إعادةُ بناءِ لبنان والسلامُ الإقليمي

كابي طبراني*

في حين يَنصَبُّ مُعظَمُ انتباهِ العالم الآن على التطوّرات الجارية في سوريا، فإنَّ الصراعاتَ الخطيرة في بقيّةِ المشرق العربي تُشكّلُ بحقٍّ سببًا أكثر للقلقِ الشديد. مع انحدارِ الوضعِ الإنساني في قطاع غزّة إلى مستوياتٍ مُرَوِّعة جديدة مع التقارير الأخيرة عن تَجَمُّدِ العديدِ من الأطفال الفلسطينيين من شدّة البرد والصقيع حتى الموت، فإنَّ الوضعَ المُتَذَبذِبَ والمُقلِقَ في لبنان يَفرُضُ على أصدقاءِ البلاد وحلفائها التزامًا بالمساعدة، ولكن هناكَ حالة من عدم اليقين حولَ كيفيةِ القيامِ بذلك بشكلٍ فعّال مع ساسةٍ تَنخُرُ عظامهم كل أشكال الفساد والمصالح الشخصية والطائفية.

إنَّ المشكلةَ الأكثر حدّةً في لبنان تكمُنُ في إمكانيةِ انهيارِ وقف إطلاق النار الهشّ بسببِ الانتهاكاتِ الإسرائيلية أو خروقاتِ “حزب الله”. وفي مقابلةٍ مع صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية، قال وزير الدفاع الإيطالي جيدو كروسيتو إن إيطاليا ودولًا أخرى تُذكّرُ جميعَ أطرافِ الصراع بأنَّ مثل هذه الانتهاكات يجب أن تتوقّف فورًا. وأضاف: “لكن بما إنني أتذكَّرُ ما كان يحدثُ قبل أسابيع فقط، فأنا أتقبّلُ بعضَ الانتهاكاتِ على أمل أن تنخفضَ بسرعةٍ إلى الصفر. حتى الهدنة الصعبة فهي أفضل من الحرب المفتوحة التي شهدناها قبل أسابيع”.

ورُغمَ أنَّ هذه “الهدنة الصعبة” بعيدةٌ كل البُعد من الكمال، فإنها على الأقل تُوفّرُ للبنان إمكانيةَ استخدامها لاتِّخاذِ بعضِ الخطوات الحاسمة التالية، وفي المقامِ الأوّل إزالة جبل الأنقاض الذي خلّفه القصفُ الإسرائيلي وإيواء أكثر من مليون نازح. والواقع أنَّ تكلفةَ مثل هذا المسعى من شأنها أن تُشكّلَ تحدّيًا لدولٍ أكبر وأغنى وأكثر استقرارًا من لبنان. ففي الشهر الفائت، قَدّرَ البنك الدولي أنَّ الأضرارَ والخسائر الناجمة عن الحرب ستُكلّف لبنان أكثر من 8.5 مليارات دولار، حيث قدّرَ الأضرار التي لحقت بالبنية الأساسية المادية وحدها ب3.4 مليارات دولار.

وبعدما توقّعَ البنك الدولي بأنَّ الصراعَ قد يؤدّي إلى خفضِ نموِّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان بنحو 6.6% على الأقل هذا العام ــوهو ما يُضاعفُ الانكماش الاقتصادي الحاد المُستمِرّ خمس مرّات ــ فإنَّ الهباتَ والمساعداتَ المُتعدّدة الأطراف سوف تُشَكِّلُ جُزءًا لا مفرَّ منه لإعادة بناء البلاد. لقد نجح مؤتمر المانحين الذي عُقِدَ في باريس قبل شهرين في جمعِ تعهّداتٍ بمئات الملايين من الدولارات وكان بدايةً واعدة، ولكن مثل هذه المساعدات سوف تكونُ أكثر قبولًا إذا شعَرَ المانحون بالثقة في أنَّ التهديدَ بتجدُّدِ الحرب من جانب إسرائيل قد تمّت إزالته، وأنَّ الطبقةَ السياسية في لبنان قادرةٌ على قيادةِ البلاد بشكلٍ مسؤول للخروج من أزماتها المُعقّدة، بما في ذلك عدم قدرة “حزب الله” على إفساد الأمور.

إنَّ الشرطَ الأوّل يتطلّبُ مُمارسةَ ضغوطٍ ديبلوماسية مستمرّة على إسرائيل لحملها على سحبِ قوّاتها من الأراضي اللبنانية. أما الشرط الثاني فيتطلّبُ قيامَ دولةٍ لبنانية قادرة تفرضُ إطارًا قويًا من الشفافية والمُساءلة، ليس فقط في توزيع المساعدات بل وأيضًا في تمويل إعادة الإعمار التي تشتدُّ الحاجة إليها. ولتحقيق هذه الغاية، لا بُدَّ وأن تظهرَ قيادةٌ سياسية نزيهة حاسمة في لبنان، كما لا بُدَّ وأن يؤدّي التصويت في مجلس النواب المقرَّر في التاسع من كانون الثاني (يناير) إلى انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للبلاد، يكون نزيهًا، مستقلًّا، حازمًا، ومُحترَمًا محلّيًا ودوليًا، يُحدِثُ قطيعةً واضحة مع الوضع الراهن المُعيب والمُذِلّ الذي خذلَ البلاد وأذلَّ اللبنانيين في الماضي.

إنَّ تمكينَ عملية إعادة البناء هذه لا يقتصرُ على تلبية الاحتياجات الفورية للشعب اللبناني، على الرُغم من أهمّية هذه الاحتياجات، بل إنه يتعلّقُ في نطاقٍ أوسع بإعادة لبنان إلى مسارِ الاستقرار، وهو شرطٌ يفتقرُ إليه للأسف المشرق العربي الذي يمرُّ بأوقاتٍ مُضطربة وعصيبة للغاية. إنَّ السلامَ لا يعني مجرّد غياب الحرب، وإنَّ جعلَ إعادةِ إعمار لبنان مهمّةٌ، تتّسمُ بالكفاءة والتماسُك والقيادة القادرة والحكيمة، من شأنه أن يساعدَ على ترسيخِ الاستقرار في الداخل، والذي هو أمرٌ حيوي لظهورِ مستقبلٍ أفضلٍ للمنطقة والاستقرار الإقليمي.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى