تَّقْفِيَةُ الكلام وتفعيلتُه لا تجعلانه شعرًا

هنري زغيب*
القصيدة المجَدِّدة هي بنتُ القصيدة التقليدية. تُشبِهُ أُمَّها، لكنها ليست أُمَّها. فيها جذورٌ من أُمِّها، لكنَّ فيها ملامحَ من روح العصر. أَما إِذا كانت مغايرةً تَمامًا، فهي بنتٌ حَرامٌ بلا أَصْل ولا نَسَب، وليست شرعية. الأَزهارُ الاصطناعيةُ لَم تُلْغِ الورد والزنبق، وشتولُ الخِيَم الزراعية لَم تُلغِ رياحين الحقول.
القصيدةُ الجديدة يَجب أَن تنعجن بالقديم. بالخميرة الأَصلية. فلا خُبزَ من دون عجينٍ أَصليٍّ، ولا عجينَ أَصليًّا من دون خَميرة أَصليَّة.

الاعترافُ بالأُبُوَّة
كان فاليري يقول: “أَنا تلميذ صغير لراسِين”. وبالفعل، لَم يَخُن فاليري واحدةً من القواعد التي اتَّبَعَها راسين. على العكس: بالغَ في التشدُّد، حتى قال الناقد تييري مونييه إن في بعض مقاطع راسين “جَمالًا فاليرِيًّا”. إِذًا، لَم يَخسَر فاليْري بانتمائه إِلى راسين حين قال عن “فيدر” راسين إِنَّها “أَمثَل شِعر أَطلعته فرنسا، وأَنا تلميذُها”، بل تَشَدُّدِيَّتُهُ بالأُصول كافَأَتْهُ أَن جاء ناقدٌ كبيرٌ يشبّه بشِعرِه شِعرَ راسين الذي سبَقه بـ246 عامًا.
مطالعُ التجديد
التجديد: نَفْضُ شيءٍ موجودٍ أَصلًا. وكلُّ تَطَلُّعٍ إِلى التجديد يَجب أَن ينطلق من داخل تراثٍ، وإِلَّا كان ثورةً رعناء وطَفرةً هوجاء قاتلة. فلا نَقَعَنَّ في أَيٍّ من النقيضَين: أَن يَتَنَطَّحَ أحدٌ (بِحُجّة المحافظة على الأُصول مُختَبِئًا خلف نغَمية الوزن والتسجيع والتطريب) فيعمدَ إِلى تقفيةِ كلامٍ سرديٍّ نثْري مسطَّحٍ عاديٍّ موزون غير مشغول في صناعةٍ عالية، أَو أَن يَتَنَطَّحَ آخر (بِحُجّة التجديد والحداثة وحُريةِ أَنْ “يَحقّ للشاعر ما لا يَحُقّ لسواه”) فيعمدَ إِلى تنثير القصيدة حتى تفقد مقوِّماتِها الشعرية.

في مفهوم الحداثة
تفكيك القصيدة الموزونة ليس الحداثة، مثلَما تقْفية الكلام الموزون ليست الشعر. سان جون برس فكَّك القصيدة التقليدية، إِنَّما أَبقى فيها على الرُؤَى في إِيقاعٍ عقلانِيٍّ مدروسٍ حوى طوفانًا من التدفُّق الشعري.
التجديدُ ليس التغيير المرتَجَل. الوردةُ تُجدِّد من داخل العطر، والكنارُ من داخل كرَّاته، وغروبُ الشمس من داخل أَلوانه. ولا يُمكن أَن يكونَ خروجٌ على الداخل بِاسم التجديد، وإِلَّا صار عطرُ الوردة عبقَ دُرّاق، وكرّاتُ الكنار طقطقاتِ كومبيوتر، وغروبُ الشمس أَضواءَ كالِيِيدوسْكوب. تَمامًا كارتكاب إِثْم النثرية باسم الشعر، أَو إِثم الشعرية باسم النثر. لكلِّ كتابةٍ أُبُوَّتُها وبُنُوَّتُها ونظامُها الخاص.
كلاهما في ذاته فنٌّ عظيم
الشعر شِعرٌ والنثرُ نثْر. كُلٌّ إِبداعٌ في ذاته، والخلْطُ بينهما يلغي إشبداعيَّتَيْها معًا. قد يلتقيان في نصٍّ، إِنَّما يظلَّان متمايِزَيْن. النثر لا يذوبُ في الشعر، حتى على اسم نثْرٍ فنّيٍّ أَو جَمالِيٍّ قد يكونُ أَرفعَ فنون النثر، لكنه ليس شِعرًا ولا بِحال، تَمامًا مثلَما القصيدةُ الموزونةُ المقفَّاة هي أَدنَى درجات الشعر (بل النَظم) ولكنها ليست نثْرًا ولا بِحال. النثْر الفنيُّ يُخاطب (وَعيِيًّا) المنطق الجمالِيّ، فيما الشعر يُخاطب (لاوَعييًّا) “الحالة الثانية”. النثْر الفنّيُّ كلامٌ لا يَطمح إِلى أَن يصير شعرًا. بل أَكثر: يُصِرُّ على نثْريّته، وبِها يكتفي ويفاخر. فبين الشعر والنثر ليس ما هو أَعلى وما هو أَدنَى. كلاهُما فنٌّ عظيَم. صناعةُ الشعر راقيةٌ، وصناعةُ النثر راقيةٌ، لكنَّ الشعرَ فنٌّ وحدَه ذو أُصول، والنثرَ فنٌّ وحده ذو أُصول، والفرقُ بينهما صارخٌ، شكلًا ومضمونًا ولغةَ تعبير. كالرسم والنحت: فَنَّانِ لا خلْطَ بينهما. عملُ الريشة غيْرُ عمل الإِزميل. ولا نَمدحُ اللوحة إِن قلْناها “جَميلةً كأَنَّها منحوتة”، كما لا نَمدح المنحوتةَ إِن قلْناها “جَميلةً كأَنَّها لوحة”. أَمَّا ما يُنتجه التطوُّر التكنولوجي من وسائلَ ووسائط، فيبقى في حدود الفصل بين الفنون، ولا يَخلُط بينها مطلقًا.

بين المسكوب والمسبوك
الشعر كلامٌ مسكوبٌ في قلب ومسبوكٌ في قالب، وكلا القلب والقالب يرفض أَن يكون نثرًا. النصُّ الشعريّ (وهو غيْرُ القصيدة) كلامٌ لَم يَعُد نثْرًا لكنه لَم يبلغْ بعدُ لَحظةَ الشعر. فالشعرُ عقدٌ منظومٌ بِدقَّة عجيبة، ينفرطُ لأَيِّ خَلل يصدعه. وواهِمٌ كلُّ مُحاولٍ يظُنُّ أَنّ بِإِمكانه ارتقاءَه ثائرًا أَو مُجدّدًا أَو مبعثرًا أُصولَه ومُشيحًا عنها.
المهمّ تأْسيس القصيدة على أُصولٍ متينة تضْمن خلودَها. والمطلوب: عفويَّةٌ مثقَّفةٌ وطهارةُ كلمات. على الشاعر أَلَّا يُذَكِّرَ بأَحد. أَلَّا يُعيد التجربةَ بل أَن يُكْملها. أَن يكون مُضيفًا مبدعًا، تلميذًا للتراث ومكمِّلًا إِياه. وما إِلَّا بِهذا، يكونُ ابتكاريًّا وصاحبَ ريادة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.