إنفتاحٌ أميركي على إدارةِ الشرع أنجَزَ اتفاقَ المُصالحةِ مع “قسد”: قراءةٌ في الدلالات
تشرحُ هذه المقالة أبعادَ الاتفاق المُوَقَّع بين رئيس الإدارة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع وزعيم قوات سوريا الديموقراطية (قسد) مظلوم عبدي، بوقف إطلاق النار وإدماج مؤسسات “قسد” ضمن الدولة السورية، من زاوية التدخّل الأميركي الذي ساهم في إنجازه والآفاق المفتوحة في سوريا نتيجة التقارب الروسي-الأميركي.

ملاك جعفر عبّاس*
يُشكّلُ الاتفاقُ المُوَقَّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وزعيم قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، مظلوم عبدي، لوقف إطلاق النار على كامل التراب السوري ودمج قوات الأخير ومؤسّساته الأمنية والإدارية في مؤسّسات الدولة السورية، مُنعطفًا تاريخيًا ليس فقط في تاريخ القضية الكردية بل في تاريخ سوريا والمنطقة بشكل أشمل. فللمرة الأولى يتحدث الاكراد عن اندماجهم في الدولة من دون حيثياتٍ جغرافية أو إدارية خاصة تُميّزهم عن باقي المكوّنات، وفي المقابل تعترفُ الدولة بحقوقهم الدستورية ومنها حق تعليم اللغة الكردية. كما ينصُّ الاتفاقُ على تخلّي الأكراد عن احتكارِ استثمار النفط والغاز والثروات الطبيعية في مناطقهم، ووضعها بتصرُّفِ الدولة التي تتعهّد بتنمية المناطق الكردية تنميةً عادلة أُسوةً بباقي المناطق السورية.
أنُشِئت قوات سوريا الديموقراطية في شمال شرق سوريا في العام ٢٠١٥ بهدف محاربة تنظيم “الدول الإسلامية” (“داعش”) الذي احتلَّ أراضٍ واسعة من سوريا والعراق في العام ٢٠١٤. وشكّلت قوات حماية الشعب الكردية عمادها الأساس إضافةً الى مكوّنات أخرى عربية وتركمانية وشركسية وأرمنية وشيشانية. وحصلت على دعمٍ غير مسبوق من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، الذي تقوده الولايات المتحدة وتشكّلُ القوة الضاربة فيه، تجاوز فيه التمويل الأميركي ١٤٧ مليون دولار للعام ٢٠٢٤ فقط. وقد تمكّنت قوات “قسد” من دحر “داعش” في معارك شرسة قادتها بدعمٍ جوي واستخباراتي وعسكري من الولايات المتحدة التي أوكلت الى “قسد” إدارة المناطق المُحَرَّرة وساعدتها على الحصول على عائدات النفط والغاز المُستَخرَجة من نتلك المناطق، ما شكّلَ شريان حياة أساسي للأكراد.
من جهتها، ظلت تركيا مُتوجِّسة من هذا التعاون على مدى سنوات الحرب، ودخلت في صدامات مع “قسد” بشكلٍ مباشر وغير مباشر عبر قواتٍ مدعومة منها. وعندما توصّلت تركيا إلى اتفاقٍ مع الزعيم التاريخي الكردي عبد الله أوجلان دعا بموجبه اتباعه من حزب العمال الكردستاني إلى إلقاءِ السلا،ح ورفضت “قسد” الالتزام به، وصل الضغط التركي إلى التهديد بالتدخُّل العسكري لإنهاء الحالة “القسدية” في الشمال الشرقي السوري.
تزامنَ تصاعدُ التهديد التركي مع تدخّلٍ إسرائيلي مباشر في الجنوب السوري بعدما ضرب سلاح الجو الإسرائيلي على مدى ثلاثة أشهر –هي عمر الإدارة الانتقالية في دمشق- مخازن السلاح والآليات الثقيلة وقواعد الجيش السوري مهدّدًا بالسطو على محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء في الجنوب السوري، محتَلًّا قمة جبل الشيخ الاستراتيجية. وقد حرّضَ الإسرائيليون العلويين والدروز والأكراد على الانفصال، لا بل تُشيرُ المعطيات إلى تقاطُعٍ إسرائيلي-إيراني أنتج احداث الساحل الدموية. فلولا غضّ النظر الإسرائيلي عن طرق التهريب والإمداد لما تمكّنَ مَن يوصفون بفلول النظام من بقايا الفرقة الرابعة وقوات النمر والمخابرات وبعض الضباط من تنسيق جهودهم وتنفيذ ما وُصِفَ بالمحاولة الانقلابية على الإدارة الانتقالية. وقد أدت هذه الأحداث الى وقوع مجازر بحقِّ المدنيين من الطائفة العلوية في الساحل والريف تجاوزت حصيلتها الألف شخص، هدّدت بتفجير حرب أهلية كانت ستؤدي، لو وقعت، إلى تشظّي سوريا الى دويلات متناحرة. وفي اللحظة التي أُعلن فيها عن انتهاء العملية العسكرية للقضاء على فلول النظام في الساحل، أُعلِنَ عن الاتفاق بين الشرع وعبدي.
والحال أنه لم يكن مُمكنًا التوصُّل إلى هذا الاتفاق من دون ضوءٍ أخضرٍ أميركي تُرجّحُ المُعطَيات المُحيطة بظروفِ الإعلان عنه أنَّ هذا الضوء وصل إلى مستوى الضغط لإنجازه بسرعة ومن دون الخوض في الاليات التطبيقية خصوصًا بالنسبة إلى دمج التشكيلات العسكرية وإدارة سجون ومخيمات “داعش”. وقد يكونُ استعجالُ التوقيع رسالةً شديدة اللهجة إلى اللاعبين الإقليميين بأنَّ الحُكمَ الدولي قد أطلق صافرة النهاية لمشاريعهم.
ويُشيرُ الشرع في مقابلته مع وكالة “رويترز” إلى أنه ليس هناك تواصُلٌ مباشر مع الأميركيين إلّا أنَّ عبدي في مقابلةٍ مع مجلة “المجلة” السعودية أكّد أن الأميركيين يتوسّطون في المفاوضات بين الإدارة السورية و”قسد” منذ فترة. وقد ذكر الكاتب المُتخصّص في الشؤون السورية تشارلز ليستر في سلسلة تغريدات على منصّة “إكس” أنَّ الجيشَ الأميركي لعبَ دورًا أساسيًا في التواصل بين “قسد” ودمشق، وكان يضغط على “قسد” في الأسابيع الأخيرة لتوافق على الصفقة، وأنَّ شمال شرق سوريا بات يحتضن أزمة محتجزين مُستَعصية بسبب وجود نحو ٩٥٠٠ معتقل من مقاتلي “داعش”، فضلًا عن أكثر من أربعين الفًا من المنتمين ل”داعش” وأسرهم في سجون ومخيمات تحت حكم “قسد”. وبحسب ليستر، فقد نشأت علاقة متينة بين المؤسستين العسكرية والأمنية الأميركية من جهة والإدارة الانتقالية في دمشق للتنسيق، وتبادل المعلومات الاستخباراتية ومنع الاشتباك. وقد أثمر هذا التعاون عن إحباطِ ٨ عمليات كان “داعش” يعدُّ لها في دمشق بفضل المعلومات الاستخباراتية الأميركية. ومن مصلحة الولايات المتحدة أن تنجح هذه الصفقة ما يتيح لها سحب قواتها في وضع مثالي حسب ليستر. وينصحُ ليستر الولايات المتحدة وتركيا أن تبدأا التنسيق أمنيًا وعسكريًا لضمان أن يتمَّ الانتقالُ والانسحاب بالسلاسة المطلوبة. وقد بدأت تركيا بالفعل في إعداد تحالفٍ أمني إقليمي ليحل محل القوات الأميركية المنضوية في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، مضيفًا أنَّ التنسيقَ جارٍ مع مصر والأردن بهذا الشأن، إلّا أنَّ الطريق ما زال طويلًا ويحتاجُ إلى توحيد الجهد بشكلٍ أكبر.
هذه المعلومات إن صحّت، فهي مؤشّرٌ قوي إلى أنَّ حُكمَ أحمد الشرع قد حصل على الموافقة التامة من إدارة دونالد ترمب، وأنَّ وحدة سوريا أصبحت أمرًا محسومًا بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، وأنَّ مشاريعَ التقسيم قد سقطت. وإن لم يَكمُن الشيطان في الآليات التنفيذية لهذا الاتفاق، والتي لا يبدو أنها أُنجِزَت بضعد، فيُمكِنُ القول عندها أنَّ سوريا قد طَوَت مرحلةً من تاريخها، وأنَّ مشاريعَ الدويلات العرقية والطائفية في المنطقة قد ولّت. فلا يمكنُ إهداءُ الشرع هذا النصر التاريخي لو لم يُعطِ بدوره ضمانات للولايات المتحدة، وربما من ورائها لإسرائيل. فإن لم تتحرّك الدولة العبرية في الأيام المقبلة لإجهاض هذا الاتفاق بافتعالِ أحداثٍ تُقوِّضُ الثقة بين طرفيه، فمعنى ذلك أنَّ إسرائيل قد أخذت ضماناتٍ من إدارة الشرع بحمايةِ مصالحها الجيو-استراتيجية المُتمثّلة بدرء النفوذ التركي عن حدودها وتوسيع المناطق العازلة التي تُخطّطُ لإنشائها من الجنوب إلى الشمال الشرقي السوري مرورًا بالخطِّ الفاصل مع الحدود العراقية، وأنَّ الجيش السوري المستقبلي لن يُشَكِّلَ تهديدًا لإسرائيل، وأنَّ الدور الإيراني في سوريا قد انتهى.
وهنا يبدو السؤال مشروعًا، وإن كان مُبكرًا: هل ستكون سوريا هي التالية في توقيعِ اتفاقٍ ابراهيمي للتطبيع مع إسرائيل؟ أما إذا كان هذا التدخُّل الأميركي بمعزل عن موافقة بنيامين نتنياهو والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فمعنى ذلك أنَّ إدارة ترامب بدأت بالحد من جموح إسرائيل في المنطقة، وقد ظهر ذلك في فرض وقف إطلاق النار في غزة على حكومة نتنياهو، وفتح حوار مباشر مع “حماس” تعتبره إسرائيل أنه تحييدٌ لها في أحد اهم ملفاتها الداخلية. وتشير المعلومات الصحافية -الواردة حتى لحظة إعداد هذا المقال- إلى قربِ إنجازِ اتفاقٍ بين وجهاء الدروز والإدارة الانتقالية يسمحُ بدخول القوات الأمنية إلى السويداء وإعادة تفعيل مؤسسات الدولة فيها على أن يُديرها الدروز من أتباع الشيخ وحيد البلعوس والشيخ سليمان عبد الباقي. وإن أُنجِزَ هذا الاتفاق أيضًا فسوف تُحقَنُ دماء كثيرة وستصعب مهمة إسرائيل في ضم الدروز رُغمَ الوعود المليارية بالتنمية والتوظيف التي قدمتها إليهم.
من ناحية أخرى، يُشكّلُ التقارُب الأميركي-الروسي الذي بدأت بوادره تظهر في الملف الأوكراني بارقة أمل لسوريا، ايضًا. فبعد الشلل الذي انتجته الحرب الروسية-الأوكرانية في مجلس الأمن الدولي بسبب التوتّر الروسي-الأميركي، دعت الولايات المتحدة وروسيا لأول مرة لاجتماعٍ تشاوري حول سوريا. ويبدو الأمرُ مُرتبطًا إلى حدٍّ كبير بمسألة قطع الطريق على المشاريع الإيرانية التي تتلاعب بمصير ودم العلويين. فقد مدت روسيا خلال سنوات تواجدها في سوريا روابط ليس فقط مع نظام بشار الأسد، بل مع دوائر اجتماعية وسياسية متعددة داخل وخارج سوريا من خلال دورها في رعاية منصة موسكو المعارضة وتواجدها بين الأهالي من المجتمع العلوي في منطقة الساحل. فإن خطت روسيا نحو ترتيب مبايعة العلويين للشرع ودخولهم في الدولة بعد محاسبة المرتكبين من الطرفين وإجراء مصالحة مجتمعية ضرورية لبناء الثقة ودفن الأحقاد، التي بُنيت على مرِّ سنوات من المظلومية السنّية تحت حكم الأسد، على غرار الاتفاق مع الأكراد والدروز، يكون الشرع أقفلَ الملف الأخطر، وضمنت روسيا حُكمًا مصالحها في القواعد العسكرية على الساحل والعقود الموقَّعة مع الدولة السورية خلال حكم الأسد في مجالات النفط والغاز والمعادن التي وعد الشرع بمراجعتها، وقد بادرت روسيا إلى مدِّ الشرع بكتلةٍ نقدية بالعملة السورية حين احتجب الآخرون وإلى فتح اتصالٍ مباشر بين الشرع وفلاديمير بوتين للتأكيد على انه ما يزال لاعبًا رئيسًا في سوريا وأن روسيا باقية فيها.
وتبقى تحدّياتٌ كبرى تعترض مسار الشرع نحو تثبيت دعائم حكمه ليس أقلها تحرير التراب السوري من الاحتلال الإسرائيلي، وتحويل الاتفاقات إلى إنجازات، وإنجاح الحوار الوطني الذي يتطلّبُ ضمَّ مكوّنات من كلِّ ألوان الطيف السوري إليه، وفتح الحياة السياسية، إضافةً إلى حلِّ المعضلة التي خلقها حل الجيش السوري. والطريق مُمهَّدة أمامه لالتقاط الدعم العربي والدولي وتحويله الى قصة نجاح إن أجاد العبور في حقل الألغام.
- ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة صحافية لبنانية متخصّصة في دراسة الجماعات المسلحة. يُمكن التواصل معها عبر منصة “لينكد إن” على: linkedin.com/in/malakjaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.