق وأذربيجان كيف أن الانقسامات المتحجّرة التي كانت تُميّزُ المنطقتين في يوم من الأيام تتلاشى.

العراق يواجه أزمة كهرباء بعد القرار الأميركي بإعادة العقوبات على الغاز الإيراني المُستَورَد من قبل بغداد.

عُمود شكري*

تَبعُدُ أذربيجان عن العراق حوالي 643 كيلومترًا، ولكن خلال جُزءٍ كبير من التاريخ الحديث، كان كلٌّ منهما يعيش على الجانب الآخر من العالم. مع انضمام أذربيجان إلى الاتحاد السوفياتي، كانت أجيالٌ من القادة السوفيات والأذربيجانيين توجّهُ تجارة أذربيجان نحو موسكو، فيما كان العراق يُركّز اهتمامه على العالم العربي. عندما استعادت أذربيجان استقلالها في العام 1991، بدأ هذا الوضع يتغيّر، وإن كان ببطء. فقد وسّعت باكو علاقاتها مع تركيا وإيران وإسرائيل، لكن علاقاتها مع العالم العربي ظلّت ثانوية.

إعترفَ العراق باستقلال أذربيجان في 2 كانون الثاني (يناير) 1992، وأقام علاقات ديبلوماسية معها بعد ذلك بوقتٍ قصير. وافتقرت هذه العلاقات إلى حدٍّ كبير إلى الجوهر. بينما افتتح العراق سفارة في باكو على الفور تقريبًا، فقد مرَّ ما يقرب من ربع قرن قبل أن تردَّ أذربيجان بالمثل، على الرُغم من أنَّ البلدَين استضافا وزيري خارجية كلٍّ منهما. زار وزير الخارجية العراقي آنذاك هوشيار زيباري باكو في العام 2011، وقام وزير الخارجية الأذربيجاني إلمار محمدياروف بزيارة بغداد بعد ثلاث سنوات.

أثّرَ الدعمُ الديبلوماسي المُتبادَل لسيادة كلِّ طرفٍ في العلاقات المبكرة: أيّدَ العراق موقفَ أذربيجان بشأن إقليم ناغورنو كاراباخ، وعارضت أذربيجان عمومًا الانفصال الكردي في العراق. بصراحة، ركّزت هذه الجهود في الغالب على كسبِ الدعم والتأييد في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وخصوصًا في ما يتعلق بالتصويت على النزاع بين أذربيجان وأرمينيا. في العام 2024، شكلت وزارة الأمن الوطني الأذربيجانية خليّةً استخباراتية تعاونية مع قوات “الحشد الشعبي” العراقية لتنسيق جهود الأمن السيبراني، وتعطيل شبكات تمويل الإرهاب، وتتبُّع تحرّكات المسلّحين على طول الحدود العراقية-السورية.

ومع ذلك، منذ بداية 2025، أصبحت العلاقات الثنائية بين أذربيجان والعراق أكثر تنوُّعًا. في وقت سابق من هذا العام، وَقّعَ معهد الخدمة الخارجية العراقي و”الأكاديمية الديبلوماسية الأذربيجانية” (ADA) مذكّرةَ تفاهُمٍ لإضفاء الطابع الرسمي على التدريب الديبلوماسي التعاوني. وفي أيار (مايو) الفائت فقط، أعلنت أذربيجان عن خططٍ لإنشاءِ قنصليةٍ في أربيل. هدفها يتجاوزُ مجرّدَ الاعتراف الشكلي بإقليم كردستان العراق؛ تطمح أذربيجان إلى توسيع نطاق أعمالها. ستُساعد القنصلية على إدارة التعاون بين شركة النفط الحكومية الأذربيجانية “سوكار” وشركات النفط المختلفة في كردستان العراق في تطوير واستغلال الحقول الإقليمية. وتأمل “سوكار” أيضًا في التقدُّمِ بعطاءات لعقود إعادة تأهيل مصافي التكرير في بيجي وكركوك التي تضرّرت خلال الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وما تلاها من نهب. وبينما تتمتع بغداد بنفوذٍ كبير على بيجي، تؤثّرُ حكومة إقليم كردستان في سياسات كركوك وصنع القرار فيها.

كما تُساهم السياسة الأميركية من جهتها في تقريب العراق وأذربيجان من بعضهما البعض. فقد أدّت عقودٌ من العقوبات وسوء الإدارة والحرب، إلى جانب التوسّع السريع في كلٍّ من السكان والاقتصاد، إلى معاناة العراق في توليد الكهرباء الكافية لتشغيل شبكته. وهذا جعل العراق يعتمد على الغاز الإيراني. وبينما سعت واشنطن إلى قطع اعتماد العراق على إيران، أشارت السلطات العراقية، مُحقةً، إلى عدم وجود بدائل لديها لأنها لا تنتجُ ما يكفي من الغاز لتشغيل المولّدات. اقترحت الحكومات العراقية المتعاقبة -وقبلت الإدارات الأميركية السابقة- أن يواصل العراق مشترياته من إيران، على أن يُودع ثمنها في حساب ضمان حتى لا تقع الأموال في أيدي الحرس الثوري الإسلامي. ويمكن للسلطات الإيرانية خصم المبلغ من حساب الضمان لتغطية مدفوعات رسوم الحج أو غيرها من النفقات للعراق. في غضون ذلك، عملت السلطات العراقية مع شركاتٍ أميركية على تقنية التقاط الغاز وحرقه، حتى يتمكن العراق من تحقيق منافع اقتصادية من غازه، بدلًا من حرقه فحسب.

