عناصر ضرورية لسياسةٍ خارجيةٍ فاعِلة للبنان

الدكتور ناصيف حتّي*

في خضمِّ التطوّرات والتحدّيات الإقليمية والداخلية التي يُواجِهُها لبنان، وبناءً على تجارب ودروس الماضي القريب والبعيد، هناكَ عددٌ من العناصر التي يُعتَبَرُ توفُّرها أمرًا أكثر من ضروري لبلوَرةِ سياسةٍ خارجيةٍ فاعلة وناشطة ومُبادِرة للبنان:

أوّلًا، لا بُدَّ من التذكُّر أنَّ الجغرافيا السياسية لأيِّ بلدٍ تَحكُمُ أو تؤثّرُ بشكلٍ كبير في أمنه الوطني، وبالتالي في ما يجب أن تكونَ عليه أولوياته في علاقاته وسياسته الخارجية.

ثانيًا، أهمّية وجود أو تبلور توافُقٍ وطني فعلي وليس “فولكلوريًا” حول الأولويات الناظمة والحاكمة للسياسة الخارجية. فالانتماءات السياسية والعقائدية، ومنها الهوياتية من نوع ما دون الدولة أو العابرة للدولة لا يجوز أن تَحكُمَ أو تتحكّمُ بما يُفتَرَضُ أن يكونَ بمثابة توافُقٍ وطني واسع حول أُمّهات القضايا تُعبّرُ عنه الدولة: دولةُ المؤسّسات على حساب فيدرالية الطائفيات السياسية في لبنان التي تتقاسم السلطة وتتحكّمُ  بها، في لعبة “الكراسي الموسيقية”، أو تبادل الأدوار والمواقع، ولو تحت عناوين وشعارات مختلفة: من “هانوي” لثورة لو تغيَّرَ عنوانها العقائدي عبر الزمن إلى “سويسرا الشرق” التي لا علاقة لها بمحيطها. ولنتذكر أنَّ المطلوبَ بلورة توافُق وطني واسع وفعلي ليكونَ فاعلًا في تعزيز منطق الدولة الذي يعكس ويُعزّزُ مفهوم الأمن الوطني للبنان .

ثالثًا، ذلك كله يسمح ببلورة القواعد والتوافقات العملية (توافق مضامين وليس عناوين) وكذلك الأولويات والرؤية لسياسةٍ خارجيةٍ فاعلة. وللتذكير لا ديبلوماسية ناجحة وفاعلة إذا لم تستند إلى رؤية لبنان لعلاقاته الخارجية وأولوياته، ولدوره أوّلًا في الإطار العربي وأيضًا على الصعيدين الإقليمي والدولي، وألّا نكون كمن يتحدث عن عزٍف موسيقي بدون آلاتٍ موسيقية، وبالطبع من أهم معايير السلطة الفعلية للدولة امتلاكها الكلي لقرار الحرب والسلم .

رابعًا، دروسُ الأمس القريب والبعيد، وكذلك التحديات المتزايدة والمتشابكة والمتداخلة بعناصرها ومسبّباتها وحلولها في محيطنا المباشر، والتي توثّرُ بشكلٍ كبير بالأمن الوطني اللبناني. كلّها تستدعي  بلورةَ سياسةٍ خارجيةٍ تقومُ بالفعل، وليس فقط على مستوى الخطاب، على مفهوم الحياد الإيجابي الناشط (وللتذكير فلا علاقة لهذا المفهوم بالحياد القانوني حسب نموذج الحياد السويسري مثلًا. لبنان دولة عربية ولا أقول عروبية، دولةٌ من الدول المؤسِّسة لجامعة الدول العربية، وعليه بالطبع الالتزام بالثوابت العربية، وبالأخص في إطار النزاع  العربي-الإسرائيلي، ولو ضعفت أو اهتزَّت هذه الثوابت في لحظةٍ معينة). ولا يعني ذلك بتاتًا أن يتحمّلَ لبنان وحده ونيابةً عن الآخرين وزرَ هذا النزاع. إنَّ بلورةَ الثوابت والتوافُقات المطلوبة وعودة دور الدولة الفعلي وليس الشكلي تسمحان بألّا يبقى لبنان حجر شطرنج أو صندوق بريد لتبادُل الرسائل في صراعاتٍ إقليمية، أيًّا كانت عناوين هذه الصراعات وجاذبيتها أو موقف لبنان منها أو في إطارها.

خامسًا،، من الأمور التي للبنان مصلحة أكيدة في المشاركة في بلورتها لتنظيم العلاقات عمليًّا في الإقليم الشرق أوسطي، وبين دوله، تعزيز مفاهيم عدم التدخُّل في شؤون الآخر، عدم التحدُّث فوق رؤوس الدول باسم مواقف عقائدية أو سياسية أو غيرها، وكذلك الاحترام الفعلي وتعزيز القواعد السياسية المعروفة دوليًا لتسوية الخلافات بين الدول والعمل بموجبها، وذلك ضمن منطق الدولة وليس ضمنَ منطقٍ إيديولوجي من نوع ما فوق الدولة. المطلوب أن نعملَ على بلورة هذه المفاهيم والقواعد لنؤسّس أسياسات من هذا النوع تلتزم بها جميع المكوِّنات السياسية في لبنان والتي هي لمصلحتها جميعًا في نهاية الأمر، وذلك تحت سقف الدولة، رُغمَ استفادةِ هذا الطرف أو ذاك من ضعف أو غياب مفهوم الدولة في لحظةٍ مُعيَّنة. إنَّ تحكيمَ سلطة الدولة ومنطق الدولة في صنعِ وإدارةِ علاقاتنا الخارجية يبقى أمرًا أكثر من ضروري لحفظ وتعزيز الأمن الوطني للبنان .

سادسًا، لأنَّ لبنان هو الدولة الأكثر تأثُّرًا بالتطوّرات والتوتّرات الإقليمية، كما أشرنا، بسبب الجغرافيا والاجتماع الوطني، فلنا مصلحة وطنية أكيدة في إطارِ حماية الأمن الوطني وصيانته وتعزيزه في أن يقوم لبنان، ولو أحيانًا بشكلٍ استباقي، إذا ما توفّرت الشروط التي أشرتُ إليها (التوافقات الوطنية الفعلية) والتي هي أكثر من ضرورية، وإذا ما استدعت الحاجة لذلك، بلعبِ دور الإطفائي في المنطقة، ولنا في تجارب دولٍ أُخرى، مثل سلطنة عُمان نموذجًا في هذا الخصوص. هذا الدور  يُعزّزُ الأمن الوطني للدولة ويساهم في إنقاذ لبنان من أن يبقى أسيرًا ل”لعبة الأُمم”، حتى لو تغيّرَ اللاعبون وعناوين اللعبة.

سابعًا، أشرتُ في البداية إلى الديبلوماسية الرسمية، وأودُّ أن أختُمَ بالتأكيد على أهمية الديبلوماسية العامة المُتعدِّدة الأوجه من اقتصادية وثقافية وسياسية وغيرها والتي تكمل وتعزّزُ الديبلوماسية الرسمية. ديبلوماسيةٌ تبني جسورَ التفاهُم والتعاون وتُعزّزُ جسورًا قائمة. القوة الناعمة التي يملكها لبنان من انفتاحٍ ومستوى تعليم وحريات وتنوُّع ثقافي وسياسي وتجارب وانتشار، تسمح بالقيام بشكلٍ ناجح بالديبلوماسية العامة. الديبلوماسية التي تخدمُ وتُعزّزُ المصلحة الوطنية في عالمنا المعاصر. ديبلوماسيةٌ تهَيِّئ الطريق حينًا للديبلوماسية الرسمية في مجالاتٍ عديدة وجديدة كما تعملُ بشكلٍ مُوازٍ لها أو استباقي أو لاحق أحيانًا. في هذا الإطار كنتُ طرحتُ في الماضي وأُكرّرُ اليوم على أهمية “التشبيك” في الاغتراب: بناء شبكات جغرافية أو وظيفية أو تخصُّصية تجمع المغتربين بمختلف أجيالهم واختصاصاتهم ومواقعهم، وتعملُ كقوة ضغط أو “لوبي” مستمر في إقامة جسورِ تَواصُل في مختلف المجالات وفي تعزيز جسورٍ  قائمة بين لبنان والدول التي ينتمي إليها الاغتراب لما فيه مصلحة للبنان الوطن الأم ولتلك الدول .

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • المقالة تستند إلى المحاضرة التي ألقاها الدكتور ناصيف حتي في المؤتمر حول “أي سياسة خارجية للبنان؟” الذي نظمته مؤسسة فواد شهاب بالتعاون مع معهد العلوم السياسية ومركز فيليب سالم للدراسات  السياسية في جامعة القديس يوسف في بيروت ،في 9 نيسان (أبريل) 2025.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى