لبنان المُفِيد

رشيد درباس*

الحُزنُ يُصيبُ فقط الأشخاصَ الذين يَستَوعِبون.
فرانز كافكا

لم أقرأ في أدبيات السياسة عبارةً أشَدَّ مَقْتًا من شعار “سوريا المُفيدة” التي رفعها النظام السوري السابق، تعبيرًا عن ارتياحه لخروجِ قسمٍ كبيرٍ من أراضي الدولة السورية عن سلطته، وتهجير ما يوازي ثلث الشعب السوري عن بلده. وإمعانًا في البذاءة الوطنية، كان الحاكم يرفضُ عودةَ مواطنيه بحجّة فقدان البنى اللازمة لاستقبالهم، ويستعمل هذا الملف للابتزاز الدولي والعربي، فيما هو في قرارة نفسه مُطمئن أنَّ الأكثرية التي كانت تؤرِّقُ حكمه آلت إلى جزرٍ متناثرة قليلة الخطر، فاقدة التأثير. والغرابة أنَّ الساسةَ المُستبدّين يستمرئون استعمال المفردات في عَكسِ معانيها القاموسية أو المُتعارَف عليها.

أتمنى، أنَّ سوريا المُفيدة تؤول الآن إلى معناها الحقيقي، فيعودُ أهلها إليها، وتبسط سلطتها على أرضها كلّها ومواردها كافةً، لأنها في الأصل دولة تامة ومتكاملة جغرافيًّا وبشريًّا وإنسانيًّا، وكانت ذات ريادة في الزراعة والصناعة، وسيّدة تاريخية في التجارة، مليئة بالنخب الخلّاقة والرائدة في عالم الاستثمار والمصارف والثقافة والسياسة والوطنية، وهي بهذه الصفات لا تليق بها الديكتاتورية على الإطلاق، ولا حُكم الحزب الواحد، أو الطائفة أو المذهب، لأنها رفعت على مرِّ العصور، رايات التحديث والابتكار وتعايش الأنواع والأديان، ومارست الحياة الديموقراطية على مدى قصير، فكانت مثلًا واعدًا جدًّا، من خلال حكّامٍ نخبويين، اتّصَفوا بالعلم والجدارة والنزاهة، غفلوا في لحظة لعينة عن طموح ضابط جاهل، قفز إلى السلطة من دون أن يدري كيف يديرها، ففقد حياته بعد فترة وجيزة، وفقدت الديموقراطية تجربتها، بعد أن سقطت النجوم عن أكتاف الضباط المحترمين، إلى ضباط مغامرين، لا تُذكَرُ آثارهم إلّا مصحوبة باللعنات.

من حُسنِ حظِّ لبنان، توأم سوريا في الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، وشقيق تجربتها السياسية البرلمانية أنَّ عسكره كان بمنأى عن الإغراء الانقلابي، بحُكم التكوين المجتمعي، وحالة الحرية التي تحول دون الكبت والتسلُّط، حتى إنَّ المحاولاتَ الانقلابية التي جرت، سُجِّلَتْ في خانة التهريج أو انعدام التبصُّر. ومن حُسنِ حظِّ لبنان أيضًا، أنه ظلَّ مُفيدًا بتمسُّكِ اللبنانيين ببقائهم فيه رُغمَ كلِّ شيء، وتأكيدهم على وحدةِ الدولة والأرضِ والشعب. لكن لبنان المُفيد الذي نرجوه، تَحيقُ بحقوله الأعشاب الضارّة والطُفيلية، وتسرحُ بين منعطفاته عقارب تلدغُ نفسها إذا لم تجد من تلدغه، وأفكار جنينية متحفّزة لإدخالنا في تجارب جهنّمية جديدة، إذا لم يكن هناك من يخمدها في أرحامها.

يوم الخميس المقبل، قد تدقُّ ساعة الحقيقة، أو ستُقرَعُ أجراس الإنذار النهائي، لأننا نعيشُ اليوم وجهًا لوجهٍ أمامَ فُرصةٍ أخيرة لن تتكرّرَ إلّا بعدَ زمنٍ ومُعاناة.

إنَّ المجلس النيابي يستطيع أن يُخرِجَ لنا رئيسًا للجمهورية، بدونِ أن يُعيرَ التفاتًا إلى ختم “النسر” أو الأسد” وغيرهما من الجوارح والضواري، وهو يستطيعُ أن يُقدّمَ للعرب وللعالم منتجًا سياسيًّا جديدًا وواقعيًّا، مفاده أنَّ الأرضَ اللبنانية التي كانت طويلًا ساحةَ صراع، هي الآن الأرض الصالحة للاستثمار البشري والحضاري، وهي الكنف المؤهّل لضمِّ أهلها، بعد أن تشرّدوا في متاهاتِ الولاءات المتناسلة. فالرئيسُ المُنتَخب، المحجوب الهوية حتى الآن، هو رئيسُ إنقاذٍ وتكوينٍ وترميمٍ وثقةٍ وإرادة، وقدرة، وهذه صفات عزيزة، ربما وجدها اللبنانيون في أعماق وجدانهم مُتمثّلة بشخصٍ أو آخر، ولكنَّ الخطَّ بين رغبة الشعب وممثليه سيِّئُ التوصيل، بل إنَّ كثيرًا من هؤلاء المُمثّلين لا يدري حتى الآن كيف سينتخب ومَن سينتخب.

هنا يقتضي التعويل على مبادرةٍ سياسية شجاعة تُسقِطُ من اعتبارها إمكانية إعادة إنتاج تجربةٍ مضت. إنَّ الظروفَ الموضوعية تبدَّلَت لدرجةٍ يستحيلُ معها تكرار سياسة النعامة وأم الصبي والتكيُّف على مضض، فإسرائيل تُمارس حرية إجرامها في لبنان وسوريا واليمن وفلسطين في غياب أية قوة وطنية أو دولية رادعة، وهي تفرضُ توسُّعًا جغرافيًّا خطيرًا، وتتلكّأ في تنفيذ القرار 1701، ربما استدراجًا ل”حزب الله” إلى كارثة أخرى؛ لكن الحزب المجروح والمتحفّز، ينبغي له أن يخرجَ من لغة المجابهة المنفردة، إلى لغةٍ أخرى تتكوّن مفرداتها من وحدة الدولة والسلطة والانصياع للدستور، لأنَّ بنيته التي أُصِيبت بأضرارٍ فادحة لن تجدَ سقفًا لها إلّا تحت التضامن الوطني، وبالتالي، فإنني ألفت المعنيين إلى أنَّ الأكثرية اللبنانية ترفض أن تبقى في حالةِ الفوضى السياسية المُزمنة، وأنَّ منها مَن يتحضّر للتنصُّل من الصيغة برمّتها، ويذهب إلى “لبنانه المُفيد”، وقد يُصبحُ الأمرُ حالةً مُستشرية “للبنانات مُفيدة أخرى” لن تكونَ إلّا ضررًا وطنيًّا وقوميًّا مُطلقًا.

نحنُ نعيشُ في جغرافيا يحدُّها جنوبٌ مُحتَلٌّ ومُدَمَّر، وشمالٌ قلقٌ ومفتوحٌ على الاحتمالات، وبحرٌ جافٌّ من السُّفن والنِّفط، وجَوٌّ مُلَبَّدٌ بغيومِ الموت، فيما المجلس النيابي يعيشُ في جغرافيا بليدة، بلا حدودٍ دستورية أو أخلاقية لا تهبُّ عليها نفحات الحزن، لأنَّ الحزنَ يُصيبُ فقط الأشخاص الذين يَستَوعِبون.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى