اليومُ التالي في غزّة: تَحَدِّياتُ إِعادَةِ الإعمارِ والحَوكَمَة
على الجهات الدولية المَعنية بأزمة غزة عَقدُ سلسلةٍ من الحواراتِ مُتَعَدِّدة الأطراف تضمُّ جهاتٍ فاعلة دولية وإقليمية ومحلّية لتحديد الأولويات المشتركة، مثل الاستقرار والأمن والإغاثة الإنسانية، والتوصُّل إلى اتفاقٍ تأسيسي.

عمر شعبان*
الأزمةُ الحالية في قطاع غزة ليست الأولى. في الواقع، شهدَ القطاعُ سلسلةً من التصعيدِ المُدَمِّر، بما في ذلك حروبٌ كبرى في الأعوام 2008، 2012، 2014، 2021، و2022. كانت أثارُ جميع هذه الحروب كارثية على سكان غزة، وأثرت بشكلٍ كبير في البنية التحتية للقطاع، ونظامه الصحي، واقتصاده، ومجتمعه، وتعليمه، وقطاعَيه العام والخاص. ومع ذلك، فإنَّ أزمة اليوم، التي بدأت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وعواقبها على سكان غزة غير مسبوقة.
الأزمة الإنسانية والاحتياجات العاجلة
بَعدَ عامٍ ونُصفٍ من حرب إسرائيل على غزة، لا تزالُ التحدّياتُ التي تُواجِهُ سكانَ غزة هائلة ومُترابطة. يشملُ بعضُ الصعوبات الأكثر إلحاحًا ما يلي:
الرعاية الصحية، والصدمات النفسية، والأمراض: وفقًا لتقريرٍ صادرٍ في 8 نيسان (أبريل) 2025 عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA)، والذي يستشهدُ ببياناتٍ من وزارة الصحة في غزة، قُتِلَ 50,810 فلسطينيين، من بينهم 8,304 امرأة و15,613 طفلًا؛ وجُرح 115,688 فلسطينيًا؛ وأُبلِغَ عن آلاف المفقودين أو يُعتَقَدُ أنهم دُفنوا تحت الأنقاض. دُمِّرت جميع مستشفيات غزة تقريبًا جُزئيًا أو كُلِّيًا، مما قلّلَ من فُرَصِ حصولِ المدنيين على العلاج الطبي. حوالي 63% (22 من أصل 35) من المستشفيات تعمَلُ جُزئيًا؛ ويحتاج ما بين 11,000 و13,000 مريض إلى إجلاءٍ طبّي إلى الخارج.
بالإضافة إلى ذلك، لا تُوجَدُ عياداتٌ أو مراكزَ طبّية تُقدّمُ جلساتَ دَعمٍ نفسي واجتماعي أو توجيه نفسي (سيكولوجي). تُرِكَت العائلات وحدها للتعامُل مع صدماتِ أطفالها، والتي أفادت التقارير بأنها واسعة النطاق. لقد تسبّبَ الصراعُ في صدمةِ مئات الآلاف من الشباب الفلسطينيين الذين رَؤوا عائلاتهم تُقتَلُ ويُدَمَّرُ مستقبلهم. أفادت التقارير أنَّ الصِبيَةَ والفتيات الصغار تعرّضوا لأذى نفسي لا هوادة فيه؛ حتى أنَّ بعضهم لم يستطع التوقُّف عن البكاء. وجدت دراسةٌ أجرَت مقابلات مع 500 طفل فلسطيني ومقدِّمي الرعاية في حزيران (يونيو) 2024 أنَّ 96% من الأطفال في غزة يشعرون بأنَّ موتَهم وَشيك، مما يعكسُ مستوى الخطر الذي يواجهه الأطفال.
كما أدّى قصفُ إسرائيل لغزة إلى تدميرِ تُربةِ القطاع وهوائه ومياهه وبُنيته التحتية، ما خلقَ ظروفًا مواتية لتفشّي الأمراض. ويتفاقم هذا الخطر بسبب النقص الحاد في الأدوية. وقد انتشر شللُ الأطفال في قطاع غزة بسبب ظروف الصحة سيّئة وانخفاضِ معدّلات التطعيم.
انعدامُ الأمنِ الغذائي: اعتبارًا من تشرين الأول (أكتوبر) 2024، كان حوالي 96% من سكان غزة، البالغ عددهم 2.15 مليوني نسمة، يُعانون من انعدامٍ حاد في الأمن الغذائي. لم يَعُد لدى معظم السكان أيُّ مصدرٍ للدخل، وحتى مَن يملكون المال قد لا يتمكنون من شراءِ الطعام بعد تدمير جميع قطاعات الإنتاج الغذائي والزراعة في غزة خلال الحرب. لذلك، حتى لو انتهت الحرب، يجب أن يستمرَّ تدفُّقُ المساعدات الغذائية حتى يتمكّنَ سكان غزة من إعادةِ بناءِ حياتهم الطبيعية. التحدّي الحقيقي لا يكمُنُ في إدخال شاحنات المساعدات الغذائية، بل في توزيعها بشكلٍ عادل للوصول إلى جميع السكان من خلال برنامجِ مُراقبة صارم وأمنٍ مُشَدَّد.
التعليم: وفقًا لبيانات مجموعة التعليم العالمية، التي تقودها اليونيسِف ومنظمة إنقاذ الطفولة، حتى 8 نيسان (أبريل)، لا يستطيع أكثر من 658,000 طالب الحصول على التعليم الرسمي، كما تضرّرَ 88.5% من جميع المباني المدرسية (499 من أصل 564). كما قُتِلَ أكثر من 13,289 طالبًا و626 من أعضاء هيئة التدريس خلال الحرب. منذ بدء الحرب، أوقفت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية التعليم الرسمي في قطاع غزة. أصبحت المدارس ملاجئ لمئات الآلاف من الأشخاص الذين أُجبروا على مغادرة منازلهم بموجب أوامر الإخلاء الإسرائيلية. على مدار ما يقرب من عامين دراسيين، لم يتلقَّ الطلاب تعليمًا مناسبًا، مما أثر سلبًا في جيلٍ كاملٍ من الأطفال.
على الرُغم من أنَّ مجموعة التعليم العالمية، إلى جانب مبادراتٍ أخرى غير حكومية ومجتمعية، سعت إلى إطلاقِ مساحاتٍ تعليمية مؤقتة لإعادة دمج الطلاب في بيئات التعلّم، إلّا أنَّ هذه المساحات لا يُمكِنُ أن تحلَّ محلَّ المدارس الرسمية. يجب أن تكونَ إعادةُ بناء المدارس والجامعات أولوِيّة في أعقاب الحرب.
السَكَن والتَشَرُّد: أُجبِرَت الغالبية العظمى من سكان غزة على تركِ منازلها، حيث نزح 1.9 مليون شخص منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. بَعدَ اتفاقِ وَقفِ إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” في كانون الثاني (يناير) 2025، سُمِحَ للنازحين داخليًا بالعودة إلى شمال قطاع غزة، لكنهم لم يجدوا سوى الحطام والركام حيث كانت منازلهم قائمة سابقًا. وقد نزحَ أكثر من 390 ألف شخص في الأسابيع الثلاثة الماضية بسبب تجدّد القتال.
تُقدّرُ الأمم المتحدة بأنَّ إعادة إعمار غزة قد تستغرق ما بين 16 عامًا وأكثر من 80 عامًا، وذلك حسب وتيرة إعادة الإعمار. أوّلًا، يجب تطهير غزة من الأنقاض. وقد قدّرَ تحديثُ الوضع الإنساني الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في 8 نيسان (أبريل) 2025 أنَّ الحرب خلّفت أكثر من 50 مليون طن من الأنقاض، والتي قد يستغرق إزالتها ما يصل إلى 20 عامًا.
في الوقت نفسه، يحتاج أكثر من 1.9 مليون شخص إلى سَكَن. فالخيامُ لا تحمي من بَردِ الشتاء، ولا من حَرِّ الصيف، ولا من الحشرات والزواحف. خلال فترة إعادة الإعمار الطويلة هذه، لن يكونَ بالإمكان الاعتماد على دوراتِ مياه مؤقتة. يجب إنشاءُ بُنيةٍ تحتية ونظامِ صرفٍ صحّي في موقع السكن المؤقت. على كل محافظة من محافظات القطاع الخمس (شمال غزة، غزة، الوسطى، خان يونس، رفح) أن تأخذَ قطعةَ أرضٍ واسعة خالية، وتجهيزها ببنية تحتية متكاملة، وتسليم منازل متنقلة من الحاويات لسكان المحافظة حسب حجم كل أسرة. كما يمكن توزيع المواد الغذائية والإمدادات في هذه المواقع لتخفيف صعوبات التوزيع.
التحدّيات الاقتصادية: في نيسان (أبريل) 2024، صرّح عبد الله الدردري، مدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بأنَّ إعادةَ إعمار غزة قد تتكلّف ما لا يقل عن 40 إلى 50 مليار دولار. وخَلُصَ تحليلٌ أجرته الأمم المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) 2024 إلى أنَّ الحربَ قد أرجَعَت مؤشر التنمية البشرية في غزة، وهو مقياسٌ إحصائي لمُتَوَسِّط إنجازات الدولة في التعليم ومتوسط العمر المُتَوَقَّع، بمقدار 69 عامًا – إلى العام 1955.
وخلقَ النزوحُ القسري لأكثر أفراد غزة موهبةً وتعليمًا، والذين فرّوا من غزة لإنقاذ حياتهم وسط الحرب، تحدّيًا اقتصاديًا آخر. وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، غادر حوالي 100 ألف شخص غزة بين 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وبداية هذا العام، مما يُلقي بظلالٍ كثيفة على مستقبل غزة. ويؤدّي رحيلُ المهنيين المَهَرة والأكاديميين ورجال الأعمال إلى إضعاف النسيج الاجتماعي والاقتصادي في غزة من خلال استنزافها من العقول اللازمة لإعادة الإعمار والتنمية. قد لا يعود الكثير من هؤلاء الأفراد، المُثقَلين بصدمات الحرب، أبدًا، مما قد يؤدّي إلى “هجرة كفاءات” تُعيقُ تعافي غزة في المدى الطويل، وتُقوّضُ قدرتها على بناءِ مجتمعٍ صامدٍ قادرٍ على شقِّ طريقٍ نحو الاستقرار والازدهار. ولن تُتاحَ عودتهم إلّا باستقرار الأوضاع الأمنية والسياسية بشكلٍ مُستدام.
تحديات الحكم: ستعتمدُ إعادةُ إعمار غزة بشكلٍ كبير على الوضع الأمني، وعلى مَن سيَحكُم غزة بعد الحرب، حيث ستلعب الحكومة الجديدة دورًا قياديًا في إعادة الإعمار.
تُسَيطِرُ “حماس” على غزة منذ العام 2007، عقب فوزها في الانتخابات الفلسطينية وما تلاه من صراعٍ مع حركة “فتح”، التي تقودُ السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وقد اتسم حكمها بالتوتّرات مع إسرائيل، وضغوطٍ داخلية من السلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي، وحصارٍ مُنهِك. منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، رَفَضَت إسرائيل رفضًا قاطعًا أيَّ احتمالٍ لاستمرار “حماس” في حكم غزة. ومع ذلك، فإنَّ مسألةَ مَن يُمكنه تولّي القيادة في غزة لا تزالُ مُلحّة وغير مَحسومة.
يُمثّلُ هذا بعضَ العقباتِ الخطيرة أمامَ إعادةِ إعمار غزة. تشيرُ التجارب السابقة في حربَي غزة في العامين 2014 و2021 إلى أنَّ أيَّ موازنة أو تبرّعات لإعادة إعمار غزة يجب أن تكون تحت سيطرةِ جهةٍ رقابية، سواء كانت دولية أو حكومية (أي السلطة الفلسطينية). ستتطلّبُ إعادةُ إعمارِ غزة إشراكَ موظّفين مدنيين من “حماس”، السلطة الفعلية السابقة، نظرًا لقلّة الموظفين غير التابعين ل”حماس” في غزة.
وهناكَ مسألةٌ أخرى تتمثّلُ في أنَّ الدولَ المانحة تشترطُ ضماناتٍ بعدم تدمير غزة مرة أخرى. فعلى مدى سنوات، تبرَّعَ العديد من الدول بملايين الدولارات لإعادة إعمار غزة، ثم شهدت هذه الدول غزة تُدمَّر وكل ما منحوه ذهب هباءً، مما جعلَها مُتردّدة في التبرّع مرة أخرى هذه المرة. لقد تكررت في غزة فعليًا دورة الدمار، ثم إعادة الإعمار، ثم الدمار مرة أخرى في مناسبات عدة، وفشلت مبادرات كثيرة جرت خلال جولات إعادة الإعمار السابقة فشلًا ذريعًا.
وبالطبع، فإنَّ تحدّي الحكم في غزة ليس مجرد مسألة سيطرة سياسية أو عسكرية. إنه مُتشابكٌ مع الكارثة الإنسانية الأوسع. ستحتاج أي حكومة مستقبلية إلى القدرة ليس فقط على الحفاظ على الأمن، ولكن أيضًا على الاستجابة للاحتياجات الإنسانية للسكان.
مسارٌ عمليٌّ للمضي قُدُمًا
بدأت المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” في 19 كانون الثاني (يناير) 2025، لكن تنفيذه لم يكتمل، وانهار في 18 آذار (مارس) 2025. وإلى أن يتمَّ التوصُّلُ إلى وقفِ إطلاقِ نارٍ جديد بدعمٍ من الجهات الدولية المَعنية، سيتأخّرُ إطلاقُ سراحِ الرهائن وإعادةُ إعمار غزة. ينبغي على الجهات الدولية المَعنية عقد سلسلة من الحوارات متعددة الأطراف تضمُّ جهات فاعلة دولية وإقليمية ومحلية لتحديد الأولويات المشتركة، مثل الاستقرار والأمن والإغاثة الإنسانية، والتوصُّل إلى اتفاقٍ تأسيسي. وينبغي أن تشمل هذه الحوارات وجهات نظر متنوّعة حول حوكمة غزة، وأن تنظر في خطواتٍ عملية لمنعِ نشوبِ صراعٍ مستقبلي مع إسرائيل.
- عمر شعبان هو مؤسس ومدير “بال ثينك” للدراسات الاستراتيجية، وهي مؤسسة بحثية مقرها غزة. وهو محللٌ للاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط، وكاتب ومعلق دائم في وسائل الإعلام العربية والدولية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.