لكن الرئيس دونالد ترامب قلب هذا الترتيب رأسًا على عقب. وتساءل عن سبب استمرار حاجة الحكومة العراقية، بعد كلِّ هذه السنوات، للغاز الإيراني، وما إذا كانت صادقة في جهودها لاحتجاز الغاز وحرقه. وأنهى الإعفاءات من العقوبات التي استخدمها العراق ليظل بمنأى عن العقوبات الأميركية عند شرائه الطاقة الإيرانية. وقد أجبر هذا بغداد على البحث عن مورِّدين جدد للغاز الطبيعي. فكّر العراق في البداية في استيراد الغاز الطبيعي المسال من قطر والجزائر، لكن إرسال غاز أذربيجان عبر خط أنابيب يمرُّ عبر تركيا إلى العراق كان أكثر ملاءمة جغرافيًا وماليًا. كما سيدعم هذا الربط توسيع ممر الغاز الجنوبي الذي سينقل الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب عبر الأناضول وخط أنابيب عبر البحر الأدرياتيكي. في غضون ذلك، قد تعكس تركيا تدفق الغاز عبر خط أنابيب باكو-تبليسي-أرضروم للاتصال بشبكة الكهرباء العراقية، مما يعزز الجدوى الاقتصادية للمشروع. وبحلول العام 2030، يمكن أن توفر صادرات غاز أذربيجان 15% من احتياجات العراق من الكهرباء.

وعَكَسَ مؤتمر حوار بغداد للطاقة، الذي عُقد في أيار (مايو) 2025، جدّية العراق في المشاريع الجديدة. وقد أنشأ الحوار مجموعات عمل لمعالجة شروط العقود، وترتيبات النقل، وإجراءات التسعير. ويتمثل الهدف الآن في مواءمة أسعار الطاقة المدعومة في العراق مع أسعار التصدير الأذربيجانية، وإثراء اتفاقيات النقل عبر شبكة خطوط أنابيب بوتاش التركية. تسعى أذربيجان عمومًا إلى التزامات أطول، بينما يُفضّل العراق، الذي تتغير حكومته بوتيرةٍ أسرع، اتفاقيات تتراوح مدتها بين ثلاث وخمس سنوات. وإذا تمكنت الحكومتان من التوصل إلى اتفاق، فقد يستقبل العراق شحنات غاز تتراوح بين خمسة وسبعة مليارات متر مكعب بحلول العام 2027. إلّا أنَّ تجارة الكهرباء قد لا تزال متأخرة، لا سيما في ظل ضعف البنية التحتية للنقل في كردستان العراق.

وقد تتفاوض القنصلية الأذربيجانية الجديدة أيضًا مع إيران للمساعدة على تلبية الطلب: إذ تتبادل أذربيجان الغاز أصلًا مع إيران وروسيا وتركمانستان للوفاء بالعقود الأوروبية التي تتجاوز الإنتاج الحالي. بالإضافة إلى ذلك، ستعزز القنصلية نمو التجارة في كل شيء، من التمور والأدوية العراقية إلى صادرات المعدات الأذربيجانية. تعهدت شركة “أزبرومو” (AZPROMO) الأذربيجانية بتقديم 320 مليون دولار أميركي لمشاريع الطاقة الشمسية في العراق حتى العام 2028. في غضون ذلك، انتقلت بغداد من تجاهل القوقاز إلى تقديم الدعم الديبلوماسي لجهود السلام. يضمُّ العراق أقلّيتَين تركمانية وأرمنية، وقد عرض استضافة مفاوضات سلام بين أرمينيا وأذربيجان في النجف في وقت لاحق من هذا العام.

قد لا تصبح أذربيجان والعراق أبدًا الشريكين التجاريين الرئيسَين لبعضهما البعض، لكن النموَّ السريع لعلاقاتهما يُظهر كيف أن الانقسامات المتحجّرة التي ميّزت المنطقتين، بعد أكثر من عقدين من الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين وأكثر من ثلاثة عقود منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، تنهار. يجد العراق شركاء جدد خارج الشرق الأوسط، وتستفيد أذربيجان من أسواق وفرص جديدة خارج تركيا والدول السوفياتية السابقة. ومع ذلك، لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت العلاقات الأذربيجانية-العراقية قادرة على تحمل التغيّرات في الحكم العراقي، على الرغم من أن القوى نفسها التي تدفع بغداد إلى البحث عن بدائل جديدة تلعب لصالح باكو.

  • عُمود شكري هو استراتيجي طاقة ومستشار للسياسة الخارجية مقيم في واشنطن، ولديه أكثر من عقدين من الخبرة في أمن الطاقة وسياسة المناخ والتحولات العالمية في مجال الطاقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى