التَواجُدُ المُتنامي للإمارات العربية المتحدة في شمالِ أفريقيا يُقلِقُ الجزائر

الإنهيارَ الديبلوماسي بين الجزائر والإمارات العربية المتحدة يتجاوزُ مجرّدَ خلافٍ ثنائي. إنه مَظهرٌ من مظاهرِ كفاحِ الجزائر لشقِّ طريقها في مشهدٍ إقليميٍّ جديد أكثر عدائية، حيث تلاشى اليقين القديم، ويلوحُ شبحُ الحصارِ في الأفق.

العاهل المغربي الملك محمد السادس: تحالفٌ مهم مع دولة الإمارات بات يقلق الجزائر.

الفاضل إبراهيم*

تشهدُ منطقةُ شمال أفريقيا إعادةَ ترتيبٍ جيوسياسي تُربِكُ الجزائر. فمع تحالفات جديدة، لا سيما التحالف القائم بين المغرب والإمارات العربية المتحدة، تُعيد تشكيل الديناميكيات الإقليمية، تُواجِهُ الجزائر بيئةً غير مألوفة وعدائية على نحوٍ مُتزايد.

يتجلّى هذا التوجُّه بوضوح في مسار علاقات الجزائر مع دولة الإمارات، التي انتقلت من توتُّرٍ طفيفٍ إلى عداءٍ صريح. وقد وَلَّدَ هذا التحوُّلُ بدوره خوفًا ملموسًا من التطويق، وهو ما يُثير قلقًا عميقًا في الجزائر.

في الواقع، يُشيرُ الخلافُ السياسي الأخير، الذي بدا للوهلة الأولى حول اللغة والهوية، إلى توتّراتٍ أعمق مُتأجِّجة. ففي أوائل أيار (مايو)، وخلال ظهوره على قناة “سكاي نيوز عربية” التي تَتّخِذُ من الإمارات مقرًا لها، وَصَفَ المؤرّخ الجزائري البارز محمد أمين بلغيث الهوية الأمازيغية الجزائرية الأصلية المُعتَرَف بها دستوريًا بأنه “مشروعٌ إيديولوجي صهيوني فرنسي بامتياز”. كانَ ردُّ الفعل في الجزائر سريعًا وشديدًا. فالحكومة الجزائرية شديدة الحساسية تجاهَ أيِّ شيءٍ قد يُشجّعُ على الانفصال أو الاضطرابات، لا سيما في مناطق مثل منطقة القبائل -المنطقة الشمالية حيث يتركّز السكان الأمازيغ (البربر)- حيث لهذه المشاعر تاريخٌ طويل. سُجِنَ بلغيث بتهمة “المساس بالوحدة الوطنية”، ووَجَّهَت وسائلُ الإعلام الرسمية الجزائرية إدانةً لاذعة، واصفةً دولة الإمارات بـ”دويلة مصطنعة” تجاوزت كل الخطوط الحمراء (رُغمَ أن “سكاي نيوز عربية” هي محطة تلفزيونية خاصة وليست رسمية).

إنَّ جذورَ المأزق الجزائري الحالي مُتَجذِّرة بعمقٍ في تاريخها. فقد شكّل نضالها الذي دام 132 عامًا ضد الاحتلال والحُكمِ الاستعماري الفرنسي التزامًا قويًا بالسيادة. وبعد الاستقلال في العام 1962، أصبحت الجزائر، عاصمة البلاد، ملاذًا وميدانَ تدريبٍ للثوريين العالميين، وأشهرهم نيلسون مانديلا من جنوب إفريقيا وياسر عرفات من فلسطين، كما كانت مَوطِنًا للمُنظّر السياسي المارتينيكي المُناهض للاستعمار فرانتس فانون. وقد غرسَ هذا الدعمُ الراسخ للجماعات المُؤيّدة للاستقلال شكوكًا عميقة حول التدخّل الأجنبي، والتي استمرّت حتى يومنا هذا.

وقد عزّزَ “العقد الأسود” الذي شهدته البلاد في تسعينيات القرن الماضي، والذي شهدَ حربًا أهلية، عقيدةَ الأمن القومي التي تتسم بحساسيةٍ مُفرِطة تجاهَ خطر التشرذم الداخلي والتلاعب الخارجي. أدّى هذا التاريخ إلى ما وصفه الديبلوماسي الأميركي السابق السفير روبرت فورد بـ”جنون العظمة”، لكنَّ النُخَبَ الجزائرية تعتبره تقييمًا واقعيًا وواضحًا لبيئةٍ دولية استغلالية.

في قَلبِ مخاوف الجزائر الإقليمية يَكمُنُ تنافسها طويل الأمد مع المغرب، والذي يتمحوَرُ بشكلٍ أساسي حول الصحراء الغربية، التي أعلنت الرباط السيادة عليها، حيث كان دَعمُ الجزائر الثابت لجبهة البوليساريو -وهي منظمة شبه عسكرية تشكلت في الجزائر في العام 1073 سعيًا إلى استقلال وحكم ذاتي للصحراء الغربية- حجر الزاوية في سياستها الخارجية. لذا قوّضَ هذا الدعم، المدفوع بالتزام القيادة الجزائرية الإيديولوجي بتقرير المصير، قدرةَ الجزائر على بناءِ علاقاتِ جوارٍ مُستَقِرّة مع الرباط.

تغيّرت الحسابات الاستراتيجية لهذه المواجهة المستمرّة منذ عقود بشكلٍ حاسم في العام 2020 بتوقيع اتفاقيات أبراهام التي طبّعت علاقات المغرب مع إسرائيل. وكمقابل لتوقيع الرباط، اعترفت الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس آنذاك دونالد ترامب، بسيادتها على الصحراء الغربية، مُمثّلةً بذلك انتصارًا ديبلوماسيًا كبيرًا للمغرب وضربةً مُوجِعة للجزائر. وقد دُعِمَ هذا الاعتراف بتأييد فرنسا وإسبانيا لاحقًا لمقترح المغرب بمنح المنطقة حكمًا ذاتيًا محدودًا، باعتباره الحل الوحيد القابل للتطبيق للمواجهة المستمرة منذ عقود. وقد أطلقَ ذلك العنان لطفرةٍ تنموية بمليارات الدولارات في الإقليم، والتي اقترنت بعودة ترامب إلى البيت الأبيض، مما عزّزَ سيطرة المغرب على الصحراء الغربية.

بالنسبة إلى الجزائر، لا يُمثّل هذا الأمر مجرّدَ انتكاسةٍ ديبلوماسية، بل يُمثّل انهيارًا لركيزةٍ أساسية من ركائز مكانتها الإقليمية وتحدٍّ مباشر لمصالحها الأمنية، يُسهّله –في نظر الجزائر- محورٌ عدائي ناشئ.

ويُفاقِم موقفُ الجزائر الراسخ المؤيّد للفلسطينيين من عدائها لهذا التوجُّه الجديد، وهو حجر الزاوية في سياستها الخارجية المتجذّرة في التزامها بتقرير المصير. تُعارض الجزائر بشدة اتفاقيات أبراهام، وترى في التطبيع مع إسرائيل -التي انخرطت أيضًا في علاقاتٍ مع جماعات انفصالية جزائرية مثل حركة تقرير مصير القبائل – خيانة للقضية الفلسطينية، مما يجعل المشاركة الجزائرية أمرًا غير متوَقَّع أبدًأ. وقد أصبح هذا الموقفُ نقطةَ التقاءٍ نادرة بين الحكومة الجزائرية والمعارضة السياسية. فعلى سبيل المثال، عزت لويزة حنون، زعيمة حزب العمال، أخيرًا القطيعة بين الجزائر وأبو ظبي إلى دعم الجزائر الثابت لفلسطين، واصفةً الإمارات العربية المتحدة بأنها “الممثل الرسمي للكيان الصهيوني”.

بعدما كانت دولة الإمارات لاعبًا ثانويًا نسبيًا في الحسابات الاستراتيجية للجزائر، تحوّلت، من وجهة نظر الجزائر، إلى خصمٍ رئيس في هذا التشكيل الجديد. والجدير بالذكر أنَّ الإمارات كانت داعمًا رئيسًا لسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وكانت أول دولة عربية تفتتح قنصلية لها في الإقليم عقب توقيع اتفاقيات أبراهام.

في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات الجزائرية-الإماراتية توتّرًا هادئًا، حيث غطّت العلاقات الاقتصادية على تبايُنِ الرؤى الإقليمية. ولكن مع تنامي صرامة السياسة الخارجية الإماراتية، تضاعفت نقاطُ الخلاف، وبلغت ذروتها في العداء العلني الذي نراه اليوم. في أوائل العام 2025، اتَّهَمَ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أبوظبي علنًا بإثارة عدم الاستقرار في مالي وليبيا والسودان، قائلًا: “حيثما يوجد صراع، يكون مال الإمارات حاضرًا”. ثم وَصَفَ الإمارات بـ”دولة مافيا”، مؤكّدًا عُمق العداء تجاه أبوظبي الذي تشعر به الجزائر حاليًا.

على الصعيد الاقتصادي، اتخذت الإمارات خطواتٍ لتعزيز التحالفات الإقليمية التي زادت من حدّةِ التوترات المغربية-الجزائرية، بدءًا من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة المُوَقَّعة مع المغرب في تموز (يوليو) 2024. وقد أثمرت الاتفاقية بالفعل في شكلِ صفقة مياه وطاقة بقيمة 13 مليار دولار تم الإعلان عنها يوم الاثنين الفائت. لا تَنظُرُ الجزائر إلى هذا الوضع على أنه تعزيزٌ إضافي للمحور المغربي-الإماراتي فحسب، بل أيضًا كتحدٍّ مباشر لمصالحها الاقتصادية الخاصة، لا سيما من خلالِ الضغطِ التنافُسي على صادرات الغاز الجزائرية. ويتجلّى ذلك في التمويلِ المُشتَرَك المُخَطَّط له من قبل الإمارات لمشروع خط أنابيب الغاز بين المغرب ونيجيريا بقيمة 25 مليار دولار، والذي من شأنه أن يسمحَ للمغرب بتوجيه إمدادات طاقة نيجيرية كبيرة إلى أوروبا، مما يؤدي بدوره إلى تحسين أمنه في مجال الطاقة -وهي حاجة ماسة منذ أن أوقفت الجزائر صادرات الغاز إلى المغرب في العام 2021- مع زيادة الدخل من رسوم العبور وترسيخ أهميته الجيوسياسية.

من ناحية أخرى، أصبحت منطقة الساحل، تلك المنطقة الشاسعة التي مزّقتها الصراعات جنوب الجزائر، ساحةً حاسمةً في صراع النفوذ بين الجانبين. وقد انهار دور الجزائر التقليدي كوسيطٍ وضامنٍ للأمن الإقليمي، والذي تجسّدَ في اتفاقية الجزائر للسلام في مالي في العام 2015، فعليًا في العام 2023، مع استئناف الأعمال العدائية بين الطوارق الانفصاليين في شمال البلاد والحكومة المالية.

وقد أدّى صعودُ المجالس العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، إلى جانب احتضانها للمرتزقة الروس، إلى زيادةِ تَهميشِ الجزائر، الذي تفاقم بفعل تنامي نفوذ تركيا والمغرب، بل والإمارات العربية المتحدة، في منطقة الساحل. في الآونة الأخيرة، تُعدّ “المبادرة الأطلسية” المغربية، التي تسعى إلى ربط اقتصادات دول الساحل غير الساحلية الخاضعة للحُكمِ العسكري بموانئ الصحراء الغربية، مثالًا على جهود الرباط الرامية إلى تعزيز نفوذها في المنطقة، وترسيخ السيطرة السيادية على الصحراء الغربية، ومواصلة تحدّي دور الجزائر التقليدي في منطقة الساحل.

كما فاقمت الولاءاتُ المُتغيِّرة للقوى الغربية الكبرى من شعور الجزائر بالعُزلة. وكما ذكرت تقارير عدة، وَجَّهَت فرنسا -القوة الاستعمارية السابقة للجزائر حيث تربطهما علاقة معقّدة للغاية ومتوتّرة في كثير من الأحيان- ضربةً قوية في تموز (يوليو) 2024 بتأييدها خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية، والتي بموجبها ستُديرُ حكومةٌ محلية شؤون المنطقة تحت السيادة المغربية، باعتبارها “الأساس الوحيد” للحل.

