سجونُ “داعش” ومخيماته في سوريا قنبلةٌ مَوقوتة بين أيدي الشرع وعبدي
تطرح هذه المقالة إشكالية إدارة وتمويل السجون والمخيمات في المناطق الكردية التي تؤوي مقاتلي وعائلات تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) بناء على اتفاق وقف إطلاق النار المُوقَّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وزعيم قوات سوريا الديموقراطية (قسد) مظلوم عبدي واحتمالات تحوُّلها إلى قنابل موقوتة قد لا تُفجّرُ الاتفاقَ فحسب بل سوريا برمّتها.

ملاك جعفر عبّاس*
أثارَ توقيعُ اتفاقِ وقفِ إطلاق النار بين رئيس الإدارة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع وزعيم قوات سوريا الديموقراطية (قسد) مظلوم عبدي ومندرجاته، التي تتحدّث عن إدماجِ “قسد” لقواتها العسكرية والإدارية ضمن الدولة، أسئلة كبرى ومشروعة ليس فقط حول الآليات التنفيذية لهذا الاتفاق إنّما عن مصير السجون والمخيّمات التي تؤوي بقايا مقاتلي وعائلات عناصر ما يُعرَف بتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
والحالُ أنَّ الوظيفة الأساسية ل”قسد” كانت في محاربة الإرهاب تحت مظلة التحالف الدولي ضد “داعش” إثر سيطرة التنظيم على أجزاءٍ واسعة من سوريا والعراق وليبيا، وإعلان أبو بكر البغدادي من على منصّة جامع الموصل إقامة دولة “الخلافة في العراق والشام” في التاسع والعشرين من حزيران (يونيو) ٢٠١٤. وكان الخلاف بين البغدادي وأبي محمد الجولاني زعيم “جبهة النصرة” آنذاك قد اندلع قبل ذلك بسنوات عندما ارتأى البغدادي مُنفردًا إعلان توحيد شطرَي الدولة المزعومة واختلفا على مرجعيتها. فكان قرارُ الجولاني بحصر عمل “جبهة النصرة” بالأراضي السورية. وقد بايعت البغدادي جماعاتٌ متطرِّفة كثيرة أهمها جماعة “بيت المقدس” في سيناء تحت اسم ولاية سيناء ومجلس شورى “شباب الإسلام الليبي” الذي أصبح يُعرَف بولاية ليبيا وجماعة “بوكو حرام” النيجيرية المُتشددة. وأمعنت هذه التنظيمات قتلًا وتنكيلًا بالأبرياء إلى أن سقطت اخر معاقل التنظيم في الباغوز في العام ٢٠١٩ على أيدي “قسد” مدعومةً بقوات التحالف الدولي، وأُوكِلَ إليها مراقبة وتشغيل ١٤ سجنًا يتكدّسُ فيها أكثر من تسعة الاف من المقاتلين نصفهم تقريبًا من السوريين والعراقيين والباقي من حوالي ٥٨ جنسية، إضافةً إلى مخيمَي الهول والروج اللذين يحويان أكثر من ٤٠ ألف من عائلات الدواعش من النساء والأطفال تحديدًا.
وبناءً على هذا الدور، حصلت “قسد” على مئات الملايين من الدولارات من الإدارات الأميركية المُتعاقِبة عبر مظلّة صندوق مكافحة “داعش” للتدريب والتجهيز (CTEF) المُمَوَّل من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون). وقد تلقّى هذا الصندوق (في زمن السلم) بين ٢٠٢١ و٢٠٢٣ ما يفوق ال٤٦٣ مليون دولار، وفي ٢٠١٩ حصل على٣٠٠ مليون دولار. هذه الموازنة كانت تذهب في معظمها لتمويل الرواتب والتدريب والإمدادات اللوجستية وتجهيز البنى التحتية وإعادة ترميمها. وقد اشتكت السفيرة الأميركية الجديدة في الأمم المتحدة (سابقًا في لبنان) دوروثي شيا لمجلس الأمن الدولي الشهر الماضي من أنَّ الولايات المتحدة لا يُمكنها الاستمرار إلى الأبد في تمويل إدارة هذه السجون، ويجب على الدول المعنية المساهمة في التمويل والإسراع في إعادة الدواعش من مواطنيها. وتنشر الولايات المتحدة حوالي ٢٠٠٠ جندي في شمال شرقي سوريا يُشرفون على عمليات التحالف وتُخطّطُ إدارة ترامب لسحبهم في أقرب فرصة ممكنة. وقد نجح الضغط الأميركي في إقناع العراق بإعادة نحو عشرة ألاف منهم وأعادَ بعضُ الدول عددًا قليلًا من النساء والأطفال.
ليس في الاتفاق نصٌّ واضِحٌ حول من سيستلم إدارة هذه السجون والمخيمات في حال اندمجت قوات سوريا الديموقراطية في الجيش السوري، كما ليس واضحًا ما إذا كانت الولايات المتحدة ستُوقِفُ هذا التمويل أو ستحوّله إلى إدارة الشرع، وهو أمرٌ مستحيل طالما استمرّت العقوبات، أم أنَّ التركيبة الجديدة التي يجري الإعدادُ لها من تركيا وبعض دول المنطقة هي التي ستتولّى هذا الأمر في حال انسحبَ الأميركيون من سوريا. ومسألةُ التمويل والإدارة مسألتان محوريتان ليس فقط لأنهما تطرحان إشكالات لوجستية وقانونية، بل في بُعدِهِما الأمني والعسكري. فإذا لم تكن هناك خطةٌ واضحة تضمنُ استمرارَ تأمين هذه السجون والمخيّمات فسوف ترتفع المخاطر الأمنية المتمثّلة أوَّلًا بهجومٍ لعناصر “داعش” عليها لتحرير السجناء.
فقد شنَّ التنظيم عمليةً مُشابهة لاقتحام سجن الصناعة في الحسكة في العام ٢٠٢٢ وحرّر عددًا كبيرًا السجناء. وهذا السيناريو ليس ضربًا من الخيال الآن. فقد عاد التنظيم لينشط وإن بشكلٍ محدود في الشرق السوري في العام ٢٠٢٤. ويذكُر الكاتب المتخصّص في الشأن السوري تشارلز ليستر أنَّ هذه العمليات تضاعفت ثلاث مرات عن معدلاتها في السنوات السابقة. كما إنَّ التنظيمَ يرى في الرئيس أحمد الشرع وادارته الحالية “دُمى تُحرّكها تركيا”. ولا ينسى أحدٌ المعارك التي خاضها الشرع عندما كان يقود “هيئة تحرير الشام” ومن قبلها “جبهة النصرة” عندما كان ما زال يتحرّك تحت اسم أبي محمد الجولاني. والخلاف بين قُطبَي السلفية الجهادية محوري لفهم المخاطر التي تُحيطُ باستلام الإدارة الحالية للسجون والمخيمات بالنظر إلى محدودية قدرتها على ضبط أداء التنظيمات السلفية الجهادية التي انضوت تحت إمرة وزارة الدفاع وقد رأينا ما حدث في الساحل.
ولفت قائد القيادة الوسطى الأميركي الجنرال مايكل إريك كوريلا إلى أنَّ سجناءَ “داعش” في سجون “قسد” هم عبارة عن “جيش كامل قيد الاحتجاز”. وتُحاول “داعش” منذ أعوام الترتيب لعملية كبرى تقتحم فيها هذه السجون تحت شعار “كسر الجدران”، وإذا ما نجحت فستفتح أبواب الجحيم مجددًا في سوريا. فقرب العقيدة السلفية الجهادية بين عناصر “داعش” وبعض التنظيمات المتشددة المحيطة بالشرع يفتح بابًا للتواصل بينها، وقد لا يفتح هذا الباب مُطلقًا، بل يتحوّل الى نزاع دموي في حال تحدّت “داعش” إدارة الشرع. وفي الحالتين تبدو السيناريوهات مُرعبة لسوريا والمنطقة.
إنَّ احتمالَ تقاطُع اجندة “داعش” مع أجندات لاعبين إقليميين ومحلّيين أجادوا في السابق استخدام هذه الورقة للدفع بأجنداتهم أيضًا مطروحٌ. فإيران استخدمت ولا تزال تستخدم حجة قتال التكفيريين للتدخّل في سوريا وحماية ما كان يُعرَف ب”محور المقاومة”، وقد زجّت ب”حزب الله” وفصائل متنوّعة عراقية وأفغانية وباكستانية في الحرب منذ العام ٢٠١٣ تحت هذه الذريعة. وفتحت تركيا حدودها لمجاميع من المتشدّدين تقاطروا من مختلف أصقاع العالم للدخول إلى سوريا وأمّنت طرق الإمداد والتهريب من دون أن تتبنّى أو تؤيد صراحةً أيًّا منهم. وكان للعفو الذي أصدره بشار الأسد في ٢٠١١عن مجاميع من الإسلاميين المتشدّدين من السجون السورية واقتحام سجنَي أبو غريب والتاجي في العراق في ٢٠١٣ أبلغ الأثر في تحول قدرات تنظيم “القاعدة” ومن بعده “داعش” من مجموعات صغيرة تشنُّ عمليةً هنا أو هناك، إلى جيوشٍ قادرة على حُكمِ مساحاتٍ شاسعة بين سوريا والعراق وفي إدلب. كما استخدمت إسرائيل الذريعة نفسها للتدخُّل في جنوب سوريا بهدف تقسيمها. وأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لسردها كلها تُثبتُ أنَّ تقاطع المصالح أفسح (ولا يزال) ثغرات في المشهد الأمني الإقليمي للتطرُّف الإسلاموي لتخريب المنطقة. وليس من المستبعد أن تقومَ أيادٍ خفيّة بمساعدة تنظيم “داعش” في مسعاه لتقلب الطاولة رأسًا على عقب.
لذا من الضروري إبقاء هذا الملف تحت السيطرة المُحكَمة للتحالف الدولي حتى توضع آلية قانونية ولوجستية لمحاكمة هؤلاء واستردادهم إلى بلدانهم الأصلية، وتثبيت نسب وهوية مئات الأطفال غير المسجلين في دائرة نفوس معترف بها، وفتح برامج تعليم وتأهيل وإعادة اندماج في المجتمع.
- ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة صحافية وإعلامية لبنانية متخصّصة في دراسة الجماعات المسلحة. يمكن التواصل معها عبر “لينكد إن” على: linkedin.com/in/malakjaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.