مِئَةُ يومٍ من ولاية ترامب الثانية: الوفاءُ بالوعود بانتظار يومٍ القِطاف

الدكتور فيكتور الزمتر*

لم يسبقْ أن عرفَ التاريخُ السياسيُّ الأميركيُّ رئيسًا أكثرَ إثارةٍ للجدل، في الأوساط الإعلامية والسياسية والدولية، مثلَ الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، الآتي إلى السلطة بدون خلفيةٍ سياسيةٍ!

كادت محابرُ الأقلام أنْ تنضُبَ من كثرة ما قيل بحقِّ الرئيس ترامب من أوصافٍ ونُعوتٍ، فيما ندرَ أنْ أُنصفَ هذا الحاكم في مجالٍ، أو مُنِحَ أحكامًا تخفيفيةٍ، لكونه أتى إلى السلطة من عالم الأعمال لا من عالم السلطة؛ إذ لم يسبق له أن تبوَّأَ منصبًا حكوميًّا، سواء أكان تشريعيًّا أو تنفيذيًّا أو حتّى إداريًّا.

فقياسًا على ثقته الصلبة بنفسه، وعدم خضوعه لفشله في إعادة انتخابه ثانيةً، في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، وعلى عودته المُظَفَّرة إلى السلطة، أقلُّ الإنصاف الإعترافُ بأنَّ سيّدَ البيت الأبيض الحالي لديه من قماشة رجل السلطة ما يُعَوِّضُ، رُبَّما، افتقارَه إلى قفّازات صاحب النَفَس الطويل.

ولعلَّ ما أبرزَ فَرادَتَه الفجَّة اعتيادُ عالم السياسة على رجال الدولة المُتَطَلِّعين إلى تنفيذ رُؤاهم ومصالح بُلدانهم بالديبلوماسية الناعمة، بدايةً، لا عبر الصدمات الفاقعة، مع ما تستبطنُه الديبلوماسيةُ من مُكرٍ وخُبثٍ ووعودٍ فارغةٍ ووعيدٍ ببسمة أنياب اللّيث!

تبقى الإشارةُ ضروريَّةً إلى ما اعتادَ الإعلامُ العربي، تحديدًا، على ركوب موجة الإعلام الأميركي المُعادي، بمُجمله، للرئيس ترامب، الذي يتهمُ وسائلَ الإعلام الأميركية بأنَّها جُزءٌ عضويٌّ من “الدولة العميقة”، المسؤولة عن تراجُع عظمة الولايات المُتحدة.

يُشهَدُ للرئيس ترامب أنَّه مُذ عودته إلى الحكم، أوفى بغالبية وُعوده الإنتخابية، من خلال عشرات المراسيم التنفيذية، داخليًا ( في ما يتصلُ بالهجرة والإدارة الحكومية والمساعدات الإجتماعية والإقتصاد ..) ودوليًا (ما يخصُّ السياسة الخارجية والتعريفات الجُمرُكية وسوق الأسهم ..).

إنَّ مُرورَ مئة يومٍ على بداية الولاية الرئاسية ليست بالوقت الكافي لتقييم الأداء السياسي في ما يتصل بالأوضاع الداخلية والدولية. وعليه، من العدل إعطاءُ بعض الوقت لتبيان صوابيته من عدمه، قبل إصدار الأحكام المُبرمة بفشله. والمثالُ الأبرزُ على ذلك يتمثَّلُ، دوليًّا، بقرار فرض حزمةٍ وازنةٍ من التعريفات الجُمركية الصادمة، على الحلفاء والخصوم، حيثُ أبدى المعنيون بها استعدادًا للتفاوض بشأنها بما يُنصفُ الجميعَ.

وعلى الصعيد الدولي، يُؤخَذُ على الرئيس ترامب عدمُ تنفيذ وعده بإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية “خلال 24 ساعة”، كما وعد أثناء حملته الإنتخابية، وفي ذلك الكثيرُ من الظُلم والتجنّي والكيد المُتعمَّد، إذ كيف لعاقلٍ أنْ يتصوَّرَ إمكانيةَ إنهاء حربٍ مُدمِّرَةٍ بكبسة زرٍّ، بعد أنْ أزهقت وهجَّرت، لتاريخه، ملايين الضحايا والمُشرَّدين، على مدى أكثر من ثلاث سنواتٍ؟ ألا يستحقُّ شرفُ مُحاولة إنهاء هذه الحرب المُهدِّدَة بفناء العالم، ببعض الثناء، في حين تُوغل دُولُ القارَّة العجوز بالتحريض وصبِّ الزيت على الصفيح المُلتهب؟

على كلِّ حالٍ، يبدو أنَّ جهودَ الرئيس ترامب لإنهاء حربٍ أوكرانيا الضروس قد قطعت شوطًا لا بأس به، بعد أنْ أعادَ التوازنَ إلى التأييد الأعمى لأوكرانيا، في نقضٍ فاقعٍ لسياسة سلفِه جو بايدن. فالإقرارُ بالوضع القائم، على طول خطّ الجبهة، مُضافًا إليه التسليم باستعادة موسكو لشبه جزيرة القرم، التي أهداها نيكيتا خروتشوف لأوكرانيا في العام 1954، يُعدُّ بمثابة التكفير عن نكث واشنطن بالوعد، الذي حملَه وزير الخارجية الأميركي، يومها، جايمس بايكر إلى ميخائيل غورباتشوف، في 9 شباط 1990، والقاضي بعدم توسيع حدود “الناتو” إلى الحدود الروسية.

إنَّ الرئيس ترامب في عجلةٍ من أمره لإنجاز هذه المُهمَّة التاريخية من خلال خطوطٍ عريضةٍ، على قاعدة الأرض مقابل السلام، تستجيبُ لغالبية الشروط الروسية، وصولًا إلى وقفٍ لإطلاق النار على كلّ الجبهات، على أنَّ يتمَّ التفاوضُ لاحقًا على التفاصيل.

إلى ذلك، حصلَ الضررُ الأكبرُ مع ضربِ التكامُل الإقتصادي والسياسي، الذي كان آخذًا بالإكتمال بين جناحَي قارَّة “أوراسيا”. وكانت سياسةُ التحريض قد نجحت في بثِّ الفُرقة بين توأمَي الكنيسة الأرثوذكسية، وأشعلت النار بينهما، ما أنهكَ فريقَي النزاع، اللَّذين أصبحا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى إنهاء هذا الصراع الدامي، الذي أفرغ الخزائن المالية ومخازن السلاح في كلٍّ من الولايات والمُتحدة وأوروبا الغربية، بقدر ما استنزف زهرة شباب أوكرانيا وروسيا، فضلًا عن الدمار والخسائر المادية. وعليه، لا ضيرَ إنْ شابَت صيغةُ الإتفاق الأوَّلية بعضَ التعابير المطّاطة، بما يترك للجانبين إمكانية تفسير بنود الإتفاق بما يُلبي حاجة الإستهلاك المحلي.

فخلال مهلة المئة يومٍ من الولاية الرئاسية الثانية، اقتطع الوضعُ الأميركي الداخلي حصَّة الأسد من المراسيم التنفيذية، التي طالت الصفح عن المشاركين في “غزوة الكابيتول”، في 6 كانون الثاني (يناير) 2020، والثأر من الخصوم وإحلال موالين شخصيين للرئيس في مراكز القرار والتصادم مع بعض رجال القضاء وإقفال الرعاية الإجتماعية و”الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” (USAID) وترشيق التربية والإدارة الأميركية المُترهّلة …

أمّا على الصعيد الدولي، فقد استحضرَ الرئيس ترامب أفكارًا سبق طرحُها من قِبَلِ بعض رجال السياسة الأميركيين، بخصوص كندا وبنما وغرينلاند، كما استطابَ فكرةَ الإستحواذ على قطاع غزَّة لتحويله إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” ..! إلّا إنَّ رزمةَ التعريفات الجمركية الصادمة شكَّلَت الشعرةَ التي قصمت ظهر البعير، فخضَّت العالمَ وقلبت معاييرَ الإقتصاد رأسًا على عقب!

هذه الصدمات كانت خروجًا على ثمانية عقودٍ من المُسلَّمات الدولية، التي أفرزتها الحربُ العالميةُ الثانية، لجهة خرق المواثيق والتحالفات، وإدخال قبضة الديبلوماسية الخشنة إلى التعاطي مع الأقران الدوليين، بدلًا عن القوَّة الناعمة ..!

وفي أحدث تقريرٍ ل”المكتب الوطني للإحصاءات” الصيني، عن شهر نيسان (أبريل)، سجَّلت الشركاتُ الصناعيةُ الصينيَّةُ أكبر انخفاضٍ بالإنتاج، منذ سنةٍ، في شهادة على صوابية سياسة ترامب الجمركية، لما ألحقته تلك الرسومُ من أضرارٍ في الإقتصاد الصيني. والضررُ مُشتركٌ، بطبيعة الحال، نظرًا لحرمان المواطن الأميركي من الحصول على المنتجات الصينية بأسعارٍ مُنخفضة. هكذا وضعٌ لا يُمكن أنَّ يستمرَّ، ما سيحملُ الجميعَ على الحوار والتفاوُض، توصُّلًا لقواسم مُشتركةٍ.

لا يصحُّ الكلام على الرئيس الأميركي بدون التسليم بأنَّه رجلٌ “شكل ثاني”، لا تنطبقُ عليه مواصفات النسق العام لرجال الدولة المُتعارف عليها. فهو شديدُ الإعتداد والثقة بالنفس، صريحٌ، واضحٌ، صِداميٌّ، ساخرٌ بلا كفوفٍ، شخصانيٌّ لا يُداري، يعشقُ الإطراء والتحدي .. لكنَّه يقولُ فيفعلُ، يَعِدُ فَيَفي.

يُدركُ الرئيسُ ترامب أنَّ الولاياتَ المُتحدة كانت أعظم قُوَّةٍ في العالم، إلّا إنَّ الخوف من أنَّه ما زالَ يعتبرُها، اليومَ، القُوَّةَ العالمية الأعظم و”بلا مُنازعٍ”، وفي ذلك مُبالغةٌ غير محسوبةٍ، نظرًا لما تنطوي عليه من تقليلٍ ليقظة التنين الصيني، الذي استفاقَ بعد سُباتِه العميق.

مئةُ يومٍ حفلت بأكثر من مئةٍ وثلاثين مرسومًا تنفيذيًّا، أحدثت تحوُّلاتٍ ثوريَّةٍ في الداخل الأميركي، وزلزالًا في العلاقات الدوليَّة، بانتظار ما ستؤولُ إليه أحوالُ أميركا والعالم، على وقع هذه السياسةُ الدراميةُ، المُتدرِّجة بسياسة التصادُم وانتظار ردَّة الفعل.

يُنسَبُ للمُنظِّر والسياسي والثائر الروسي فلاديمير لينين (1870-1924) قولُه: “هناك عقودٌ لا يحدث خلالها شيءٌ، وهناك أسابيعٌ تحدثُ فيها عقودٌ”.

مئةُ يومٍ أو أربعة عشر أسبوعًا، لا فرق، على ولاية الرئيس ترامب الثانية، أحدثت عقودًا من التغييرات، داخليّاً وعالميّاً، مع ثابتةٍ لافتةٍ تتعلَّقُ بثَبات الإنحياز الصلب إلى جانب إسرائيل، ظالمةً كانت أو مظلومةً. فإلى أيّ مدى يُمكنُ إسقاط أفعال الرئيس ترامب على قول لينين، علَّ التاريخَ يُخلِّدُ اسمَه، مثلما خلَّدَ اسمَ مُلهم الثورة البلشفية؟

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب سياسي وسفير لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى