هل يُمكِنُ إنقاذُ سوريا؟ لماذا تَخفيفُ العقوباتِ لا يَكفي

عندما أعلن دونالد ترامب أنه سيُنهي العقوبات الأميركية، قال إنَّ هذه الخطوة تمنحُ السوريين “فرصةً للعظمة”. وللحفاظ على هذه الفرصة، يجب على إدارته البناء على الزخم الحالي وضمان وفاء الحكومة الأميركية بوعدها – وألّا تُفسِد الجهات الفاعلة في سوريا وفي جميع أنحاء المنطقة العملية.

الاحتفال برفع العقوبات الأميركية في دمشق، أيار/مايو 2025.

ناتاشا هول ونينار فوال*

خلال رحلته إلى الشرق الأوسط في منتصف أيار (مايو)، اتّخذَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطوةً استثنائية. ففي محطّتهِ السعودية من جولته الخليجية التي استمرّت أربعة أيام، أصدر الرئيس تغييرًا جذريًا في السياسة الأميركية تجاه سوريا. أعلن أوّلًا، وَسطَ تصفيقٍ حار في الرياض، أنَّ الولايات المتحدة ستُعلّقُ جميعَ العقوبات المفروضة على البلاد، في الوقت الذي تمرُّ الحكومة السورية بمرحلةٍ انتقاليةٍ صعبة عقبَ انهيار نظام بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) الفائت. وفي اليوم التالي، التقى ترامب علنًا بالرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، وهو مقاتلٌ سابق في تنظيم “القاعدة”، رَصَدَت الحكومة الأميركية مكافأةً قدرها 10 ملايين دولار لمَن يُدلي بمعلوماتٍ عنه قبل أشهرٍ قليلة. وبعد الاجتماع، وَصفَ ترامب الشرع بأنه شابٌ وسيم ذو “ماضٍ قوي”.

بهذه الخطوات المفاجئة، تجنّبَ ترامب ما كان من المرجّح أن يكونَ عمليةَ صُنعِ سياساتٍ طويلة ومُمِلّة في أيِّ إدارةٍ أميركية أخرى. لأشهرٍ عدة، كان العديد من السوريين ومراقبي الشأن السوري قلقين من أنَّ الولايات المتحدة قد لا ترفع عقوباتها أبدًا. وكانت واشنطن فرضت عقوبات على سوريا لأول مرة في العام 1979، عندما أعلنت أنَّ نظامها دولة راعية للإرهاب، ما أدّى إلى حظرٍ على مبيعات الأسلحة وقيودٍ أخرى على الصادرات إلى البلاد. وقد فرض الكونغرس بدوره عقوبات إضافية في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. وبعد اندلاعِ الحرب الأهلية السورية في العام 2011، أضافت كلٌّ من الولايات المتحدة وأوروبا المزيدَ من القيود. كما تمَّ تصنيفُ الجماعات المسلحة داخل سوريا -بعضها مُمَثَّلٌ الآن في الحكومة في دمشق- على أنها إرهابية وبالتالي تظلُّ خاضعةً للعقوبات. وأدّت هذه الإجراءات مُجتمعةً إلى عزل سوريا إلى حدٍّ كبير عن التجارة والاستثمار الدوليين وشكّلت عائقًا رئيسًا أمام التعافي الاقتصادي في البلد الذي مزّقته الحرب.

سوريا بحاجة الآن إلى المساعدة بشكلٍ مُلحٍّ جدًا. يعيشُ أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويحتاج 70% منهم إلى مساعدات إنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وبالمعدل الحالي للنمو، سيستغرقُ الاقتصاد السوري حتى العام 2080 على الأقل ليَصِلَ إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي كان عليه قبل بدء الحرب الأهلية في العام 2011. وتتفاقم الظروفُ الاقتصادية المُتردّية بسبب العنف الطائفي والتوتّرات المذهبية التي اندلعت منذ سقوط نظام الأسد، الذي كانت تُهيمنُ عليه الأقلّية العلوية، واستيلاء “هيئة تحرير الشام” التابعة للشرع، وهي جماعة سنّية متمرّدة سابقة، على العاصمة. وقد وَعَدَ الشرع بحماية الأقليات في سوريا، لكن كثيرين من العلويين والدروز وغيرهم من الطوائف لا يُصدّقون ذلك وغير مقتنعين. وقد أدّى التدخل الخارجي، بما في ذلك من إسرائيل، التي شنّت أكثر من 700 غارة على سوريا واستولت على أراضٍ داخل البلاد، إلى تعميق عدم الاستقرار. وتتزايد كلُّ هذه الضغوط الآن. بعد أيامٍ من إعلان ترامب، صرّح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بأنَّ قرارَ رَفعِ العقوبات جاء بعد أن خلص مسؤولون أميركيون إلى أنَّ الحكومة الانتقالية السورية قد تكون “على بُعدِ أسابيع، وليس أشهرًا، من انهيارٍ مُحتَمَل وحربٍ أهلية شاملة ذات أبعاد ملحمية”.

كان تحوّلُ ترامب غير المُتَوَقَّع بشأن العقوبات هو القرار الصائب، ويمكن أن يساعد سوريا على مواجهة تحدّياتها الحالية. لقد فتح سقوط نظام الأسد الوحشي البابَ أمام مستقبلٍ أفضل للسوريين وللمنطقة. لكن رفعَ العقوبات لم يَكُن كافيًا أبدًا لإبعاد البلاد عن حافة الهاوية. يُعَدّ البدء في رفع العقوبات الأميركية خطوةً أولى مهمة -وهي خطوة عزّزها قرار الاتحاد الأوروبي برفع معظم عقوباته على سوريا- لتهيئة ظروف مواتية للاستثمار الأجنبي الذي تحتاجه سوريا بشدة. يتعيّن على الولايات المتحدة وشركاء سوريا الآخرين الآن إزالة العقبات المُتبقّية أمام الاستقرار والتعافي الاقتصادي، والقيام بذلك بسرعة – بدلاً من ترك الضغوط الداخلية والتنافسات الإقليمية تتسبّبُ في تفكك البلاد.

الفرصة الاقتصادية

اتخذت إدارة ترامب بالفعل بعضَ الخطوات للوفاءِ بوعد الرئيس برفع العقوبات. في الأسبوع الفائت، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة ترخيصًا يرفع فورًا معظم العقوبات الأميركية، بما في ذلك تلك المفروضة على الشرع نفسه، مع أنه لا يلغي تصنيفات الإرهاب الأجنبي، ويمكن إلغاؤه في أيِّ وقت. وفي اليوم نفسه، أصدرت وزارة الخارجية إعفاءً لمدة 180 يومًا من العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر لعام 2019، والذي سيُمكّن الحكومات والشركات والأفراد الأجانب من ممارسة الأعمال التجارية في سوريا.

مع ذلك، فإنَّ الإعفاءات تُعتبَرُ حلًّا جُزئيًا فحسب. فبدونِ رَفعٍ دائمٍ للعقوبات، وهو ما يتطلّبُ في حالةِ عقوباتِ قانون قيصر موافقة الكونغرس، فإنَّ عدمَ اليقين بشأنِ إمكانية عودة العقوبات خلال ستة أشهر قد يُعيقُ تعافي الاقتصاد السوري. قد لا يتراجع بعض المستثمرين المقرّبين من إدارة ترامب أو المُعتادين على العمل في الاقتصادات الخاضعة للعقوبات. لكن العديد من الشركات والمؤسسات الدولية التي تبحث عن مشاريع طويلة الأجل قد تتردّد في الاستثمار. قد تختار اللعب بأمان وتجنُّب العمل في سوريا تمامًا، كما فعل الكثيرون طوال الحرب الأهلية في البلاد.

هناكَ المزيدُ مما يمكن لإدارة ترامب فعله. يُمكن لوزارة الخارجية العمل على رفع تصنيف “هيئة تحرير الشام” كمنظمة إرهابية أجنبية، الأمر الذي يتطلّب التأكُّد من أنَّ الشروطَ الأصلية للتصنيف لم تَعُد سارية أو وجود أسباب أمنية وطنية تستدعي رفعه. وبالمثل، ينبغي على الوزارة أن تسعى إلى رفع تصنيف سوريا كدولةٍ راعية للإرهاب، بناءً على تغييرٍ جذري في قيادة البلاد وسياساتها، إلى جانب ضمانات من القيادة الحالية بأنها لا تدعم الإرهاب حاليًا ولن تدعمه مستقبلًا. بدون عمليات رفع التصنيف هذه، من المرجح أن يكون تخفيف ضوابط التصدير أمرًا صعبًا.

في الوقت الحالي، يُمَكِّنُ تخفيفُ العقوبات دول الخليج والجهات الفاعلة الأخرى من الاستثمار في سوريا. بعد ثلاثة أيام من إعلان ترامب عن العقوبات، وقّعت شركة إماراتية مذكرة تفاهم بقيمة 800 مليون دولار مع الحكومة المؤقتة في دمشق لتطوير ميناء طرطوس السوري وإنشاء مناطق صناعية وتجارية حرة. وقد سددت قطر والمملكة العربية السعودية بالفعل ديون سوريا، مما يسمح للبلاد بالحصول على قروض وتدفقات نقدية من المؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي. يمكن أيضًا إعادة دمج سوريا في النظام المالي العالمي. على سبيل المثال، من شأن إعادة إنضمام البلاد إلى نظام “سويفت” -وهو نظامٌ حيوي لإرسال الأموال بين البنوك، والتحويلات البنكية الدولية، وغيرها من المدفوعات- أن يُسهّل التحويلات المالية وغيرها من المعاملات الدولية.

في ظلِّ نظام الأسد، بالكاد استطاع الاقتصاد السوري الصمود، مدعومًا من إيران وروسيا، وبتجارة المخدرات، والمساعدات الإنسانية. سيسمح رفعُ العقوبات ببدء إعادة الإعمار بجدّية. يمكن إحياء قطاعات النفط والغاز والمواد الخام والتصنيع في سوريا، مما يُولّد إيرادات للحكومة ويُوفّر سبل عيش للعديد من مواطني البلاد. يحتاج قطاع الطاقة تحديدًا إلى الاستثمار؛ فقد أنتجت سوريا ما يقرب من 400 ألف برميل من النفط يوميًا في العام 2010، قبل الحرب الأهلية، ولكن بحلول وقت سقوط الأسد في العام الماضي، انخفض هذا الإنتاج إلى ما بين 40 ألفًا و80 ألف برميل يوميًا. على المستوى الفردي، سيساعد تخفيف العقوبات السوريين المقيمين في الخارج على الاستثمار في بلدهم من خلال تسهيل إرسال الأموال إلى الوطن. لا شيء من هذا التقدُّم مضمون، فلن تكون جميع جهود إعادة الإعمار جذّابة للمستثمرين، كما إنَّ إغلاق إدارة ترامب للوكالة الأميركية للتنمية الدولية يترك فجوةً كبيرة سيحتاج المموّلون الآخرون إلى سدّها. لكن تخفيف العقوبات يمنح سوريا خيارات تتجاوز الاعتماد على دول أخرى خاضعة للعقوبات وعلى الأنشطة غير المشروعة للبقاء.

خصومٌ إقليميون

العقوبات ليست العقبة الوحيدة التي تُهدّدُ بزعزعةِ استقرارِ سوريا. فمنذ إطاحة نظام الأسد، برزت منافسةٌ لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية في هذا البلد المُنهَك. وإسرائيل من أبرز اللاعبين. فقد شنّ الجيش الإسرائيلي مئات الغارات على سوريا واحتلَّ أجزاءً من جنوبها، وغذّت الحكومة الإسرائيلية الانقسامَ الطائفي بزَعمِها أنَّ التوغُّلَ محاولةٌ لحماية الأقلية الدرزية. كما ضغطت إسرائيل على الولايات المتحدة لإبقاء العقوبات على سوريا والسماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية في البلاد. وتوسّطت الإمارات العربية المتحدة في محادثاتٍ سرّية بين إسرائيل وسوريا، وقد صرّحَ الشرع مرارًا وتكرارًا بأنه لا يريد حربًا مع إسرائيل. حتى أنَّ الحكومة السورية أعادت ممتلكات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أُعدِمَ في دمشق في العام 1965 بعد اكتشاف تجسّسه، في بادرة حسن نيّة. لكن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية لا يزال مستمرًّا. ويبدو أنَّ تواصلَ إدارة ترامب مع الشرع قد خفّف من حدة موقف الدولة العبرية. مع تراجع حدة الغارات الجوية الإسرائيلية على البلاد في الأيام التي تلت ذلك. الآن، ينبغي على الرئيس الأميركي أن يُمارِسَ نفوذه بشكلٍ أكبر لكبح جماح العمليات الإسرائيلية التخريبية.

وتدخلت جهاتٌ إقليمية أخرى في هذا الصراع أيضًا، ساعيةً إلى إبرام صفقات استثمارية مع الحكومة السورية الجديدة قد تخدُمُ أو لا تخدم مصالح البلاد في المدى الطويل. في كانون الأول (ديسمبر)، على سبيل المثال، أعلنت تركيا عن خطةٍ للتفاوُضِ على اتفاقية منطقة اقتصادية خالصة مع سوريا من شأنها تحديد الحدود البحرية لمنح كل دولة حقوقًا حصرية لاستكشاف واستغلال الموارد، بما في ذلك النفط والغاز، داخل منطقتها الخاصة. قد تكون هناك فائدة اقتصادية لسوريا في مثل هذا الاتفاق، ولكنه سيؤجّجُ أيضًا النزاعات حول الحدود البحرية القائمة في شرق البحر الأبيض المتوسط، مما يضع سوريا في صراعٍ مع جيرانها.

هناكَ طُرُقٌ يُمكِنُ لتركيا من خلالها أن تلعبَ دورًا بنّاءً أكثر. يمكن للحكومة السورية، في ظلِّ عدم وجود عقوبات عليها، أن تعملَ مع أنقرة على خططها لبناءِ بُنيةٍ تحتية لنقل الطاقة تربط المشرق العربي والخليج، وربما أوروبا. إنَّ المساعدات التركية للجيش السوري قد تردعُ الهجمات التي قد تشنّها المنظمات الأجنبية أو ما يسمى بتنظيم “الدولة الإسلامية”، طالما أنَّ هذا الدعم لا يضرُّ باستقلال سوريا أو يؤدّي إلى تفاقم المخاوف الأمنية للجهات الفاعلة الأخرى، وخصوصًا إسرائيل.

يُثيرُ احتمالُ وقوع صدام إسرائيلي-تركي في سوريا قلقًا بالغًا. ففي آذار (مارس)، أفادت إحدى وسائل الإعلام الإسرائيلية أنَّ الحكومة الإسرائيلية تستعد لمثل هذه المواجهة. وأخيرًا، أجرت إسرائيل وتركيا محادثاتٍ لتهدئة التوتّرات وإنشاء خطٍّ ساخن لهذا الغرض في سوريا. ومع ذلك، مع إعادة بناء الحكومة السورية وقواتها الأمنية، قد تتنافس إسرائيل وتركيا على النفوذ في تلك العملية بطرق لا تصل إلى حدِّ المواجهة العسكرية المباشرة. ومن المرجح أن تكون الحكومة الأميركية دفعت إسرائيل بالفعل إلى التراجع من خلال التواصل مع السلطات السورية المؤقتة ودول الخليج وتركيا نفسها. لكن استمرار الديبلوماسية الأميركية يمكن أن يساعد على ضمان عدم تحوُّل سوريا مرة أخرى إلى ساحةٍ للتنافسات الإقليمية.

لكي تتمكّنَ سوريا من تولّي مسؤولية دفاعها، بما في ذلك تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب الخاصة بها، ستحتاج إلى الموارد الاقتصادية والمساعدة الدولية لإعادة بناء وتوحيد أجهزتها العسكرية والأمنية. في الوقت الحالي، الوضع الأمني ​​هشّ. لا تسيطر “هيئة تحرير الشام” على جميع مناطق البلاد، وتُواجه صعوبة في قيادة بعض المقاتلين في صفوفها. بل إنَّها لا تتمتع بنفوذ كبير على القوى الأخرى، مثل عشرات الآلاف من مقاتلي “الجيش السوري الحر”، الذي يتلقّى توجيهاته من أنقرة أكثر من دمشق. وقد أعادت الميليشيات المُكَوَّنة من عناصر نظام الأسد السابق تنظيم صفوفها على الساحل السوري، ويُعاود تنظيم الدولة الإسلامية” الظهور في الشرق. ولم يزل بعض الجماعات المسلحة الكردية والدرزية متمسّكًا بفكرة الحكم الذاتي في سوريا ما بعد الأسد. وستكون إدارة هذه البيئة الأمنية المُتصدّعة صعبةً من دون دعمٍ خارجي، بما في ذلك التدريب على تخفيف الأذى الذي يلحق بالمدنيين. ويتمثّل التحدّي في بناء قوات أمن وشرطة منضبطة تحمي الشعب السوري بدلًا من ابتزازه. وقد فرح السوريون وهللوا بالتخلص من نقاط تفتيش نظام الأسد، التي كانت تُقام لمراقبة المواطنين وطلب الرشاوى، لكنهم يخشون أيضًا عودة الفساد والعنف في حال تعثّرَ الانتعاش الاقتصادي للبلاد.

الحَوكَمة الرشيدة

هذه المخاوف ليست بلا أساس. فسوريا مُحاطة بقصصٍ تحذيرية عن سوءِ الإدارة بعد الصراع. لقد تَرَسّخَ الفساد في العراق خلال عملية إعادة الإعمار التي أعقبت الغزو الأميركي في العام 2003، وفي لبنان بعد نهاية الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين العامين 1975 و1990. وأثرى عدد قليل من السياسيين ورجال الأعمال نفسه على حساب الخدمات الأساسية والتنمية الاقتصادية لشرائح أوسع من السكان. وأدى فشل الحكومات الانتقالية في تطويرِ اقتصاداتٍ متكاملة إلى تنامي الصراع الطائفي وترك فراغات لملئها من قبل جهات فاعلة غير حكومية. ولا يزال العراق يكافح من أجل تنويع اقتصاده المعتمد على النفط وتعزيز التنمية المستدامة في قطاعَي الزراعة والطاقة، ويعود ذلك إلى حدٍّ كبير إلى الفساد المستشري وتدخُّل إيران والجماعات غير الحكومية في الاقتصاد العراقي. وبالمثل، تعثّرت القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد اللبناني مع تزايُد الاعتماد على الواردات الرخيصة في فترة ما بعد الحرب. وسعى أمراء الحرب الذين تحوّلوا إلى سياسيين إلى مشاريع البنية التحتية التي تعود عليهم بالنفع الشخصي بدلًا من تعزيز النمو الشامل.

تُظهر التجارب السابقة في مجال إعادة الإعمار بعد الصراعات حول العالم أنَّ الشفافية والشمولية في صنع القرار الحكومي هما أفضل ترياق للفساد والركود الاقتصادي وغيرهما من الأمراض الشائعة في الدول التي تتعافى. ومع ذلك، حتى الآن، اقتصرت مطالب واشنطن من الحكومة السورية الجديدة على المسائل الأمنية، مثل طرد المسلحين الأجانب، وأهملت الإصلاحات السياسية والمؤسّسية اللازمة لضمان انتقال سلمي.

هذا خطأ. يجب عدم تجاهل التطلّعات التي ناضل السوريون وماتوا من أجلها. من دون أيِّ ضغوط من الولايات المتحدة -أو من حكومات المنطقة التي تخشى من أن تُثير حركة ديموقراطية ناجحة في سوريا اضطرابات في بلدانها- عزّزَ الشرع سلطته. ولكن إذا تجاهلت الحكومة السورية إرادة السوريين الذين انتفضوا ضد استبداد الأسد، فإنها تُخاطر بإعادة إشعال الصراع وإحياء قوى شريرة مثل تنظيم “الدولة الإسلامية”.

ما يحدثُ في سوريا قد يؤثر في الاستقرار خارج حدودها. ابتداءً من العام 2011، شرّدت الحرب الأهلية السورية ملايين الأشخاص، ما أدى إلى موجةِ نزوحٍ على حدود أوروبا. وكان من نتائج ذلك صعود أحزاب اليمين المتطرّف في جميع أنحاء القارة العجوز، مستغلةً رد الفعل الشعبي ضد المهاجرين لكسب دعم انتخابي كبير. في غضون ذلك، استغلت الحكومة الإيرانية ضعف نظام الأسد لتعزيز نفوذها في العراق وسوريا ولبنان، ما أدى إلى زعزعة استقرار تلك الدول وتعزيز الجماعات المسلحة غير الحكومية. كما إنَّ وضع سوريا كدولة منبوذة في ظل نظام الأسد حال دون اتخاذ خطوات جادة نحو التكامل الإقليمي، من التفاوض على صفقات تجارية إلى بناء خطوط أنابيب غاز جديدة.

بدلًا من تكرار هذا التاريخ، يمكن أن يكون انتقال سوريا بعد الأسد حافزًا للنمو والاستقرار. عندما أعلن ترامب أنه سيُنهي العقوبات الأميركية، قال إنَّ هذه الخطوة تمنح السوريين “فرصةً للعظمة”. وللحفاظ على هذه الفرصة، يجب على إدارته البناء على الزخم الحالي وضمان وفاء الحكومة الأميركية بوعدها – وألّا تُفسِد الجهات الفاعلة في سوريا وفي جميع أنحاء المنطقة العملية. كان رفع العقوبات الخطوة المحورية الأولى نحو انتقالٍ مُستقرٍّ ومثمر في سوريا بعد الأسد. ويجب ألا تكون الأخيرة بالتأكيد.

  • ناتاشا هول هي زميلة أولى في برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
  • نينار فوال هي مديرة برنامج وباحثة مشاركة في برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى