كيف ستتصرّف الصين في الشرق الأوسط بعدما تَغَيّرَ تَوازُن القوى في المنطقة؟
بينما تتصوّرُ منطقة الشرق الأوسط مستقبلها الاقتصادي وتُخطّطُ لتنويع نموّها الاقتصادي، فإنَّ الولايات المتحدة سوف يفوتها القطار وتترك المجال للصين إذا كانت غير قادرة على الاستجابة لطلبِ المنطقة على الصناعات ذات التكنولوجيا العالية وموارد الطاقة الجديدة.
يُون صَن*
خلال العقدين الماضيين، برزت الصين بسرعةٍ كفاعلٍ اقتصادي وسياسي وأمني مُتزايد الأهمية في الشرق الأوسط، فهي المُستهلِك الأكبر للنفط في المنطقة، وتَضاعَفَ حجمُ التجارة الصينية مع بلدان المنطقة أكثر من ثلاث مرات على مدى السنوات العشرين الماضية، وهي تلعب دورًا متناميًا في السلام والأمن والديبلوماسية الإقليمية. وقد أكّدت استراتيجية بكين في الشرق الأوسط على خطّةٍ شاملة لتوسيع نفوذها في جميع المجالات الرئيسة تقريبًا. وستكون السنوات الأربع المقبلة ضرورية لتسريع انخراطها السياسي والاقتصادي والديبلوماسي في الشرق الأوسط، مع التركيز القوي على تنويع العلاقات الاقتصادية، والمشاركة في السلام والوساطة، وإدارة توازن القوى الإقليمي الذي تحوَّلَ وتغيّر نتيجةً للحرب في غزة.
الاعتمادُ المُستَمِر على نفطِ الشرق الأوسط
عندما تُقَيِّمُ الصين الشرق الأوسط في استراتيجيتها العالمية، فإنَّ مصلحتها الوطنية الأولى تكمنُ دائمًا في أمن الطاقة. ولأنّها تعتمدُ بشكلٍ كبير على واردات الطاقة، فإنَّ الشرق الأوسط شريكٌ لا مفرَّ منه ولا غنى عنه لها. في العام 2022، جاء حوالي 53٪ من واردات الصين من النفط الخام من الشرق الأوسط. ووفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، بلغت واردات الصين من النفط الخام أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 11.3 مليون برميل يوميًا في العام 2023، بنمو 10٪ مقارنة بالعام الذي سبق. وتحتلُّ دول الشرق الأوسط، بما فيها المملكة العربية السعودية والعراق والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان والكويت وقطر وإيران (عبر ماليزيا)، المراكز الأولى في محفظة واردات الطاقة الصينية.
لضمان أمنها في مجال الطاقة، عملت الصين بعنايةٍ لتجنُّبِ الإفراط في الاعتماد على دولةٍ واحدة. وفقًا لمقابلات أجريتها مع خبراء صينيين في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، فإنَّ الحكمةَ التقليدية لمجتمع السياسة الخارجية الصيني هي أنَّ الصين لا ينبغي لها أن تستوردَ أكثر من 20٪ من نفطها الخام من أيِّ دولة واحدة، بغضِّ النظر عمّا إذا كانت روسيا أو السعودية. ومع ذلك، فإنَّ تجنُّبَ الاعتماد على دولةٍ واحدة بشكلٍ مُتَعَمَّد لا يزيلُ اعتماد الصين بشكلٍ كبير على الشرق الأوسط كمنطقة.
على الرُغم من التزام الصين بالحياد الكربوني والتحوُّل الأخضر، فمن غير المرجح أن يؤثّرَ تنويعُ محفظة الطاقة الصينية في اعتماد البلاد على نفط الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع المقبلة. تعتزم الصين الوصول إلى ذروة انبعاثات الكربون بحلول العام 2030، ما يعني أنها ستظل تُوَسّعُ انبعاثاتها الكربونية في العام 2029. نظرًا لأنَّها تعطي الأولوية للحدِّ من الفحم في استهلاكها الإجمالي للطاقة، يُنظَرُ إلى النفط والغاز على أنهما بدائل “أنظف”. بعبارةٍ أخرى، حتى لو كانت الصين تنوي تقليل انبعاثات الكربون، فإنَّ الفحم، وليس النفط والغاز، هو الأولوية للتخفيضات. ولهذا السبب انخفضت نسبة الفحم في إجمالي استهلاك الطاقة في الصين من 68.5% إلى 55.3% من العام 2012 إلى العام 2021، بينما ارتفعت نسبة النفط من 17% إلى 18%.
إنَّ اعتمادَ الصين على الهيدروكربونات في الشرق الأوسط له نتيجتان مباشرتان: أوّلًا، يتعيّنُ على الصين حماية إنتاج الطاقة المستقر في المنطقة، وثانيًا، يتعيّن على الصين حماية النقل الآمن للطاقة من المنطقة إلى أراضيها. وتضمن هاتان الأولويتان أنَّ أيَّ صراعٍ يؤثّر في إنتاج أو نقل شحنات النفط الصينية لن يكون في المصلحة الوطنية للصين. وسوف تُركّزُ استراتيجية الصين في الشرق الأوسط خلال إدارة دونالد ترامب المقبلة بشكلٍ كبير على الحفاظ على إنتاج النفط وشحنه.
تنويعُ المشاركة الاقتصادية
إنَّ التأثيرَ النهائي للحرب في غزة على مستقبل المنطقة غير معروف، ولكنَّ العديدَ من مساراتِ استراتيجية الصين في الشرق الأوسط سوف يتسارعُ بغضِّ النظر عن ذلك. أوّلًا، سوف يتعمّقُ توسُّعُ الصين وتنويع علاقاتها الاقتصادية في المنطقة في القطاعات غير المُرتبطة بالطاقة.
وعلى عكس الحكمة التقليدية القائلة بأنَّ العلاقات الاقتصادية بين الصين والشرق الأوسط تعتمد بشكلٍ كاملٍ على تجارة الطاقة، فقد بلغت صادراتها إلى المنطقة ما يقرب من 229 مليار دولار في العام 2022، في حين تجاوزت الواردات 278 مليار دولار. إنَّ أهمَّ السلع التي تُصدّرها الصين إلى المنطقة هي الإلكترونيات والآلات الميكانيكية والمركبات والهواتف الذكية، في حين تتكوّن وارداتها في المقام الأول من الموارد الطبيعية. وهذا يعني أنَّ الشرق الأوسط أصبح سوقًا مهمًا للصين، وأنَّ بكين ستسعى إلى جعل المنطقة تمتصُّ الطاقة الفائضة الصينية من خلال زيادة صادراتها.
بالإضافة إلى ذلك، تَغوصُ الصين في تطوير البنية التحتية والطاقة الجديدة والنظيفة والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط مع مواءمة استراتيجيات الصين الخاصة مثل “مبادرة الحزام والطريق” مع المخططات المحلية في الشرق الأوسط مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030. في السنوات الأربع المقبلة، ستزيد الصين من تشبُّعِ الشرق الأوسط بحضورها الاقتصادي، بما في ذلك ليس فقط التجارة في السلع ولكن أيضًا في الخدمات. في السنوات الأخيرة، كانت شركات الذكاء الاصطناعي الصينية تبني وتُنشئُ شراكاتٍ بنشاط لتوسيع نطاق وصولها إلى السوق في الشرق الأوسط. ومن المرجح أن يكون التعاون في مجال التكنولوجيا الرقمية بين الصين والدول الإقليمية هو الأكثر تأثيرًا.
مسارُ العلاقات مع الدول الرئيسة
وضعت أزمةُ غزة الديبلوماسية الصينية التقليدية المتوازنة في المنطقة أمام اختبارِ ضغطٍ خطير. حتى العام 2023، كانت الصين قادرةً على الحفاظ على علاقاتٍ جيدة نسبيًا مع جميع الأطراف في المنطقة، بين المملكة العربية السعودية وإيران، وبين العالم العربي وإسرائيل. وقد أصبحت هذه المرونة الاستراتيجية مُمكنة بفضل موقف الصين المنفصل نسبيًا وافتقارها إلى التورّط مع القوى الإقليمية. مع ذلك، فقد أظهرت أزمة غزة محدودية الديبلوماسية المتوازنة الصينية. ومع التحوّلات وعدم اليقين المُرتَبِطَين بتوازُن القوى الإقليمي، فسوف يتعيّن على الديبلوماسية المتوازنة الصينية أن تتكيَّف.
أوّلًا، يرى كثيرون في الصين أنَّ أزمة غزة تُمثّلُ انتكاسةً مؤقتة لعملية المصالحة بين إسرائيل والدول العربية، وأنَّ تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية سوف يحدث في نهاية المطاف. لا ترى بكين نفسها بالضرورة كمستفيد من مثل هذا التطبيع لأنَّ الاتفاقية الأمنية بين واشنطن والرياض، وهي شرطٌ مُسبَق للتطبيع بين إسرائيل والسعودية، من شأنها أن تقوّضَ الجهود الصينية لتشكيل بنية أمنية إقليمية جديدة مع مشاركة ونفوذ أقل لأميركا. حتى الآن، لا تتمتع الصين بنفوذٍ حاسم على اختيار التحالف الاستراتيجي للسعودية. مع ذلك، من المرجح أن تستخدم الصين مشاركتها في مجال الطاقة والاقتصاد والسياسة لتحييد تأثير اتفاقية الدفاع السعودية-الأميركية، وخصوصًا إذا تضمّنت مثل هذه الاتفاقية بنودًا تُعيقُ التعاون الأمني والتكنولوجي بين بكين والرياض. وهذا يعني أنَّ الصين ستُعطي الأولوية لبناء النفوذ وتعزيز العلاقات مع السعودية (وكذلك الدول العربية الرئيسة الأخرى) لمُوازَنة علاقاتها الأمنية المتعمّقة مع الولايات المتحدة. كانت الصين تدفع ضد منظمة أو آلية أمنية إقليمية بقيادة أميركا – ما أطلق عليه الصينيون “حلف شمال أطلسي شرق أوسطي”. وعلى الرُغم من أنَّ المشاركة الأمنية الناشئة والسطحية للصين في المنطقة تعني أن هذه العملية تحدث بشكلٍ مستقل إلى حد كبير عنها، إلّا أنها لا تمنع الصين من العمل للتأثير فيها وعليها.
وعلى نحوٍ مُماثل، سيكون من المهم بالنسبة إلى الصين أن تدعمَ جهود إيران لاستعادة قوتها وهيبتها بعد أن تكبّدت الأخيرة خسائر فادحة نتيجة للهجمات الإسرائيلية على وكلائها الإقليميين، بما في ذلك “حماس” و”حزب الله”. وترغبُ الصين في رؤية بنية أمنية إقليمية ترتكز على توازن القوى، مع إيران كركيزة قوية وشريكة للصين في مواجهة هيمنة الولايات المتحدة على الشؤون الأمنية في المنطقة. وبالتالي، فإنَّ إضعاف إيران لا يفضي إلى هذا النهج. فقد وقّعت الصين على مخطّطٍ مدّته 25 عامًا بشأن المشاركة الاقتصادية مع إيران في العام 2021، لكن التقدّمَ في الاستثمار والتعاون الاقتصادي كان مفقودًا.
في المستقبل، قد تعطي الصين الأولوية لإعادة بناء قوة طهران للحفاظ على توازن القوى في المنطقة. وقد يستلزم ذلك المزيد من واردات النفط الخام الإيراني، والمزيد من الاستثمار في البنية التحتية الإيرانية، ودعم النهج الإقليمي الإيراني. لا تزال الصين تشعر بالقلق إزاء التهديد بفرض عقوبات أميركية، ولكن مثل هذا الدعم من بكين قد يتم بطريقةٍ أقل سياسية نسبيًا مثل التجارة غير المشروعة، ومساعدات التنمية، والدعم الديبلوماسي. وتنفي بكين وجود “محور الشر” مع روسيا وكوريا الشمالية وإيران، ولكن المسؤولين الصينيين يعترفون سرًّا بأنَّ هذه الدول تشترك في قناعات ومصالح في السياسة الدولية مع الصين أكثر مما تشترك فيه الصين مع الولايات المتحدة. وقد تتفاقم هذه المشاعر إذا دخلت العلاقات الأميركية-الصينية في “سقوطٍ حرٍّ” آخر في ظل إدارة ترامب الثانية. وبشكلٍ عام، لن تدع الصين طهران تفشل، وخصوصًا لأنَّ علاقة بكين مع طهران من المفترض أن تساعد على تحقيق التوازن بين سعي المملكة العربية السعودية إلى إقامة علاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
التعامُل مع العلاقة الصعبة مع إسرائيل
كانت العلاقات الصينية-الإسرائيلية الأكثر تضرّرًا من حرب غزة. فقد رفضت الصين تعريف “حماس” كمنظّمةٍ إرهابية، وكانت تنتقدُ إسرائيل و”الكارثة الإنسانية” التي خلّقتها في غزة بشكلٍ لا لبسَ فيه منذ بداية الأزمة. والتحذيرُ الرئيس هنا ليس أنَّ الصين تبنّت موقفًا مؤيّدًا لفلسطين، بل إنَّ الصين تبنّت موقفًا مُعاديًا للولايات المتحدة في أزمة غزة. ولأنَّ بكين ترى في إسرائيل أقرب حليفٍ لأميركا في المنطقة، فإنَّ الموقفَ الافتراضي للصين هو مواجهة مواقف الولايات المتحدة وحلفائها. ولو لم يكن تحالف إسرائيل مع أميركا عاملًا مؤثّرًا، لكان موقف الصين تجاه أزمة غزة قد اتبع على الأرجح سياسة التوازن التقليدية التي تنتهجها بكين. وفي مجتمع السياسة الصيني، من المعترف به على نطاق واسع أنَّ إسرائيل هي “ضحية” للمنافسة بين الولايات المتحدة والصين في ما يتصل بسياسة بكين تجاه الحرب في غزة.
والتحدّي الآن هو كيف ستُديرُ بكين علاقاتها مع إسرائيل بعد أزمة غزة. يشعرُ البعض في بكين بقلق بالغ إزاء بعض الأصوات الإسرائيلية التي تدعو الدولة العبرية إلى تطوير العلاقات مع تايوان ردًّا على موقف الصين المؤيِّد لفلسطين. وقد زار وفدٌ برلماني إسرائيلي تايوان في نيسان (أبريل) 2024، كما إنَّ الدورَ المُحتَمل لتايوان في هجمات إسرائيل على “حزب الله” قد لفت الانتباهَ إلى العلاقات العسكرية الهادئة سابقًا بين إسرائيل وتايوان. وتَعتقدُ قِلّةٌ في الصين أن إسرائيل ستسعى إلى إقامة علاقات ديبلوماسية مع تايوان، ولكن من الواضح أن العلاقة المتطورة لها تداعيات على الصين وأولويتها القصوى المتمثّلة في مبدَإِ “الصين الواحدة”.
إنَّ مسارَ العلاقات الصينية-الإسرائيلية في السنوات الأربع المقبلة سوف يُشكِّلُ سؤالًا رئيسًا في استراتيجية بكين الشرق أوسطية. فالصين لا تُواجهُ صراعًا جوهريًا على المصالح الوطنية مع إسرائيل، والعلاقات المتدهورة بينهما اليوم هي نتيجة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وليس صدامًا مباشرًا بين الصين والدولة العبرية. وعلى هذا، ونظرًا لتقليد الصين في تحقيق التوازن في الديبلوماسية في الشرق الأوسط، فمن المتوقع أن ترغب بكين في إصلاح العلاقات المتضرّرة مع إسرائيل من خلال مجموعة متنوّعة من المشاركات. وسوف يكون هذا صحيحًا بشكلٍ خاص وسيحدث على الفور إذا انتهت أزمة غزة وإذا تمَّ تحقيق تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية.
لكن هناك أيضًا عوامل مضادة. فقد أدت حرب غزة إلى خيبة أمل الإسرائيليين الذين كانوا يُبالغون في تقدير علاقة بلادهم بالصين، حيث كانت إسرائيل تأمل أن تتبنّى الصين موقفًا أكثر تعاطفًا ودعمًا لموقف إسرائيل. وسوف يؤدي الشعور بالخيانة، والاستياء من موقف الصين، وردود الفعل العاطفية تجاه الانتقادات المتكررة من جانب بكين إلى جعل إقناع الشعب الإسرائيلي بأنَّ الصين محايدة وجديرة بالثقة مرة أخرى أمرًا بالغ الصعوبة. قد تسود البراغماتية في النهاية، لكن قد يستغرق الأمر أكثر من أربع سنوات حتى تعود الأمور إلى طبيعتها.
المُشارَكة المُتزايدة في السلام الإقليمي والوساطة في النزاعات
اقترحَ الزعيم الصيني شي جين بينغ لأوّل مرة مفهوم بُنية أمنية جديدة “مشتركة وشاملة وتعاونية ومستدامة” في الشرق الأوسط في العام 2018 خلال منتدى التعاون الثامن بين الصين والدول العربية. في العام 2022، بنى وزير الخارجية الصيني وانغ يي على اقتراح رئيسه شي بشكلٍ أكبر من خلال الدعوة إلى “بُنيةٍ أمنية جديدة في الشرق الأوسط”. بالإضافة إلى طرح المواقف على أساس مبادئ مثل الالتزام بالحوارات السياسية والديبلوماسية، ومركزية الدول الإقليمية، وقدسية ميثاق الأمم المتحدة، قدّمَ وانغ عَرضَين محدَّدين بشأن حوارات السلام الإقليمية: أوّلًا، مؤتمر سلام دولي بشأن تسوية القضية الفلسطينية على أساس حلِّ الدولتين؛ وثانيًا، منصّة حوار أمني خليجي لمعالجة التوتر بين إيران والدول العربية الخليجية. وبناءً على هذه الرؤى، فإنَّ هدفَ الصين ليس استبدال الولايات المتحدة كضامنٍ للأمن في المنطقة. بدلًا من ذلك، تُحاول الصين إزاحة الهيمنة الإقليمية الأميركية من خلالِ تسهيلِ إنشاءِ هيكلٍ أمني جديد في الشرق الأوسط؛ وهو الهيكل الذي يُمكن لبكين أن تلعب فيه دورًا أكثر أهمّية نظرًا لثقلها الاقتصادي المتنامي وعلاقاتها السياسية مع مختلف القوى في المنطقة.
لقد حقّقت الصين نجاحَين في قضايا السلام والصراع في الشرق الأوسط منذ طرحت رؤيتها الجديدة. في آذار (مارس) 2023، توصلت السعودية وإيران إلى اتفاق سلام في بكين “بوساطة” اسمية من جانب الصين. والدور الدقيق الذي لعبته الصين في الاتفاق هو موضوع نقاش حاد، يركز على ما إذا كانت الصين قد سهلت الحوار فقط أو توسّطت بشكلٍ جوهري. مع ذلك، كان هذا أول نجاح كبير للصين في التوسّط في صراعٍ دولي. وجاء نجاح الصين الثاني في تموز (يوليو) 2024، عندما وَقّعَ 14 فصيلًا فلسطينيًا مختلفًا على إعلانٍ لإنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية في بكين. وتنتشر الشكوك حول جدوى الاتفاق وتنفيذه، لكن حقيقة أن الصين ترأست العملية على الأقل توضّح نفوذها المتزايد على هذه القضية.
مع مكانتها الجديدة كصانع سلام إقليمي، ستُعزّز الصين بلا شك مشاركتها في شؤون السلام في الشرق الأوسط على مدى السنوات الأربع المقبلة. ويبدو أنَّ الديبلوماسيين الصينيين وخبراء الشرق الأوسط مستعدون، بعد أن تمَّ حشدهم للمساهمة بالأفكار والخطط لتحقيق هذه الغاية. ومن المتوقع أن تستخدمَ بكين نفوذها الديبلوماسي وقنوات الاتصال العديدة لتأكيد دورها ومشاركتها.
لكن لن يكون من السهل على الصين أن تتوسّط في القضية الإسرائيلية-الفلسطينية. الواقع أنَّ عجزَ بكين الصارخ عن إحداثِ أيِّ فرقٍ في حرب غزة يُشيرُ إلى ضعف الصين كوسيطٍ للسلام. والواقع أنَّ الصين فقدت نزاهتها ومصداقيتها كوسيط في اللحظة التي اختارت فيها جانبًا برفضها إدانة هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وهذا يعني أنَّ الصين لا بُدَّ وأن تزيدَ من بناء علاقاتها ونفوذها على الديناميكيات الداخلية للحركة الفلسطينية من أجل بناء قوة الحركة وتعزيز قدرة بكين على التوسّط في الصراع. وسوف توفر إعادة الإعمار في غزة ولبنان وسوريا، وغيرها من المناطق التي مزّقتها الصراعات بعد الصراع، للصين فرصة جيدة لتحقيق مثل هذا النفوذ، حيث أنَّها مُتَخَصِّصة في بناء البنية الأساسية ولديها الموارد المالية اللازمة لدعمها.
قد تزيدُ الصين أيضًا من جهودها للتوسُّط بين إيران ودول الخليج العربية الأخرى. كانت قيادة إيران في “محور المقاومة” في المنطقة معتدلة إلى حدٍّ كبير ومُفصّلة في التقييم الصيني حتى منتصف تشرين الأول (أكتوبر) 2024، وهو ما قد يشير إلى أنَّ طهران لديها شهية أكبر لمزيد من التحركات التصالحية تجاه السعودية، من بين دول أخرى. ومن المتوقع أن تكتسب علاقة الصين بإيران المزيد من الزخم، حيث سترغب الصين في رؤية استعادة نوع ما من توازن القوى الإقليمي. وستوفر العلاقات المحسَّنة مع كل من إيران والدول العربية للصين وسيلةً لمزيد من النفوذ في الحوارات السياسية.
الوجود العسكري الصيني في الشرق الأوسط؟
من غيرِ المُرجَّح أن يتمَّ حلُّ الشكوك القديمة بأنَّ الصين ستسعى عاجلًا أم آجلًا إلى وجودٍ عسكري في الشرق الأوسط لحماية مصالحها في مجال الطاقة بحلول العام 2029. لا يزال المسرحُ ذو الأولوية للصين هو غرب المحيط الهادئ وسيظلُّ كذلك طالما لم يتمّ حلُّ قضية تايوان. وهذا يعني أنَّ الصين سوف تضطر إلى التعايش مع انعدام الأمن الناجم عن اعتمادها على الشرق الأوسط في مجال الطاقة في الوقت نفسه. وقد ميّزَ المسؤولون التنفيذيون في قطاع النفط الصيني بين القابلية للتأثُّر والضعف، وزعموا أن اعتماد الصين على النفط في الشرق الأوسط قابلٌ للتأثر بالوضع الأمني الإقليمي المتقلّب، ولكن ليس عُرضةً له. وتنبع هذه الثقة من حُكمٍ مفاده أن أحدًا، بما في ذلك الولايات المتحدة والدول المنتجة للنفط، يرغب في رؤية اضطراب كبير في السوق العالمية.
والحجة التي ساقها المسؤولون التنفيذيون في قطاع النفط الصيني لا تأخذ في الاعتبار عن عَمَدٍ المواقف المتطرّفة مثل الصراع العسكري بين الولايات المتحدة والصين والحصار البحري لشحنات النفط الصينية من الشرق الأوسط. ولا يبدو أنَّ بكين ترى حلًّا عمليًا لهذا الضعف. علاوةً على ذلك، فإنَّ بناء الوجود العسكري الإقليمي للصين من الصفر من غير المرجح أن يحمي مصالح الصين النفطية لفترة طويلة مقبلة نظرًا للوجود الناضج والمهم للجيش الأميركي في المنطقة.
لكن هذا لا يعني أنَّ الصين ستكونُ غائبةً عن تطوير علاقاتٍ أمنية أوثق مع دول المنطقة لتعزيز نفوذها حتى في غياب الوجود العسكري المباشر والانتشار. فالصين لديها حاليًا عدد من ترتيبات التعاون الأمني في المنطقة، بما في ذلك التدريبات المشتركة والتعاون في إنتاج الطائرات المسيَّرة مع إيران، والتدريب المشترك ومبيعات الأسلحة إلى الإمارات العربية المتحدة، فضلًا عن مرافق الموانئ ذات الاستخدام المزدوج المحتملة. وبهذا المعنى، من غير المرجح أن تُنشئ الصين وجودًا عسكريًا مباشرًا في الشرق الأوسط في السنوات الأربع المقبلة، على الرُغم من أنَّ تعاون بكين الأمني الإقليمي ونفوذها سوف يتوسّعان من خلال التعاون الثنائي ومبيعات الأسلحة والمرافق ذات الاستخدام المزدوج.
الخلاصة
إنَّ التحدّي المتمثّل في استراتيجية الصين ووجودها في الشرق الأوسط سوف يستمرُّ في النمو خلال إدارة ترامب. وبحلول العام 2029، ستظل المنطقة حجر الزاوية لأمن الطاقة في الصين، ما يجعل من الضروري لبكين زيادة دورها ووجودها ونفوذها في المنطقة لحماية مصالحها الوطنية الحاسمة. وسوف تواصل الصين تنويع علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة، وتَجاوُز المجال التقليدي للطاقة من خلال المغامرة في التحوُّل في مجال الطاقة والاقتصاد الرقمي والبحث عن مُشترين لصادرات التكنولوجيا المتقدّمة.
نتيجة للحرب في غزة، من المتوقع أن تمرَّ علاقات الصين مع الدول الرئيسة في المنطقة بفترةٍ من التعديل. وينطبق هذا بشكلٍ خاص على إسرائيل، حيث عانت العلاقات الصينية-الإسرائيلية من أكبر قدر من الضرر بسبب أزمة غزة. واتباعًا لشعارها المتمثّل في وجود ديبلوماسية متوازنة، ستكون الصين حريصةً على بناء علاقات أعمق مع كلٍّ من إيران والسعودية ويُمكن أن تُساهم في بناء قدرة إيران واستعادة صورة طهران المشوَّهة في المنطقة. ترى الصين نفسها كنوع جديد من صانعي السلام الإقليميين ومن المرجح أن تنوي لعبَ دورٍ أكبر في الوساطة بين الفصائل الفلسطينية المختلفة وإعادة إعمار غزة. وسوف يكون اقتراح “الهندسة الأمنية الجديدة في الشرق الأوسط” سمةً أكثر بروزًا في سياسة الصين تجاه المنطقة بين العامَين 2025 و2029.
إنَّ كلَّ هذه الأمور لها آثارٌ كبيرة على إدارة ترامب المقبلة. فمع توقُّع دعم الرئيس المنتخب دونالد ترامب لأمن إسرائيل، والدفع نحو التطبيع بين السعودية وإسرائيل، والضغط على إيران بمزيدٍ من العقوبات، فإنَّ الصين ستعملُ بنشاطٍ على استغلال السياسة الأميركية وتعزيز المصالح الصينية ونفوذها في المنطقة. وكانت أزمة غزة مثالًا قويًا على كيفية استغلال الصين لموقف واشنطن لتقويضِ الزعامة الإقليمية الأميركية ومصداقيتها. ويمكن لواشنطن أن تطمئن إلى أنَّ الصين مستعدة لمواصلة القيام بذلك على مدى السنوات الأربع المقبلة. وهذا يعني أنَّ سياسة إدارة ترامب في الشرق الأوسط سوف يتعيّن عليها أن تتضمّن إجابة، أو حتى مجرد اقتراحِ اتجاهٍ مستقبلي، للمسألة الحتمية المتمثّلة في وضع فلسطين وقضية حل الدولتين. وغياب ذلك لن يؤدّي إلّا إلى تعزيز قدرة الصين على العمل كداعمٍ ومناصر للشعب الفلسطيني، وبالتالي تعزيز نفوذ بكين وعلاقاتها مع العالم العربي والإسلامي.
إنَّ العلاقات الاقتصادية المتنامية والمتنوعة بين الصين والشرق الأوسط سوف تشكل تحديًا مباشرًا للدور والزعامة التقليديَين للولايات المتحدة. إن استراتيجية المشاركة الاقتصادية القوية التي تتجاوز قضية النفط كانت تفتقر دائمًا إلى دليل السياسة الإقليمية لأميركا. وبينما تتصوّر المنطقة مستقبلها الاقتصادي وتُخطّط لتنويع نموها الاقتصادي، فإنَّ الولايات المتحدة سوف يفوتها القطار وتترك المجال للصين إذا كانت غير قادرة على الاستجابة لطلبِ المنطقة على الصناعات ذات التكنولوجيا العالية وموارد الطاقة الجديدة. إنَّ التعاونَ التكنولوجي بين الصين ودول الشرق الأوسط، وخصوصًا في مجالات الاقتصاد الرقمي والبنية الأساسية، سوف يشكل تحديًا فوريًا لقدرة الولايات المتحدة على تعزيز الأمن والتعاون في المنطقة. ويمكن لإدارة ترامب أن تعملَ مع شركات القطاع الخاص الأميركية لتقديم خيارات بديلة لبلدان الشرق الأوسط من التقنيات والمنتجات الصينية.
- يُون صَن هي زميلة غير مقيمة في معهد بروكينز وزميلة أولى ومديرة مُشارِكة لبرنامج شرق آسيا ومديرة برنامج الصين في مركز ستيمسون. وهي خبيرة متخصّصة في السياسة الخارجية الصينية والعلاقات بين الولايات المتحدة والصين وعلاقات الصين مع الدول المجاورة والأنظمة الاستبدادية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.