السودان ليسَ ملتَزِمًا بإنشاءِ قاعدةٍ بحريةٍ روسية كما يبدو

الشراكة مع روسيا تُقدّمُ للقوات المسلحة السودانية فوائد فورية من خلال الإمدادات العسكرية والدعم الديبلوماسي، لكنها لا تفي باحتياجات السودان الأساسية للاستقرار الاقتصادي والسياسي.

الجنرال عبد الفتاح البرهان: يريد السلاح من روسيا والمال من أميركا.

الفاضل إبراهيم*

أكّدَ وزير الخارجية السوداني علي يوسف في الأسبوع الفائت خلالَ مؤتمرٍ صحافي في موسكو أنَّ خططَ إنشاء القاعدة البحرية الروسية على ساحل البحر الأحمر السوداني ستمضي قُدُمًا، مُعلنًا أنه لا توجدُ “عقبات” أمام تحقيق المشروع. وفي اجتماعٍ مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، صرّح يوسف أن البلدين توصّلا إلى “اتفاقٍ كامل” بشأنِ إنشاءِ المنشأة.

وقد اكتسبت القضية، التي استمرّت منذ العام 2017، اهتمامًا مُتجدّدًا في أعقاب تعليقات يوسف. مع ذلك، فإنَّ الواقع أكثر دقّةً مما يوحي به بيانه، حيث لا يزال احتمالُ إنشاءِ قاعدة روسية بعيدًا على الرُغم من التقارير التي تصف الصفقة بأنها نهائية.

في مقابلةٍ بعد المؤتمر الصحافي، أوضح كبير الديبلوماسيين السودانيين ما يعنيه “الموافقة” في هذا السياق. وأوضح أنه في حين تمَّ التوصُّل إلى اتفاقٍ بشأن القاعدة في وقتٍ مبكر من العام 2020، فإنَّ “الشيءَ الوحيد الذي كان مفقودًا في ذلك الوقت ولا يزال مفقودًا الآن … هو التصديق على الاتفاق من قبل البرلمانَين”.

وتؤكّدُ هذه العقبة الإجرائية على التحدّيات التي تُواجه الاتفاق، خصوصًا وأنَّ السودان لم يكن لديه برلمان فعّال منذ ما يقرب من ست سنوات ويبدو من غير المرجح أن ينتخبَ برلمانًا في المستقبل القريب. تم حل الجمعية التشريعية في البلاد في نيسان (أبريل) 2019 بعد أشهرٍ من الاحتجاجات الجماهيرية المُطالِبة بالإصلاحات الديموقراطية التي أدت إلى إطاحة الديكتاتور السوداني عمر البشير.

وكان البشير بدأ مناقشات حول القاعدة البحرية في العام 2017، خلال اجتماعٍ في سوتشي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في ذلك الوقت، سعى البشير إلى الحماية الروسية ضد ما وصفه بـ”الأعمال العدوانية للولايات المتحدة”.

أدّت هذه المحادثات في النهاية إلى اتفاقٍ أوّلي في العام 2020، الذي بموجبه يُسمَحُ لروسيا بأن تُمَركِزَ ما يصل إلى أربع سفن عسكرية بحرية، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية، في السودان لمدة 25 عامًا. ومع ذلك، منذ سقوط البشير، أرجأت القيادة العسكرية السودانية مرارًا وتكرارًا التصديق على الصفقة، مستشهدةً بالحاجة إلى موافقةٍ تشريعية.

وتزداد هذه التأخيرات تعقيدًا بسبب الحرب الأهلية المستمرة في السودان بين الجيش الوطني و”قوات الدعم السريع”، وهي مجموعة شبه عسكرية أنشأها البشير في الأصل لحماية نظامه من محاولات الانقلاب من قبل الجيش.

لم يُدمِّر الصراعُ الوحشي في السودان البلاد فحسب، بل دفع القوات المسلحة السودانية أيضًا إلى الاقتراب من روسيا، التي قدّمت الدعمَ العسكري والديبلوماسي الحاسم. ساعدت إمدادات الأسلحة من موسكو الجيش السوداني على اكتساب اليد العليا في الحرب، في حين بلغ دعمها الديبلوماسي ذروته في الأمن الدولي باستخدام حق النقض المثير للجدل ضد وقف إطلاق النار الإنساني الذي اقترحته المملكة المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. رحّبت حكومة السودان بروسيا وشكرتها على تدخّلها، بعدما اعتبرت القرار انتهاكًا لسيادتها.

وعلى الرُغم من هذا التعاون، استغلَّ السودان الحربَ كذريعةٍ لتأخير الانتهاء من اتفاقية القاعدة البحرية. بالإضافة إلى تعطيل أيِّ تقدُّمٍ نحو المنشأة العسكرية المقترحة، قلّلَ المسؤولون السودانيون عمدًا من أهمّيتها. ففي مقابلة أجراها في العام الفائت مع قناة “العربية” الفضائية المملوكة للسعودية، قلّلَ مساعد القائد العام للقوات المسلحة السودانية، الفريق ياسر العطا، من نطاقها، ووصفها بأنها مجرّد “مركز دعمٍ لوجستي، وليست قاعدة عسكرية كاملة”.

حتى في ظلِّ السيناريوات المتفائلة بالنسبة إلى روسيا، قد لا تكون لدى السودان هيئة تشريعية قادرة على التصديق على مثل هذه الاتفاقية لمدة عام آخر على الأقل، مع اعتماد الجدول الزمني الدقيق على تنفيذ خارطة طريق سياسية مُقتَرَحة حديثًا طرحتها الفصائل السياسية المتحالفة مع الجيش وأيدها قائد القوات المسلحة السودانية ورئيس دولة السودان الجنرال عبد الفتاح البرهان. تقترح هذه الخطة تشكيل حكومة تكنوقراط بولايةٍ مدّتها عام واحد لحكم السودان حتى يتم إجراء حوار وطني. وبعد هذا الحوار، ستضع البلاد دستورًا جديدًا ثم تُجرى إنتخابات تشريعية لتشكيل البرلمان.

ولكن الأزمة الإنسانية الحالية والدمار الاقتصادي في السودان يجعلان من غير المرجح أن تُشكّلَ القواعد البحرية الأجنبية أولوية بالنسبة إلى الحكومة الانتقالية المحتملة حتى لو تقدّمت خريطة الطريق إلى الأمام. بدلًا من ذلك، يُركّز إطار الانتقال على مخاوف أكثر إلحاحًا: إنهاء الحرب، وإعادة الإعمار بعد الحرب، واستعادة الخدمات الأساسية، ودمج الجماعات المسلحة في الجيش، وإعادة النازحين، والتحضير للانتخابات.

مع ذلك، فقد أثبتت القيادة السودانية قدرتها على اتخاذِ قراراتٍ سياسية مهمّة بدون موافقة البرلمان عندما تكون لديها الدوافع الكافية للقيام بذلك. ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما حدث خلال فترة الانتقال بعد الثورة في نيسان (أبريل) 2021، عندما اتخذت الحكومة المؤقتة، على الرُغم من افتقارها إلى برلمان فعّال ومواجهتها لمعارضة داخلية كبيرة، خطوات كبيرة نحو التطبيع مع إسرائيل من خلال إلغاء قانون المقاطعة الذي يعود تاريخه إلى العام 1958.

للقيام بذلك، استشهدت بالمادة 25 (3) من الإعلان الدستوري المؤقت للسودان لعام 2019، والذي يمنحُ سلطاتٍ تشريعية لاجتماعٍ مشترك لمجلس السيادة ومجلس الوزراء في غياب المجلس التشريعي الانتقالي. ومع ذلك، لم يتم استخدام الآلية نفسها على نحوٍ مُماثل لصفقة القاعدة البحرية الروسية قبل اندلاع الحرب الأهلية في نيسان (أبريل) 2023. لا تزال هذه الآلية غير مستخدمة اليوم، حتى مع اجتماعِ مجلس السيادة ومجلس الوزراء أخيرًا لتعديل الإعلان الدستوري المؤقت لاستيعاب الانتقال الذي تقوده المؤسسة العسكرية. وهذا يعزز الشكوك القائمة منذ فترة طويلة بين المراقبين حول التزام القيادة السودانية بالاتفاق.

بالإضافة إلى ذلك، تتضخّم المخاطر الجيوسياسية المُترتّبة على استضافة قاعدة بحرية روسية بسبب الدعم المباشر من جانب موسكو للمتمرّدين الحوثيين في اليمن، الذين استهدفوا مرارًا وتكرارًا الشحن التجاري في البحر الأحمر تضامُنًا مع الفلسطينيين في غزة منذ بدأت إسرائيل عملياتها العسكرية هناك. وعلى الرُغم من امتناعِ الحوثيين عن شنِّ هجماتهم المزعزعة للاستقرار منذ دخول وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” حيِّز التنفيذ، إلّا أنهم قد يبدَؤون من جديد إذا انهار الاتفاق الهشّ.

إنَّ التحالفَ مع روسيا في ظل مثل هذه الظروف من شأنه أن يضعَ السودان في مرمى القوى الغربية والشركاء الإقليميين الرئيسيين مثل مصر والمملكة العربية السعودية. والجدير بالذكر أنَّ السودان رفض أخيرًا طَلَبَ إيران بالوصول البحري على طول ساحلها على البحر الأحمر بسبب مخاوف مُماثلة بشأن رد الفعل العنيف من جانب هذه القوى الفاعلة.

في حين دفعت الضرورات المُلِحّة للحرب الأهلية القوات المسلحة السودانية نحو الشراكات مع كلٍّ من روسيا وإيران، فقد سعى السودان أيضًا إلى إعادة بناء العلاقات مع الدول الغربية على مدى السنوات الأخيرة. بدأ هذا الجهد قبل إقالة البشير وتسارعَ في ظلِّ الحكومة المؤقتة اللاحقة بقيادة رئيس الوزراء المدني السابق عبد الله حمدوك. أحرزت إدارة حمدوك تقدُّمًا في كسر العزلة الدولية للسودان وكذلك في تأمين تخفيف الديون والتمويل الحاسم من المؤسّسات المالية الدولية، ما وضع السودان على المسارِ نحو مستقبلٍ اقتصادي أكثر استدامة.

مع ذلك، انعكست هذه المكاسب في أعقاب الانقلاب العسكري في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 الذي دبره قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والذي أطاح حكومة حمدوك. قوبل الانقلاب بإدانةٍ دولية، مما أدّى إلى تعليق أكثر من 4 مليارات دولار من المساعدات التي تعهّدت بها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدائنين الأوروبيين للسودان.

وقد جعلت الحرب الأهلية التي تلت ذلك والانهيار الاقتصادي الذي نتج عنها تطبيع العلاقات مع القوى الغربية أولوية أكبر بالنسبة إلى قيادة السودان مُقارنةً بتعميقِ العلاقات مع روسيا، خصوصًا بالنظر إلى الدور الرئيس الذي تلعبه الولايات المتحدة في كلٍّ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث تُعَدُّ أكبر مساهم وتُمارس نفوذًا كبيرًا على قرارات الإقراض في المؤسستين.

وللتغلّب على هذه التحدّيات، استأجرت السودان أخيرًا جماعات ضغط في واشنطن في محاولة لتحسين علاقتها بالحكومة الأميركية. وعلاوة على ذلك، قال سفير السودان في واشنطن إنَّ الاتصالات جارية مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لرفع العقوبات التي فرضتها أخيرًا إدارة الرئيس السابق جو بايدن على برهان بتهمة ارتكاب جرائم حرب مزعومة، فضلًا عن تعزيز التعاون الشامل للسودان مع الإدارة الجديدة.

بالنسبة إلى واشنطن، فإنَّ الانخراطَ البنّاء مع السودان في سيناريو ما بعد الحرب من شأنه أن يُساعدَ على تخفيفِ الأزمة الإنسانية المروّعة في البلاد وتسهيل عودة أكثر من 14 مليون نازح. وهذه العملية جارية بالفعل حيث تستعيد القوات المسلحة السودانية السيطرة على المناطق الوسطى، بما فيها ولايتي الخرطوم والجزيرة، حيث حققت تقريبًا السيطرة الكاملة بعد سلسلة من الانتصارات في ساحة المعركة ضد قوات الدعم السريع.

إنَّ الشراكة مع روسيا تُقدّمُ للقوات المسلحة السودانية فوائد فورية من خلال الإمدادات العسكرية والدعم الديبلوماسي. لكنها لا تفي باحتياجات السودان الأساسية للاستقرار الاقتصادي والسياسي، نظرًا لضعف قدرة روسيا بسبب العقوبات الدولية عليها والضغوط المالية الناجمة عن حربها الجارية في أوكرانيا.

وبالتالي، فإنَّ سعي السودان إلى إقامةِ علاقاتٍ أقوى مع الدول الغربية ذات الموارد الأفضل، وخصوصًا الولايات المتحدة، يُوفّر فرصةً استراتيجية للمشاركة من جانب واشنطن. إنَّ دعمَ انتقال السودان نحو مستقبلٍ أكثر استقرارًا واستدامة هو مفتاحٌ لحماية المصالح الأميركية في المنطقة. إنَّ البقاء على الهامش يعني التنازل عن العقارات البحرية الحيوية لمُنافسٍ جيوسياسي غير مُجَهَّز بشكل جيد لتحقيق الاستقرار في الدولة الهشّة، في حين يُقوّضُ الأمن الإقليمي ونفوذ الولايات المتحدة في أحد أكثر الممرات المائية المتنازع عليها في العالم.

  • الفاضل إبراهيم هو كاتب ومحلل سياسي سوداني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى