نكبة “طوفان الأقصى”: متى المُراجَعة؟ أينَ المُساءَلة؟
الدكتور أنطوان حداد*
كما في لبنان مع “حزب الله”، لم يُنهِ اتفاقُ وقفِ إطلاق النار في قطاع غزة وجود حركة “حماس”، لكنه أيضًا لم يُعِد الأمورَ إلى سابق عهدها. الفرقُ أنَّ الواقعَ الجديد في غزة أكثرُ قسوةً ودمويةً وأشدُّ كارثيةً مما هو عليه في لبنان. فإسرائيل لم تتمكّن من القضاء على الحركة، لكنها نفّذت تهديداتها حرفيًا، وحوّلت القطاع إلى أرضٍ محروقة. السؤال الأهم اليوم ليس بقاء “حماس” كتنظيم، بل بقاء غزة ككيان مجتمعي وحياة بشرية قابلة للاستمرار.
إنَّ نكبةَ غزة ليست مجرد نتيجة للعدوان الإسرائيلي، بل هي أيضًا نتيجة مباشرة لقرار “حماس” الأحادي بخوضِ حربٍ طاحنة من دون تفويضٍ شعبي، ومن دون أيِّ حسابٍ للكلفة والنتائج. هذه الحرب لم تجلب شيئًا للأقصى ولا لغزة بقدر ما كانت مغامرة سياسية وعسكرية قررتها قيادة “حماس” في غرف مغلقة، ودفعت ثمنها كل عائلة فلسطينية في القطاع.
ما الذي تبقّى بعد وقف إطلاق النار؟ وما الذي تغيّر؟
ما حدث في غزة يتجاوز كل ما عرفه الفلسطينيون منذ نكبة 1948. مليونان ونصف مليون فلسطيني دُمّرت حياتهم بالكامل، خمسون ألفًا قُتلوا، نصف مليون جُرحوا، عائلات بأكملها اختفت من السجل المدني، مدن ومخيمات وأحياء مُسِحَت من الخريطة، أكثر من نصف بيوت القطاع ومستشفياته ومدارسه ومنشآته الاقتصادية دُمّرت أو أصبحت خارج الخدمة وغير صالحة للحياة.
لكن الكارثة الأكبر ليست الدمار المادي، بل التحوّلات السياسية والعسكرية التي فرضها الاحتلال بغطاءٍ دولي، نتيجة مغامرة “حماس” الفاشلة. الحدود التقليدية للقطاع لم تَعُد موجودة، الممرّات الآمنة التي تفصل بين الشمال والجنوب كرّست واقعًا جديدًا من التقسيم الجغرافي، إسرائيل أعادت احتلال محور فيلادلفيا على الحدود مع مصر، واستحدثت شريط “نتزاريم” الذي قسّم القطاع إلى شطرين معزولين. غزة التي عرفناها لم تعد موجودة، والمجزرة التي ارتُكبت قد لا تكون فصلها الأخير.
الواقع أنه لم يكن مفاجئًا أن تنجو “حماس” كتنظيم، كما حصل مع “حزب الله” في حربه الأخيرة مع إسرائيل، لكن السؤال الحقيقي ليس بقاء “حماس”، بل ماذا بقي من غزة؟ فبعد 15 شهرًا من الموت والخراب، لا يمكن ل”حماس” أن تستمرَّ في تجاهل السؤال الذي يطرح نفسه منذ عقود: ما جدوى التعويل الأحادي على الخيار العسكري والأمني في مواجهة الاحتلال عندما يكون ميزان القوى مختلًا بهذه الدرجة الكارثية؟
السؤال ليس جديدًا بل هو يلاحق كل من يُعنى بالشأن الفلسطيني منذ الانتفاضة الأولى في الثمانينيات الفائتة، و”حماس” لم تفعل شيئًا سوى التشويش عليه، مفضلة الهروب إلى الأمام في مغامرات عسكرية غير محسوبة.
إنَّ ما جرى في غزة لم يعد يسمح بالمزيد من الهروب. المجتمع الإسرائيلي ينزلق أكثر فأكثر نحو اليمين المتطرّف، جُزئيًا بسبب سياسات “حماس” التي عزّزت رواية إسرائيل عن “تهديد الوجود”، فماذا حققت الحركة غير تكريس قبضة اليمين الإسرائيلي وتعزيز شرعية القمع والاستيطان والحصار والتغاضي الدولي عن المجزرة؟
السؤال الآخر الذي لا يقل أهمية هو: من يملك حق اتخاذ قرارات مصيرية بحجم “طوفان الأقصى”؟
هل يحق لتنظيم سياسي–عسكري لا يمثل كلَّ الفلسطينيين أن يقرّر الحرب والسلم نيابة عن شعبٍ بأكمله؟ بأيِّ حقٍّ تتخذ “حماس” قرارًا كهذا من دون العودة إلى هيئة وطنية فلسطينية تمتلك الشرعية والتفويض؟
ووفق أي آلية تُتخذ قرارات كهذه عندما يكون الثمن نكبة بحجم دمار غزة؟
إذا كانت المؤسسات الفلسطينية الرسمية في الظرف الحالي غير مستوفية لكامل شروط التمثيل الشرعي والشعبي، فالأجدر بالأطراف الفلسطينية كافة العمل بجهد لسد هذه الفجوة الأساسية في النضال الفلسطيني عوض اللجوء إلى التفرّد والفرض والمغامرة.
نعم، إسرائيل تتحمّل المسؤولية الأولى عن جرائم الحرب، لكنها ليست الوحيدة المسؤولة عن الكارثة. “حماس” تتحمّل مسؤولية تفرّدها بالقرار، وتعمدها الزج بغزة في معركة غير متكافئة، وتهرّبها حتى الآن من أيِّ مراجعة حقيقية أو محاسبة داخلية.
على قيادة “حماس” أن تقدم الحساب أمام الشعب الفلسطيني، وأمام عشرات الآلاف من العائلات التي فقدت أبناءها، وأمام الأطفال الذين صاروا يتامى ومشردين بلا مستقبل، وأمام مئات آلاف النازحين الذين يبحثون عن مأوى في مدن وبلدات مدمّرة لم يعد فيها شيء للحياة.
هل كانت “طوفان الأقصى” قرارًا فلسطينيًا أم خدمة لمحور خارجي؟
لا يمكن الجزم بأنَّ “حماس” قد نسّقت مسبقًا مع إيران أو غيرها قبل تنفيذ العملية. لكن ما هو مؤكّد أنَّ “حزب الله” انخرط فورًا في “حرب الإسناد” من جنوب لبنان، وتبعه باقي حلفاء إيران في المنطقة، تحت شعار “وحدة الساحات” الذي روّجت له طهران.
خلال الأشهر الماضية، إتضح أنَّ القيادة الإيرانية لم تكن مستعدّة للمواجهة المباشرة مع إسرائيل، وفضّلت التضحية ب”حماس” وغزة، وقبلها ب”حزب الله”، بدل تعريض نفسها للخطر.
وهذا يُعيدُ طرح السؤال المصيري: إلى متى سيظل الفلسطينيون مجرّد أدواتٍ في صراعاتِ المحاور الإقليمية؟
ألم يكن من الأجدى تحييد القضية الفلسطينية عن الصراعات الإقليمية بدل الرهان على قوى خارجية لا يهمّها سوى تحقيق مصالحها الخاصة؟
إلى متى سيستمر الهروب من المحاسبة؟
كما هو حال “حزب الله” في لبنان، من الصعب معرفة ما إذا كانت “حماس” قادرة أو راغبة في إجراء مراجعة حقيقية. لكن المؤكد أنها لن تستطيع بعد اليوم أن تبقى في موقع المُتحكّم الوحيد بمصير غزة بدون مساءلة. لقد ارتكبت “حماس” خطأ استراتيجيًا قاتلًا في حساباتها، وأثبتت أنَّ قيادتها عاجزة عن إدارة معركة بهذا الحجم، وغير مؤهّلة لاتخاذ قراراتٍ مصيرية تمسّ الشعب الفلسطيني ككل.
البديل الوحيد من المراجعة والمحاسبة هو إعادة إنتاج نكبة جديدة، قد تكون أسوأ من كلِّ ما سبق.
- الدكتور أنطوان حدّاد هو باحثٌ لبناني في السياسات العامة، ونائب رئيس جامعة القديس جاورجيوس في بيروت. له مؤلفات عدة منها كتاب “مسيرة الانخراط في الحرب السورية”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره بالفرنسية في صحيفة “لوريان-لو جور” (بيروت).