الانتخاباتُ الرئاسية في لبنان: تاريخٌ من التدخُّلات والتوازُنات الخارجية (4)
عرفت الإنتخايات الرئاسية اللبنانية تدخُّلاتٍ عربية وأجنبية منذ استقلال لبنان في العام 1943، الأمر الذي جعلها لعبة سياسية في أيدي القوى المؤثّرة القريبة والبعيدة. في ما يلي دراسة عن هذه الإنتخابات وتاريخها وكيف كانت تجري حتى الآن تنشرها “أسواق العرب” على خمس حلقات، هنا الرابعة منها.

الدكتور سعود المولى*
تداعيات استقالة سعد الحريري على الوضع السياسي والأمني في لبنان
التحوّلُ السعودي الداخلي بعد سيطرة الأمير محمد بن سلمان على مقاليد الحكم، دفع بسعد الحريري إلى الحائط المسدود. فأعلن يوم 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 استقالته من رئاسة الحكومة في خطاب متلفز من العاصمة السعودية الرياض. وتحدّث الحريري في خطابه عن الأسباب التي دفعته للاستقالة، قائلًا إنه يشعر بوجود دولة داخل الدولة، في إشارة إلى “حزب الله” اللبناني، وإن إيران تسيطر على المنطقة ولديها “رغبة جامحة في تدمير العالم العربي”. كما أعرب عن خشيته من تعرُّضه للاغتيال.[1] ويومها قيل إن السعودية احتجزت سعد الحريري وأجبرته على تلاوة هذا الخطاب المتلفز[2].
أربكت استقالة الحريري خصومه وحلفاءَه على السواء، ليس فقط بسبب الإعلان عنها من الرياض، وإنما أيضًا بسبب مضمون ولهجة خطاب الاستقالة. وبمعزل عن خلفيات الاستقالة (تصعيد الصراع الإيراني-السعودي) والوضع السعودي الداخلي، وعن المعلومات المتضاربة حول وضع الرئيس الحريري في السعودية (هل كان محتجزًا؟ هل كان فقط تحت ضغط سياسي؟) كانت للاستقالة انعكاسات فورية على الساحة اللبنانية؛ إذ عدّها البعض إعلان حرب سعوديًا ضد “حزب الله” في لبنان. ورأى فريق 8 آذار في هذه الخطوة اتفاقًا سعوديًا-أميركيًا لخلق مناخاتٍ تؤدي إلى عدوان إسرائيلي على لبنان[3]. وهذا ما عبّر عنه على كل حال الأمين العام ل”حزب الله” آنذاك السيد حسن نصرالله في كلمة له في ذكرى أربعين الإمام الحسين ويوم شهيد “حزب الله”، الجمعة 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017… فقد أكد نصر الله أنه “لا يتحدّث عن تحليل، بل عن معلومات بأنّ السعودية طلبت من إسرائيل ضرب لبنان، واليوم هناك نقاشٌ في الكيان الإسرائيلي حول هذا الموضوع”[4]، أما فريق 14 آذار فعدّ في بادئ الأمر الاستقالة خطوة جيدة ولو متأخّرة لوقف تمدّد “حزب الله” وإيران وسيطرتهما على مقدرات لبنان كلّها[5].
سبق الاستقالة تجمع قوى الصقور في تيار 14 آذار حول نقد مرير وقاس للمرحلة السابقة عبّر عنه مقال لرضوان السيد الذي كان المستشار الأول للرئيسين رفيق وسعد الحريري قبل أن يقود المعركة ضده. تتلخص النقاط الرئيسة في نقد مرحلة سعد الحريري بالتالي[6]:
- تركيب الحكومة التي تشكلت بعد التسوية الداخلية التي جرت هندستها قبل عام بمبادرةٍ من الحريري، والتي جرى بمقتضاها انتخاب الجنرال ميشال عون رئيسًا للجمهورية، وتشكيل الرئيس الحريري حكومة العهد الأولى، حيث كان ثلثا وزراء الحكومة من أنصار “حزب الله” والتيار الوطني والنظام السوري.
- كما إنّ وزيري العدل والدفاع في الحكومة اشتهرا بالعداء للمحكمة الدولية التي أُنشئت لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري. وقد أقصى وزير العدل (سليم جريصاتي) كل القضاة المسيحيين الذين كان لهم دورٌ في المساعدة على إقامة المحكمة الدولية.
- سياسات وزير الخارجية جبران باسيل، وأهمها فرض قانون للانتخابات أبرز معالمه فصل المسيحيين عن المسلمين، وحملته المستمرة بعنوان “استعادة” حصة المسيحيين في وظائف الدولة، والاتهامات الكثيرة التي طالته بإدخاله الموالين لتياره من غير الأكفّاء إلى الوظائف.
- استمرار باسيل في شنِّ حملات شعواء على النازحين السوريين، يشاركه فيها رئيس الجمهورية، وترويجهما “التطبيع” مع النظام السوري باعتباره السياق الحقيقي لتحالف الأقليات.
- إعلان إيران و”حزب الله” عن انتصار المحور الإيراني، وتوارَد الموفدين الإيرانيين على لبنان، وتوارَد وزراء الحزب والتيار الوطني وغيرهم على سوريا. وكانت آخر خطوات ذلك التطبيع تعيين سفير لبناني جديد لدى سوريا.
- مظاهر الغلبة العسكرية والأمنية والاستراتيجية. فالصدامات والنزاعات الداخلية التي يتدخل فيها الجيش، كانت تجري على وقع التنسيق بين قياداته و”حزب الله”، وذلك منذ احتلال بيروت في 7 أيار (مايو) 2008 وصولًا إلى تسوية الجرود في عرسال ورأس بعلبك مع تنظيمي “النصرة” و”داعش”.
وكان الحريري عاد من زيارة سابقة إلى السعودية يوم الاثنين في 30 تشرين الأول (أكتوبر) واستمر في السياسة الحكومية نفسها التي اشتكت منها الرياض وعدد من صقور “تيار المستقبل” وقاعدته الشعبية، مثل توقيع أوراق السفير اللبناني الجديد في دمشق، واستقباله مستشار مرشد الثورة الإيرانية للشؤون الخارجية علي أكبر ولايتي الذي تحدث من عنده في السراي الكبير عن انتصار محور المقاومة في لبنان وسوريا والعراق”[7]. هذا ناهيك عن اللقاء المثير بين وزيرَي خارجية لبنان وسوريا في نيويورك، ومن بعده إعلان الرئيس ميشال عون في لقائه الإعلامي لمناسبة مرور عام على وصوله الى رئاسة الجمهورية، بأنّ الحلّ لسلاح “حزب الله” مرتبط بالحلّ لمشكلة الشرق الأوسط، ما يعني الإقرار رسميًا بوضع سلاح “حزب الله” خارج إطار أيّ نقاش في المرحلة الحالية أو المستقبَلية[8]. ما جعل الدكتور رضوان السيد يصرخ: “لقد طفح الكيل، وما بقي مجالٌ للأخذ والردّ. فقد صار لبنان بسبب وجود التنظيم الإيراني المسلَّح فيه، وإصرار المسؤولين الكبار فيه على عدم التمييز بين الدولة والتنظيم – خطرًا على نفسه، وعلى الأمن العربي[9]“.
جاءت الاستقالة أيضًا بعد أيام قليلة من الإعلان عن “حركة سياسية جديدة ضمت شخصيات سياسية وثقافية ودينية وإعلامية واجتماعية لبنانية”، تحت اسم “حركة المبادرة الوطنية”، بهدف “حماية الدولة والدستور، ووضع حدّ لاختلال موازين القوى لصالح (حزب الله) ومواجهة مشروع الهيمنة الإيرانية على لبنان”. وعبّر القائمون على الحركة عن رأيهم بأنّ “التسويات التي شهدها لبنان خلال السنة الماضية، بدءًا من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وما تلاها مكّنت إيران من التحكّم بالقرار اللبناني، وزادت من مخاوف الجنوح نحو تطبيع العلاقات مع النظام السوري[10]“. ويبدو أنّ المبادرة التي أطلق نواتها الدكتور رضوان السيد، والمنسق السابق للأمانة العامة لقوى 14 آذار النائب السابق الدكتور فارس سعيد، كانت بالتنسيق مع الوزير السعودي ثامر السبهان الذي تولى منذ شهور التصعيد ضد حكومة الرئيس الحريري.
وقد عبّر الوزير السعودي ثامر السبهان عن هذا التصعيد السعودي في لبنان وحذّر من أنه “سيتم التعامل مع الحكومة اللبنانية على أنها حكومة إعلان حرب علينا”، مخيّرًا اللبنانيين “بين السلام وبين الانضمام إلى “حزب الله””، ومؤكدًا أنّ “المخاطر المترتبة على تصرفات “حزب الله” سوف تكون وخيمة جدًا على لبنان”، وأن “المسارات السياسية وغير السياسية متاحة للتعامل” مع ما سماه “خطر حزب الله[11]“.
لقد قررت السعودية بأن حكومة الحريري كانت أسيرة المحور الإيراني-السوري وبغطاء مسيحي رئاسي. وهي وضعت الاستقالة في خط التصعيد مع إيران و”حزب الله” وعملت على حشد القوى الدولية والعربية خلف هذا الموقف خصوصًا لجهة تشديد الضغط على “حزب الله” وسلاحه. وفي هذا السياق اتخذت السعودية وبعض دول الخليج إجراءات متوقعة كحلقة أولى من حلقات الضغط على لبنان. فبعد أن أكد وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان في تغريدة أنها ستكون “تباعًا في تصاعد مستمر ومتشدد حتى تعود الأمور إلى نصابها الطبيعي”، حظرت كل من السعودية والكويت والإمارات والبحرين “سفر رعاياها إلى لبنان من أي وجهة دولية”، وطلبت من الرعايا الزائرين والمقيمين في لبنان مغادرته في أقرب فرصة ممكنة[12]“.
لكن استقالة الحريري حولته من “مهادن ومساوم” أمام “حزب الله” وباحث عن صفقات (مالية تجارية) مع الوزير باسيل، إلى بطل في الساحة السنية، وجعلته يستعيد في لحظة واحدة كل الشعبية التي كان فقدها خلال الشهور الماضية منذ صفقته مع التيار الوطني الحر، ورفعت هذه الاستقالة سقف الموقف السني. “لذا، فالقرار السعودي الحاسم بكسر الصفقة اللبنانية، وإن بدا خشنًا في شكله ومضمونه، وينذر بتسخين التنافس السعودي-الإيراني في لبنان، فإنه غير قادر على تغيير المعادلات الراسخة في لبنان[13]“.
ويبدو أن التدخل الأميركي-الفرنسي نجح في إطلاق سعد الحريري من الرياض فسافر أولًا إلى باريس ومنها انتقل إلى بيروت حيث قال يوم الخميس 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 “إن الفترة الأخيرة كانت أشبه “بصحوة” تدفع جميع اللبنانيين لتقديم مصلحة بلدهم على أي قضايا إقليمية أخرى… سبق ذلك لقاؤه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، والذي أعلن فيه “أن النأي بالنفس يجب أن يكون ساريًا على الجميع لا على فريق واحد من أجل تحسين علاقة لبنان مع أشقائه العرب”. وفي وقت سابق (الأربعاء 22 تشرين الثاني/نوفمبر) أعلن الحريري من بيروت تريثه في المضي رسميًا باستقالته، بعد نحو ثلاثة أسابيع على إعلانها بشكل مفاجئ في السعودية. وكان عون رفض قبول استقالة الحريري التي تُعَدُّ سابقة في الحياة السياسية اللبنانية، إذ يقضي العرف بأن يتسلّم رئيس الجمهورية الاستقالة خطيًا من رئيس الحكومة خلال لقاء يجمعهما. وقد رحبت واشنطن بعودة رئيس وزراء لبنان وقالت على لسان مسؤول بالخارجية إنها “متفائلة أيضًا بالمناقشات التي أجراها الحريري مع الرئيس عون وبيانه الذي يؤكد مجددًا إلتزامه باستقرار لبنان[14]“.
عاد سعد الحريري عن استقالته في جلسة استثنائية عقدها المجلس ظهر يوم 5 كانون الأول (ديسمبر) 2017 في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وقرر فيها التزام الحكومة اللبنانية بكل مكوّناتها السياسية النأي بنفسها عن أي نزعات أو صراعات أو حروب أو عن الشؤون الداخلية للدول العربية، حفاظًا على علاقات لبنان السياسية والاقتصادية مع أشقائه العرب. وجدد مجلس الوزراء تمسك الحكومة باتفاق الطائف ووثيقة الوفاق الوطني لا سيما البند الثاني من المبادىء العامة التي تنص على أن “لبنان عربي الهوية والانتماء”. وتمنى الرئيس الحريري على الجميع “فتح صفحة جديدة للبنان تحمي استقراره وعلاقاته الأخوية مع البلاد العربية”، وقال: “أنا لن أضحي باستقرار البلد مهما كانت الظروف، وسلامة لبنان وحمايته من الحرائق الأمنية والمذهبية فوق كل اعتبار”. واعتبر “أن وحده النأي بالنفس قولًا وفعلًا تحمينا، وهذا ما أشار إليه الرئيس عون في أكثر من مناسبة[15]“.
انتخابات 2018 النيابية
كان يفترض أن تجري الانتخابات النيابية سنة 2013، ولكن لفشل مجلس النواب في عملية انتخاب رئيس جمهورية جديد، قام بالتمديد لنفسه مرتين حتى 2018. بعد مضي 9 سنوات على انتخابات برلمان 2009 التي أفرزت انقسامات سياسية حادة على الساحة اللبنانية، وذلك لاعتبارات عديدة تتعلق جميعها بدور “حزب الله” في لبنان، وتداعيات أزمات المنطقة وبخاصة الأزمة السورية.
في حزيران (يونيو) 2017، صدر قانون جديد للانتخابات النيابية اللبنانية، يستبدل النظام الانتخابي السابق والذي جرى العمل به منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية سنة 1920. ينص القانون الجديد للانتخابات على نظام التمثيل النسبي، إذ توزع المقاعد المخصصة لكل دائزة انتخابية على القوائم المرشحة بحسب نسبة الأصوات لكل قائمة في الانتخابات. في النظام النسبي الجديد فإن الناخب يقترع لائحة واحدة من اللوائح المتنافسة، مع اختيار مرشح بعينه ضمنها، لمنحه ما يسمى بـ”الصوت التفضيلي”، ما يعني منح الناخبين أصواتهم التفضيلية على أساس طائفي أو مناطقي عشائري.
أجريت الانتخابات النيابية في السادس من أيار (مايو) 2018 في ظل انقسام سياسي بين تحالفين أساسيين: الأكثرية النيابية المتمثلة بما يُسمى بقوى 14 آذار، والمعارضة المتمثلة بما يُسمى بقوى 8 آذار. فازت قوى 8 آذار بغالبية 71 مقعدًا في المجلس النيابي، مقابل 48 مقعدًا لقوى 14 آذار، وفاز تسعة نوّاب مستقلين من خارج التحالفين.
نتج عن هذه الانتخابات استمرار التسوية بين سعد الحريري وتحالف ميشال عون مع “حزب الله” وبالتالي إعادة تكليف سعد الحريري تشكيل حكومة ائتلافية تولت السلطة في كانون الثاني (يناير) 2019.
تداعيات انتفاضة 17 تشرين
بين العامَين 2011 (بداية “الربيع العربي”) و2019، شهد لبنان ثلاث مناسبات تظاهر فيها الناس في الشارع؛ ففي العام 2011 على وقع الثورات العربية التي اندلعت في ذلك العام، هتف متظاهرون أول مرة في بيروت بشعار “الربيع العربي” الشهير: “الشعب يريد إسقاط النظام”. وفي العام 2013، عاد الحراك إلى الشارع على وقع تمديد المجلس النيابي لنفسه بحجة الظروف غير المناسبة لإجراء انتخابات نيابية خوفًا من اضطرابات تعطّلها. وعلى الرغم من أن الحجج المقدمة للتمديد لم تكن مقْنعة، فإن التمديد حدث مرّة تلو أخرى وصولًا إلى العام 2018. ولعل أوسع الحركات تلك التي حدثت في العام 2015، ورفعت شعار “طلعت ريحتكم” بسبب أزمة النفايات. واستهدف ذاك الشعار أطراف السلطة العاجزة عن إيجاد الحلول لمشكلة النفايات. وعلى عكس تحركات العامين 2011 و2013، حظي حراك العام 2015 بتأييد واسع من اللبنانيين الذين كانوا يدركون حجم الفساد وصفقاته وعجز السلطة[16].
يمكن اعتبار التحركات التي عرفها لبنان قبل العام 2019 أشبه بإرهاصات اندلاع الغضب يوم 17 تشرين الأول (أكتوبر)، تعبيرًا عن رفض شطر كبير من اللبنانيين سلوك قوى السلطة وانحيازاتها وفسادها.
حين اندلعت ثورة 17 تشرين، كان رئيس الجمهورية في نظر الثائرين واحدًا من أركان المنظومة الممسكة بالسلطة وليس رأسها أو المتكلم باسمها. وقد ارتفعت صرخات المتظاهرين مطالبة باستقالة الحكومة باعتبارها السلطة التنفيذية. وعلى الرغم من مؤازرة أطراف السلطة وأحزابها رئيس الحكومة سعد الحريري وثنيه عن الاستقالة، فإنَّ الأخير وجد بعد مرور أسبوعين أن استقالته توجه غضب المتظاهرين نحو من استمروا في السلطة، فكانت استقالته في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 هي المكسب الوحيد الذي حققته انتفاضة تشرين، لا لأنَّ هذه الاستقالة غيّرت الوضع القائم، بل لأنها أدّت إلى انفراط العقد المتعدد الأطراف الذي أوصل ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية في العام 2016. والاستقالة مع تداعياتها جعلت مسؤولية تردّي الأوضاع تقع على “حزب الله” وحليفيه المتخاصمين التيار العوني وحركة “أمل”[17].
وكانت المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية تصطدم دائمًا بالمموقف السلبي للمرجعية المارونية. حدث هذا في العام 2005 بعد اغتيال الحريري ومظاهرة 14 آذار التي طالبت بالزحف نحو القصر الجمهوري في بعبدا لإسقاط إميل لحود. لكن البطريركية المارونية لم تكن لتقبل بسقوط ممثل الطائفة المارونية في السلطة أو إقالته. والعامل الطائفي الذي يمنع المضي في المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية الماروني، هو نفسه الذي يمنع المضي في المطالبة باستقالة رئيس مجلس النواب الشيعي.
استقال سعد الحريري من منصبه كرئيس للوزراء يوم 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، معلنًا أنه وصل إلى “طريق مسدود” في محاولة لحل الأزمة نجمت عن الاحتجاجات الضخمة ضد الطبقة الحاكمة وأغرقت البلاد في الاضطرابات. ضربت الاستقالة التفاهمات المعقودة بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل من جهة، وبين الأخير و”حزب الله” من جهة أخرى، لا سيما أن الأمين العام للحزب خرج معلنًا عن “لاءاته الثلاث”: لا إسقاط لهذه الحكومة، لا لإسقاط العهد، لا لانتخابات نيابية مبكرة[18].
تلت استقالة الحريري مسارعة الحلف الحاكم (التيار الوطني الحر- “حزب الله”) إلى تشكيل حكومة برئاسة حسان دياب في 29 كانون الثاني (يناير) 2020، مؤلفة من وزراء روّج لهم على أنهم مستقلّون ومن أصحاب الاختصاص[19]. غير أنَّ الممارسات التي انتهجتها وضعت سريعًا هذه السلطة بوجه الشارع، ليبرز تحكّم الأحزاب بها، مع الممارسات القمعية والأمنية، والاستدعاءات إلى القضاء، واستمرار مبدَإِ المحاصصة، مع الفشل في إدارة الأزمات التي تفاقمت وأدت إلى رفع معدلات الفقر والجوع والبطالة، وزاد من منسوبها تفشّي فيروس كورونا. كذلك شهد لبنان فوضى في سعر صرف الليرة أمام الدولار مع تفلّت السوق السوداء ، ما انعكس انفلاتًا في أسعار السلع الأساسية، وبروز شبكات التهريب، وقيودًا مصرفية أكثر تشددًا، وانقطاع الأدوية والسلع الأساسية، وزيادة تقنين التيار الكهربائي، مرورًا بالفضيحة الكبرى بانفجارِ مرفَإِ بيروت (في 4 آب/أغسطس 2020). تبعت ذلك مماطلة قضائية وعدم محاسبة أي مسؤول، مع ثغرات فاضحة رافقت كيفية التعاطي مع القضية، لتليها استقالة حكومة حسان دياب في 10 آب (أغسطس)، ثم استقالة 8 نواب (ميشال معوض، نعمت إفرام، هنري الحلو، مروان حمادة، سامي الجميل، نديم الجميل، الياس حنكش، بولا يعقوبيان)، وعودة مشهد قوارب الموت في الهجرة السرية بحرًا، والفشل في مواجهة ظاهرة الحرائق التي قضت على المساحات الخضراء[20].
وسط هذا المشهد، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت مرّتين، الأولى في 6 آب (أغسطس) والثانية امتدت ليومين في 31 آب (أغسطس) و1 أيلول (سبتمبر)، جامعًا مختلف الأفرقاء السياسيين. وطرح مبادرة للخروج من الأزمة السياسية والتي كانت أقرب إلى مخرج للقوى السياسية من الفشل في تشكيل حكومة جديدة وزيادة الخلافات بين أركانها[21]. لكن حتى هذه المبادرة والتي أدت إلى تكليف مصطفى أديب تشكيل الحكومة، قابلتها الأحزاب بشروط متبادلة وتعنّت مما دفع أديب للاعتذار في 26 أيلول (سبتمبر)، مُقرًّا بالفشل في مهمته، قبل أن يعود الحريري في ذكرى الثورة التي أسقطته، طارحًا نفسه مرشحًا لرئاسة الحكومة، لم تتوافق حوله كل الكتل النيابية[22]. وهكذا استمرت أزمة تشكيل الحكومة حوالى السنة الكاملة حتى جاء إعلان الرئاسة اللبنانية في 10 أيلول (سبتمبر) 2021 تشكيل حكومة جديدة برئاسة نجيب ميقاتي تألفت من 24 شخصية غير سياسية، وذلك بعد شهر ونصف من تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة على إثر الإستشارات النيابية الملزمة بتاريخ 26 تموز (يوليو) 2021، التي سمته بغالبية 72 صوتًا من 118 نائبًا في المجلس النيابي. وعلى الرُغم من كون الوزراء في غالبيتهم لا ينتمون إلى أيِّ تيار سياسي علنًا، لكن تسميتهم جاءت من أحزاب وقادة سياسيين بارزين، ما جعلهم محسوبين على هؤلاء، وفق تقارير إعلامية[23].
وإلى اللقاء في الحلقة الأخيرة.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
هوامش
[1] https://cutt.ly/iwlR3XtI
[2] https://jp.reuters.com/article/lebanon-politics-hariri-ar1-idARAKBN1DB0SR
[3] إبراهيم الأمين، “الحريري ينتظر الإنقاذ: إلى باريس بلا حكومة”، جريدة الأخبار، 6/11/2017.
[4] http://www.elnashra.com/news/show/1151919/
[5] “الحريري يستقيل من رئاسة وزراء لبنان ويهاجم إيران وحزب الله”، رويترز، 4/11/2017
[6]https://cutt.ly/iwlRgA2B
[7] “ولايتي: محور المقاومة ينتصر في لبنان وسورية والعراق،” الجزيرة نت، 3/11/2017.
[8] http://mtv.com.lb/News/756759
[9] مقال رضوان السيد في جريدة الشرق الأوسط بعنوان: ” سقوط «التسوية» باستيلاء إيران على قرار لبنان!”. الجمعة 10 نوفمبر 2017 ، العدد [14227]
[10] “«مبادرة وطنية» في لبنان لـ«مواجهة الهيمنة الإيرانية» وثيقتها السياسية تدعو إلى احترام الدستور وعودة لبنان للشرعية العربية،” جريدة الشرق الأوسط، 01/11/2017.
[11]“السعودية: سنعامل لبنان كحكومة إعلان حرب بسبب حزب الله” العربية نت، 6/11/2017.
[12] https://cutt.ly/KwlTdNQT
[13] https://acpss.ahram.org.eg/News/16462.aspx
[14] https://cutt.ly/SwlRf5XZ
[15] http://www.pcm.gov.lb/arabic/subpg.aspx?pageid=10664
[16] https://cutt.ly/DwlTg78P
[17] https://bookstore.dohainstitute.org/p-2370.aspx
[18] https://cutt.ly/2wlRhPt6
[19] https://www.bbc.com/arabic/51200727
[20] https://cutt.ly/hwlTljjM
[21] https://www.reuters.com/article/idARAL8N2FY1K3
[22] https://cutt.ly/bwl7aKs0
[23] https://cutt.ly/2wlRjtyt
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.