أدّت هذه الخطوة إلى استدعاءٍ فوري لسفير الجزائر لدى فرنسا. وأخيرًا، أظهرت سلسلةٌ من عمليات طرد الديبلوماسيين المُتبادَلة بين باريس والجزائر خلال الأشهر القليلة الماضية تدهورًا في العلاقات، مما زاد من تضييق المجال الديبلوماسي الجزائري. ولا شك أنَّ الجزائر تنظُرُ إلى عودة ترامب إلى البيت الأبيض نظرةً سلبية، إذ من المرجح أن تُعزِّزَ ما تعتبره الجزائر محورًا مغربيًا-إماراتيًا متزايد العداوة.

إنَّ التقاءَ الضغوط هذه قد عزّزت عقلية الحصار لدى الجزائر، وهو ما أكدته صياغة قانون “التعبئة العامة” أخيرًا وسط تصاعد التوترات مع المغرب، ولكن أيضًا مع مالي الآن، عقب انهيار جهود السلام هناك وإسقاط الجزائر طائرة مُسَيَّرة مالية في نيسان (أبريل)، ما أدّى إلى إغلاقٍ مُتبادَلٍ للمجال الجوي واستدعاء السفراء.

تحت تأثير ماضٍ استعماري وحشي وحربٍ أهلية لاحقة، تتفاعَلُ القيادة الجزائرية برَيبَةٍ شديدة مع أدنى مؤشِّرٍ إلى تدخُّلٍ أجنبي أو استغلالٍ للانقسامات الداخلية. وتستدعي النُخبة الحاكمة باستمرار شَبَحَ الصراع الداخلي المُدَمِّر في التسعينيات الفائتة لتبرير إجراءاتٍ صارمة، استباقية في كثيرٍ من الأحيان، ضد أيّ تهديد مُتَصَوَّر -أجنبي أو محلي- يُحذّرون من أنه قد يُعيدُ البلاد إلى الفوضى. كما إنَّ حدودَ البلاد الشاسعة وغير الآمنة، والتنافسات المتفاقمة، لا سيما مع المغرب ودولة الإمارات، تُفاقِمُ هذه المخاوف التاريخية، مُعززةً موقفًا دفاعيًا تجلّى بوضوح في ردِّ فعلِ الجزائر على حادثة “سكاي نيوز عربية” المتعلّقة بالهوية الأمازيغية.

في حين أنَّ مواقف الجزائر في السياسة الخارجية غير المُتناسقة قد ساهمت في مأزقها الحالي، فإنَّ سرعةَ ونطاقَ إعادة ترتيب المواقف الإقليمية -مدفوعةً باتفاقيات أبراهام، ومعززةً باستعراض دولة الإمارات الحازم للقوة، والنجاحات الديبلوماسية للمغرب، وترسيخ الحكومات الانقلابية في منطقة الساحل الساعية إلى تحالفاتٍ جديدة- قد جعلت الجزائر، بلا شك، تشعر بأنها مُحاصَرة. لذا، تحاول الجزائر التكيُّف من خلال زيادة الإنفاق العسكري، مدعومةً باحتياطياتها الهائلة من النفط والغاز، لكن هذه إجراءات تفاعلية في لعبةٍ تُعيد أطرافٌ أخرى كتابة قواعدها.

في ظلِّ هذه الخلفية، فإنَّ الانهيارَ الديبلوماسي مع الإمارات العربية المتحدة يتجاوز مجرّد خلافٍ ثنائي. إنه مظهرٌ من مظاهر كفاح الجزائر لشقِّ طريقها في مشهدٍ إقليمي جديد أكثر عدائية، حيث تلاشى اليقين القديم، ويلوحُ شبحُ الحصارِ في الأُفُق.

  • الفاضل إبراهيم هو كاتب ومحلل سياسي سوداني، يُركز بحثه على شؤون شمال أفريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى