اتفاقُ الشرع-عبدي: إدارةُ ترامب تَطُلُّ على دمشق

محمّد قوّاص*

حين قال الرئيس السوري، أحمد الشرع، في تعليقه على أحداث الساحل السوري، “عَدَّت على الخير”، كان بذلك يعترفُ بأنَّ الأمرَ كانَ جللًا مُهدِّدا لسوريا وللحكم الجديد في دمشق. وفي ذلك الإقرار ما ُيفَسِّرُ، ولا يُبَرِّرُ، ظاهرةَ الهلع والفوضى التي أدّت إلى ما شهدته المنطقة من انتهاكاتٍ طالت المدنيين. ومَن يتأمّل مفاجأة توقيع الشرع اتفاقًا مع قائد قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، الإثنين الفائت، غداة ضجيج الساحل، أدركَ أنَّ الهلعَ كان أصاب العواصم القريبة والبعيدة.
لم تُظهِر إدارةُ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل ذلك أيَّ موقفٍ بشأنِ الشرع وحُكمِه. كانت الإدارة الأميركية السابقة أرسلت مُساعِدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، بربارا ليف، إلى دمشق، للقاء الشرع، في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2024، أي بعد 12 يومًا على سقوط النظام السوري السابق. أبلغته حينها بإلغاء المكافأة الأميركية لاعتقاله. وَصَفَتهُ لاحقًا بأنه “براغماتي”، ثم أعلنت واشنطن بعدها تخفيف العقوبات عن سوريا. لكن اللافت فبل ذلك هو إجراء قناة”سي أن أن” (CNN) الأميركية مقابلةً حصرية مع أبي محمد الجولاني (أي قبل أن يُفصِحَ عن اسمه الحقيقي)، في 6 كانون الثاني (يناير) الماضي، أي قبل يومين من سقوط نظام الأسد، بما كشفَ اهتمامًا أميركيًا لافتًا بالرجل، لم تحظَ به شخصية مُصنّفة إرهابية قبل ذلك.
قبل أن يجلسَ الشرع وعبدي على طاولة التوقيع على الاتفاق، جرت بينهما خلال الأشهر الأخيرة مفاوضات بدت متقدّمة لكنها غير كافية ولا تَرقَ إلى مستوى “الصفقة”. كان عبدي ينتقل إلى دمشق بطوّافات أميركية وبمواكبة ضباط أميركيين. وكانَ الخلافُ يدورُ بشأن تنافُرٍ في فلسفة الدولة. الشرع يريدها مركزية يندمجُ الجميع كأفرادٍ داخلها. وعبدي يُمنّي النفس، بعد تجربةِ الإدارة الذاتية و”قسد” المدعومة من قبل الولايات المتحدة والتحالف الدولي، بكيانٍ يعترفُ به الحكم في دمشق ذاتيًا مُتميِّزًا. فكان لا بُدَّ من عوامل خارجية أن تضغطَ لإيجاد التوافقات.
في 16 كانون الثاني (يناير) الماضي برز تَدَخُّلٌ لافتٌ لرئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني في العراق، مسعود بارزاني، بما يمثّله أيضًا من نفوذٍ لدى كافة أكراد المنطقة. التقى الرجل عبدي في أربيل. وتسرّبَ أنه نصحَ ضيفه بالتصرُّفِ وقوّاته كمواطنين سوريين والابتعاد عن حزب العمال الكردستاني التركي (PKK). لاحقًا علّق بارزاني على هذا اللقاء بدعوةٍ صريحة ونادرة للحزب الكردي التركي إلى “ترك المنطقة وشأنها”. ولم يستبعد المراقبون حينها تأثّر بارزاني في مبادرته بأجواءٍ من أنقرة وواشنطن اللتين يمتلك معهما علاقاتٍ ممتازة.
انعطفَ تدخّلُ بارزاني لدى “قسد” وقائدها على حدثٍ تاريخي جرى في 26 شباط (فبراير) 2025. نُقلت رسالة من عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي ل” PKK” يدعو فيها حزبه إلى إلقاء السلاح، وحلّ نفسه، والتخلّي عن المشاريع الانفصالية مثل الحكم الذاتي أو الفيدرالية… إلخ، ردّت “قسد” مُرَحِّبةً بالرسالة ودعوات كاتبها، لكنها اعتبرت أنها شأنٌ يخصّ الحزب في تركيا ولا يخصّها. غير أنَّ “وصايا” الرسالة جرّدت عبدي وقواته من مرجعيةٍ عقائدية أوجلانية، وأسقطت خيار السلاح والكيان الذاتي، ودفعته للانصات ،من جديد، لنصائح بارزاني لا سيما التوجُّه نحو دمشق.
دفعت التطوّرات الأمور نحو خواتيمها. لم يكن مصادفة أنَّ توقيعَ اتفاقِ الشرع-عبدي في دمشق جرى بعد أيامٍ على زيارةٍ قامَ بها قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل كوريلا، إلى شمال شرقي سوريا التقى خلالها قائد “قسد”. أوحت “المصادفة” أنَّ واشنطن تدفع الأكراد للاتفاق مع الإدارة السورية الجديدة، وتُلمّحُ لهم أيضًا بأنَّ قرارَ الانسحاب الأميركي من سوريا باتَ مسألة وقت، وأنَّ مَيلَ ترامب لتغليب مصالح تركيا بات أمرًا مُرَجَّحًا، وأنَّ التحصُّنَ داخل الدولة السورية الجديدة هو الملاذ الأفضل. أعاد عبدي قراءة رسالة أوجلان ونصائح بارزاني وذهب إلى دمشق.
استفاقت إدارة ترامب رسميًا على إدارة الشرع على ضجيجِ الانتهاكات ضد المدنيين في الساحل السوري. في 9 آذار (مارس) الجاري، قال بيانٌ لوزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، إنه “يجب على السلطات الانتقالية في سوريا محاسبة مُرتكبي المجازر بحقّ الأقليات في سوريا”. أدان الوزير الأميركي قتل المدنيين في سوريا، مُعَبِّرًا عن وقوف الولايات المتحدة مع الأقليات الدينية والعرقية في سوريا. ومَن قرأ البيان بطريقةٍ أُخرى استنتجَ تَبرِئة واشنطن لحُكمِ الشرع في دمشق، مُطالبًا إياه باتخاذ إجراءاتٍ ضد المذنبين. ومن تأمّل صورة الشرع-عبدي مُتصافِحَين، استنتجَ أنَّ سوريا باتت ملفًّا على طاولة الرئيس في المكتب البيضاوي، وأنَّ واشنطن انضمّت، بعد أحداث الساحل، إلى عواصم عربية وأوروبية تؤكّدُ على نهائية التحوُّل في سوريا، وانتهاء أوهام، مصدرها طهران، تحلم وتعمل لعودة سوريا إلى الوراء.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى