أجندة محمد بن سلمان الداخلية تُحَرِّكُ أيضًا الحَملةَ الديبلوماسية السعودية المُكَثَّفَة
تُعَدُّ الحماسة الديبلوماسية للرياض استراتيجيةً منخفضة التكلفة تهدفُ إلى تصوير المملكة العربية السعودية كطرفٍ فاعلٍ بَنّاء في الشرق الأوسط والعالم. لكن هذا لا يعني أنها خالية تمامًا من المخاطر.

جون هوفمان*
تَخوضُ المملكة العربية السعودية غِمارَ حملةٍ ديبلوماسيّةٍ مُكثّفة. من استضافةِ محادثاتٍ بين واشنطن وكييف بشأن الحرب في أوكرانيا التي جرت منذ أيام، إلى وَضعِ المملكة وجعلها مركزًا لخطط “اليوم التالي” لقطاع غزة بعد الحرب، إلى عَرضِ المساعدة على تخفيف التوتّرات بين الولايات المتحدة وإيران، يبدو أنَّ الرياض حاضرةٌ بقوّة في كلِّ مكان. يرتبطُ هذا “الدفعُ نحو السلام” بالأجندةِ السياسية لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهي تتمثّلُ بجهودِهِ لتَحسينِ صورته، مع وَضعِ المملكة في صدارة المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وإظهارِ المملكة كلاعبٍ بنّاءٍ على الساحة الدولية.
في جوهره، يرتبطُ هذا التوجُّه الدولي للسعودية ارتباطًا وثيقًا بالسياسة الداخلية للمملكة، ولا سيما جهود بن سلمان للحفاظ على سلطته وتوسيعها. يقود ولي العهد السعودي مشروعًا قوميًّا جديدًا يهدفُ إلى إعادةِ هيكَلةِ “صفقة الحكم” المحلّية في البلاد وتغييرِ صورة الرياض العالمية. تكادُ كلُّ سياسةٍ سعودية، في الداخل والخارج، أن تكونَ نتاجًا ثانويًا لهذا المشروع الجديد، بالإضافة إلى ضرورات بن سلمان النهائية المُتَمَثِّلة في الحفاظ على النظام واستعراض القوة. ومن الأمورِ الحاسِمة في هذا الجهد إعادةُ هيكلة الاقتصاد السعودي نحو موطئِ قدمٍ مُستدام تحسُّبًا لمستقبلٍ يشهدُ انخفاضًا في عائدات النفط. وتُمثِّلُ خطة بن سلمان الاقتصادية الطموحة، رؤية 2030، الأساس الاقتصادي لمشروعه القومي الجديد، الذي يهدفُ إلى ترسيخِ مكانةِ المملكة كمركزٍ اقتصادي رئيس في الشرق الأوسط وسُوقٍ مُربِحة لرأس المال الدولي.
يُعتَبَرُ نجاحُ هذا المشروع القومي بالنسبة إلى بن سلمان أمرًا وجوديًا. إنّهُ الأساسُ الاستبدادي الجديد الذي يأملُ ولي العهد -الحاكم الفعلي للمملكة والذي جمعَ بالفعل سلطةً أكبر من أيِّ مسؤولٍ في تاريخ الدولة السعودية- أن يبني عليه سلطته. لكنَّ نجاحَ هذه الرؤية المحلّية يعتمدُ على أكثرِ من مجرّد السيطرة المُطلقة في الداخل. إنها مُتشابكة مع الأهداف الإقليمية والدولية، ما يجعلها أيضًا مُحرِّكَ السياسة الخارجية السعودية.
على المستوى الإقليمي، يحتاج بن سلمان إلى الهدوء والسلام للتركيز على أجندته المحلّية. لهذا السبب تحوَّلَ من سياسةٍ خارجية عدوانية، تجسّدت في التدخُّل السعودي في اليمن في العام 2015، إلى التركيزِ على خَفضِ التصعيد بدءًا من العام 2020 تقريبًا. وعلى وجه الخصوص، ركّزت السعودية بشدّة على تجنُّبِ الصراع مع إيران، خصمها الإقليمي الرئيس الذي قطعت العلاقات معه في العام 2016. وفي العام 2023، بعد فترةٍ من التواصل الديبلوماسي، أعادت الرياض وطهران العلاقات الرسمية. وواصل الجانبان السعي إلى تحقيقِ انفراجةٍ دقيقة منذ ذلك الحين. ولا ينبغي تفسيرُ هذا الأمر باعتباره توقُّفًا للمنافسة الاستراتيجية الطويلة الأمد بين السعودية وإيران، بل باعتباره مناورة انتهازية من كلا الطرفين، نظرًا للسياقات الإقليمية والدولية المُتَغَيِّرة فضلًا عن قلقِ الجانبَين المتزايد بشأنِ القضايا المحلّية المُلِحّة.
في الآونة الأخيرة، تزايدَ القلق في الرياض بشأن احتمالاتِ نشوبِ صراعٍ إقليمي كبير في أعقابِ حربِ غزّة وتَصاعُد التوتّرات بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة. ومما زاد من حدّة هذه التوتّرات المُتصاعدة المخاوف بشأن البرنامج النووي الإيراني، حيث أصبحت طهران الآن أقرب إلى القدرة على تصنيع سلاح نووي من أيِّ وقتٍ مضى منذ اكتشاف برنامجها لتخصيب اليورانيوم في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وخوفًا من أن تؤدّي حربٌ بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة إلى استنزاف المنطقة بأكملها وزعزعة استقرارها، تَعرُضُ الرياض التوسُّطَ بين طهران وواشنطن، على أمل أن تتمكَّنَ من تجنُّبِ ومَنعِ مثل هذه النتيجة.
كما يَحرُصُ بن سلمان على تأكيدِ الدورِ المركزي للمملكة في تشكيلِ المشهد الجيوستراتيجي للشرق الأوسط. وقد تجلّى هذا بشكلٍ خاص خلال العام ونصف العام الماضيين، بعدما أعادت حرب غزة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني إلى صدارة الجغرافيا السياسية الإقليمية. قبل هجوم حركة “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وغزو إسرائيل اللاحق لغزة، أفادت التقارير أنَّ السعودية كانت على وشك الانضمام إلى سلسلة اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية عدة، والمعروفة مجتمعةً باسم اتفاقيات أبراهام، مُقابِل تنازلات أميركية غير مسبوقة. إلّا أنَّ حربَ غزة أعاقت هذا الاندفاع نحو التطبيع، حيث تُطالب الرياض الآن بمسارٍ ملموسٍ نحو إنشاء دولة فلسطينية كشرطٍ أساسي لأيِّ اتفاقٍ مُحتَمَل، بينما أدانت الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة باعتبارها إبادة جماعية. وحتى الآن، لا يوجد ما يشيرُ إلى أنَّ الرياض قد خفّفت من موقفها أو أنَّ إسرائيل على وشك التراجُعِ عن معارضتها الراسخة لقيامِ دولةٍ فلسطينية، ما يتركُ آفاقَ التطبيع غامضة.
لقد تَحَوّلَ تركيزُ الرياض وتغَيَّرَ منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنَّ الولايات المتحدة ستُسَيطِرُ على غزة وتُخلي سكانها الفلسطينيين بالقوة. ويبدو أنَّ ترامب قد تراجع لاحقًا عن تصريحاته، وبات وقف إطلاق النار الهشّ بين إسرائيل و”حماس” على وشك الانهيار، مما يُهدّدُ بتجدُّد القتال. لكنَّ السعودية سارعت إلى قيادةِ اقتراحٍ عربي مُضاد لإعلان ترامب. وبغضِّ النظر عن كيفية سير المحادثات حول حوكمة غزة وإعادة إعمارها بعد الحرب، أو استئناف الحرب، فقد وضعت الرياض نفسها في مركز المفاوضات حول مستقبل القطاع.
على الصعيد الدولي، تسعى السعودية أيضًا إلى ترسيخ مكانتها كفاعلٍ بَنّاء على الساحة العالمية. وفي سعيها إلى تحسين سمعتها الدولية وزيادة نفوذها العالمي، تأمل الرياض في إبراز صورة الحداثة والتقدُّم والاستقرار – لا سيما لدى واشنطن، التي لا تزال الضامن الأمني للمملكة. إلّا أنَّ استراتيجية الرياض الدولية تضمّنت أيضًا زيادة التواصُل مع القوى غير الغربية مثل روسيا والصين، في ظلِّ تحوُّلٍ عالمي أوسع نحو التعدُّدية القطبية. ويَعكُسُ هذا حقيقةَ أنَّ السعودية، على عَكسِ الولايات المتحدة، لا تَنظُرُ إلى عودة التعدُّدية القطبية من منظورٍ محصلتهُ صفر. بل على العكس، تأمل الرياض في الاستفادة من هذا النظام العالمي المُتَغيِّر لمصلحتها الخاصة، من خلال إشراك القوى العالمية فقط من منظورِ أفضلِ السُبُل لتعزيز مصالح المملكة الخاصة. إنَّ لعب دور الوسيط بين روسيا والولايات المتحدة -وكذلك بين أوكرانيا والولايات المتحدة- هو من الطرق التي تتبعها الرياض لكسبِ ودِّ القوى العالمية مع تعزيز نفوذها الديبلوماسي.
ومن الأمور الحاسمة في أجندة بن سلمان الدولية تعزيز علاقاته الشخصية مع ترامب. فقد كانت بينهما علاقةٌ قوية خلال فترة ولاية ترامب الأولى، على الرُغم من أنها لم تكن خالية تمامًا من الخلافات. كانت السعودية أول دولة يزورها ترامب بعد توليه منصبه في العام 2017، وخلال فترة ولايته، أمطر المملكة بأسلحةٍ مُتطوِّرة وتنازُلاتٍ أخرى، مثل حماية بن سلمان لدوره في مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في العام 2018، الذي قُتل في تركيا على أيدي عملاء أمن سعوديين. وهذه المرة، أول مكالمة هاتفية أجراها ترامب مع زعيم أجنبي بعد تنصيبه في كانون الثاني (يناير) كانت مع محمد بن سلمان، واقترح الرئيس أنَّ المملكة العربية السعودية قد تكون مرة أخرى خياره لأول رحلة له إلى الخارج خلال ولايته الثانية ــ وربما حتى للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هناك.
من المُرجّحِ أن تستمرَّ جهود الرياض لكسب ودِّ ترامب. فبعدَ فترةٍ وجيزة من بدء ولاية ترامب الثانية، أعلن بن سلمان أنَّ الرياض ستستثمر 600 مليار دولار في الولايات المتحدة على مدى السنوات الأربع المقبلة. كما يُحافظُ ترامب على علاقاتٍ تجارية شخصية قوية مع المملكة، وكذلك أفراد عائلته. ومن المؤكّد أنَّ الرياض ستسعى إلى الاستفادة من هذه العلاقات في الدفع نحو تنازُلاتٍ أميركية أكبر للمملكة، ووضع السعودية في مركز السياسة الإقليمية الأميركية في الشرق الأوسط.
تُعَدُّ الحماسة الديبلوماسية للرياض استراتيجيةً منخفضة التكلفة تهدفُ إلى تصوير المملكة كطرفٍ فاعلٍ بَنّاء في الشرق الأوسط والعالم. لكن هذا لا يعني أنها خالية تمامًا من المخاطر. إنَّ قدرةَ الرياض على التعامُلِ بنجاحٍ مع التحدّيات والشكوك والمصالح المُتنافِسة التي تدعمُ هذه الصراعات المختلفة سيكونُ لها تأثيرٌ عميق في أجندة محمد بن سلمان محلِّيًا وإقليميًّا ودوليًّا في السنوات المقبلة.
- جون هوفمان هو زميل باحث في معهد كاتو وحاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جورج ماسون الأميركية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية ٌسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.