النباهةُ في الخروجِ من بابِ الوَطَنِ العريض
السفير فيكتور الزمتر*
أمّا وقد أبصرت حكومةُ العهد الأُولى في لبنان النورَ –على يد القابلة الترامبية والمبعوثة الأميركية، مورغان أورتاغوس، على ما تقولُ الألسُنُ المُوَشْوِشَة- لا بأسَ من مُراجعةٍ تُقَيِّمُ ما رافقَ ولادتَها من تجاذُباتٍ، وإن لم تخرج عن زواريب السياسة اللُّبنانية، إلّا إنَّها بدت مُتمحورةً، بمعظمها، على صراعٍ بين جيلٍ عازمٍ على الإصلاح وجيلٍ عصيٍّ على التغيير وعلى الفَكاك عن كُرسي التسلُّط!
معروفٌ أنَّ الإنسانَ مفطورٌ بطبعه على شهوة السلطة من فَرطِ أنانيته، ما يجعلُ تحرُّرَه منها ضربًا من المُستحيل. فلَكَم سعى العديدُ من قادة العالم، شرقًا وغربًا، إلى تمديد إقامتهم على عرش الحكم. ومردُّ ذلك عائدٌ لعوامل عدّة، لعلَّ الفسادَ أبرزُها، وِفقَ الباحث الإجتماعي البريطاني”نيكولاس تشيزمان” (Nicholas Cheeseman)، العامل في مجال الديموقراطية والغشّ الإنتخابي … كيف لا، والحُكمُ هالةٌ يزهو بها غرورُ “الأنا”، ويُروى بها غليلُ التسلُّط، وينعمُ بها صيّادو المال السهل، من الحاكم إلى حاشيته وزبانيته من أكَلَة الجبنة المُنافقين .. فالمُلكُ والقُوَّةُ والمجدُ ثالوثٌ يُسْكِرُ الحاكمَ الدنيَوي، بقدر ما يؤرِّقُ ضميرَه اللّاواعي، لما قد تحملُه عادياتُ الزمن من مخاطرَ، ليس فقط على خسارة المال المنهوب من عرق الشعب، بل من مُحاسبةٍ شعبيةٍ مُتأخِّرةٍ، تُشوِّهُ سُمعةَ الحاكم وتُطيح الثروة المُكدَّسة من تعب الناس، هذا إذا لم تنتهِ به إلى السجن، إن نجا من أعواد المشانق!
إنَّ وطنَ الأرز يعيشُ، راهنًا، على مُفترقٍ يتقاطعُ فيه زمنُ القحط الوطني مع هبوب رياح الإصلاح في الوطن الصغير والجوار. واقتناعًا بالقول المأثور بأنَّ اللهَ “يُمهِلُ ولا يُهمِلُ”، قُدِّر، أخيرًا، للوطن المصلوب على مشجب الخارج أن يكونَ له رئيسٌ جديدٌ للجمهورية، مشهودٌ له بالحزم ونظافة الكف. وشاءَ حُسنُ الطالع أن يُؤتَى برئيس حكومةٍ، بمثابة “قاضي القُضاة”، زكَّى عزمَه على الإصلاح تشكيلُ حكومةٍ، نسبيًّا، خارج قيد الإستتباع والمحسوبية الصافية. إنَّ مخاضَ ولادة الحكومة الجديدة، دفعَني إلى تصوُّر دولة رئيس مجلس النواب، النبيه اللمّاح، واقفًا مُتفرِّسًا في المرآةِ، مُراجعًا ما له وما عليه، خلال عُقودٍ من العمل السياسي. وقفةٌ يُمليها البحثُ عن راحة البال تجاه الله والوطن، وتأمُّلًا بمأثرةٍ تُتوجُ المسيرةَ الطويلةَ الزاخرةَ بما يُرضي الضمير. وهل ثمَّةَ ما هو أنبلُ من مكاشفة مُكوِّنات الشعب بأنَّ الوطنَ لن يكونَ بخيرٍ طالما بقينا مُتخندقينَ وراء متاريسنا الطائفية والمذهبية ومصالحنا الشخصية؟ لقد اختبرنا جميعُنا، بدون استثناء، سفكَ الدم وذرفَ الدمع، قتلًا وتشريدًا وتدميرًا وتهجيرًا …، حتى صحَّ بنا قولُ المُتنبي: “رماني الدهرُ بالأرزاء حتى فؤادي في غشاءٍ من نِبالِ فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ تكسَّرتِ النصالُ على النصالِ”.
لقد طفحَ الكيلُ بثقافة الحقد والإستفراد والإحتراب عبر الإستقواء بالخارج، ما أذلَّ المواطنَ بلُقمة عيشه، وهجَّرَ أدمغتَه لتُثْريَ الديارَ التي حضنتها بنبوغها … فلا بُدَّ من أن تكونَ نباهةُ الرئيس برّي قد باتت مُقتنعةً بالحاجة إلى استكمال شباب سيبة الحُكم، وإلى دعمها بوجوهٍ عصريةٍ مؤهَّلةٍ لدفق الدم في شرايين الوطن المُتخثِّرة. وفي ما يُشبه تسليمَ المشعل، لا ضيرَ من أن يعمدَ الرئيس نبيه برّي، عميد السياسيين في لبنان، وربَّما في الخارج، إلى الدعوة إلى مؤتمرٍ وطنيٍّ للمُصارحة والمُصالحة، على طريقة جنوب أفريقيا، بالتعاون مع الرئيسين عون وسلام، وُصولًا إلى تسليم اللّبنانيين بوحدانية وحصرية الإنتماء الوطني، بما يجعلُ المُواطنةَ قاسمَنا المُشترك والأوحد. إذ، لا خلاصَ لنا إلّا بالعودة إلى حُضن الوطن الدافئ، عودةَ الإبن الشاطر، ضنًّا بزهرة شبابنا الميامين، ومُلاقاةً لفرصةِ إعادة بناء وطن الإنسان على أنقاض وطن الدويلات.
ولئن كان كلُّ رجل دولةٍ سياسيًا، فليس بالضرورة أن يكونَ كلُّ سياسيٍّ رجلَ دولة. فثمَّة مواصفاتٌ تُميِّزُ رجل الدولة عن رجل السياسة، ألفُ بائها الحكمةُ في إدارة الشأن العام بما يخدمُ مصلحةَ الشعب العليا. ومن مزايا رجل الدولة الحُلمُ والعدلُ والمرونةُ والشجاعةُ والعزمُ والإقدامُ وبُعدُ النظر .. بما يضعُ مصالحَ الشعب فوق كلّ اعتبارٍ، وأن يتحرَّكَ في التوقيت المُناسب وبالطريقة المُناسبة، كلَّما حصلَ خطبٌ ما. لقد شهدَت دُوَلَ مُحيطِنا عُقودًا من تأليه الحاكم، من دون التمكُّن من إرساءِ مبدَإِ تداول السلطة حيث أتخمت أنظمةُ الحُكم البلاد بالشعارات الرنّانة وبإقامة النُصُب والساحات للحاكم، والتي ظنَّ أصحابُها أنٍّها ستُخلِّدُ ذكراهم مدى الدهور. وقد فاتهم أنَّ الشعبَ الجائع والتائقَ إلى الحرية والكرامة سينقلبُ عليهم وسيهدُم تماثيلَهم وسينهبُ قصورَهم … لذلك، إنَّ الحريص على إرثه كرجل دولة، عليه أن يعتبرَ من دروس الجوار، وأن يحسبَ حساباً لعدل التاريخ، الذي لا يرحم. فراحةُ الضمير، في خريف العمر، تبقى أفضلَ الأوسمة وأنبلَ المكرُمات الوطنية!
- السفير فيكتور الزمتر هو ديبلوماسي لبناني مُتقاعد.