الفَشَلُ السوري الذريع كما تراهُ موسكو
مَثّلَ سقوطُ نظام بشار الأسد انتكاسةً لروسيا، لكنَّ التركيزَ الأساسي لموسكو يظلُّ على أوكرانيا لأسبابٍ استراتيجية أهم.
الدكتور سيرغي ميلكونيان*
كانت نتيجةُ الأحداثِ التي أعادت تَشكيلَ سوريا مُفاجأةً لكثيرين، بما في ذلك روسيا. لم تكن موسكو مُستَعدّة لمثل هذا السيناريو، وكانت أفعالُها على ما يحدث ردودَ فعلٍ إلى حدٍّ كبير. وكانت النتيجة فشلًا ذريعًا لسياسة روسيا في الشرق الأوسط، ولكن لم تكن هزيمةً استراتيجية. ما زالَ التركيزُ الأساس لروسيا مُنصَبًّا على هزيمة الغرب في أوكرانيا، وهو أمرٌ ضروري ومُلِحٌّ لأمنها ومكانتها كقوّة عظمى. وإذا نجحت روسيا في القيام بذلك، فقد تستعيدُ نفوذها في مناطق أخرى، بما فيها في سوريا والشرق الأوسط. وحتى ذلك الحين، من المُرَجّح أن يسعى الروس إلى الحدِّ من خسائرهم، والحفاظ على نافذةٍ للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، والبقاء على صلة بالساحة الدولية، حتى يحققوا النصر في أوكرانيا.
لقد وَفَّرَ الوجودُ الروسي في سوريا العديدَ من المزايا. أوّلًا، أدّى نجاحُ عمليات روسيا العسكرية في الفترة 2015-2024 وبصمتها على الأراضي السورية إلى ترسيخِ مكانتها كقوّة عظمى، والتي كانت تقوم على ركيزتين مُعلَنتَين: النجاح في مكافحة الإرهاب الدولي ووجود قواعد عسكرية في “الخارج البعيد”، خارج نطاق المصالح الروسية التقليدية على طول حدودها. خدمت المنصّة السورية في شرق البحر الأبيض المتوسط وظيفةً لوجستية مهمة، من بينها توفير الوصول إلى الأصول الروسية في أفريقيا. وكانت المزايا الأخرى هي أنَّ روسيا اكتسبت مصداقية كوسيط، وهو الدور الذي يمكن أن تلعبه في أماكن أخرى في المنطقة. كما اكتسبت نفوذًا في المفاوضات مع إيران وتركيا بشأن المنطقة. سمح النفوذ الروسي في سوريا لموسكو بمنع مشاريع خطوط أنابيب الغاز الطبيعي المحتملة من الخليج العربي إلى أوروبا، والتي يمكن أن تتحايل على روسيا وتتجاوزها. كما سمح لها وجودها باحتواء الإرهاب على “حدودها البعيدة”.
مع سقوط بشار الأسد، فَقَدَت أو تقلّصَ العديد من المزايا المُعلَنة التي تتمتّع بها روسيا في بلاد الشام. ركّزت جهود موسكو الفورية على تجنُّبِ كارثةٍ كاملة. بدأ هذا الأمر بإخراج الأسد من سوريا، وهو ما أظهر استعداد روسيا وقدرتها على ضمان سلامة حليفها. إنَّ توفيرَ ملاذٍ آمن للرئيس المخلوع يُشيرُ إلى أنه على الرُغم من الانتكاسات التي مُنِيَت بها، أظهرت موسكو استعدادها للوفاء بالتزاماتها تجاه النخبة السياسية السورية، حتى لو ثبت أنَّ هذا يشكل مصدرَ إزعاجٍ في علاقتها بالحكومة السورية الجديدة.
ثانيًا، تجنّبت موسكو الإذلال الكامل، على الرُغمِ من الخسارة الجسيمة في صورتها وفشلها في توفير الأمن. فقد توصّلت إلى اتفاقياتٍ سريعة لحماية أمن موظفيها الديبلوماسيين وخفض عدد القوات الروسية في سوريا. ولم تُلحِق فصائلُ المتمرّدين المُتقدّمة الضررَ بالقواعد العسكرية الروسية (خصوصًا في طرطوس وحميميم). وإلى حدٍّ أقل، سمح هذا لموسكو بإنقاذ ماء الوجه قدر الإمكان في سياق الفشل الذي حصل.
بالإضافة إلى ذلك، من منظور موسكو، كان ما حدث في سوريا في المقام الأول هزيمةً لحلفائها السوريين، وليس لروسيا. وعندما يضعفُ الروس، يميلون إلى تحويل اللوم إلى الآخرين. وحسابهم، كما أملهم، هو أنَّ النصرَ في أوكرانيا قد يكون مُمكنًا في الأمد القريب، وبالتالي فإنَّ الهزائم في أماكن أخرى سوف تتلاشى في نهاية المطاف، تمامًا كما حدث مع الضرر الذي لحق بسمعة روسيا نتيجةً لانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان.
ولأنَّ هزيمةَ الغرب في أوكرانيا هي الهدف الاستراتيجي الرئيس الذي سيضمن أمن روسيا ووجودها ومكانتها في المدى الطويل كقوة عظمى، فإنَّ الخسائرَ في مناطق أخرى تُعَدُّ ثانوية. على سبيل المثال، قبل عام من الآن، سحبت روسيا قوات حفظ السلام التابعة لها في جنوب القوقاز في أعقاب الهجوم الذي شنّته أذربيجان على ناغورنو كاراباخ والنزوح القسري للسكان الأرمن المحليين. وكان هذا مخالفًا لما كانت تريده موسكو، لكنها لم تُحوِّل مواردها إلى القوقاز. من وجهة النظر الروسية، تُعَدُّ أوكرانيا الساحة الرئيسة التي تُركّزُ فيها مواردها، والتي يسعى الغرب إلى فَرضِ هزيمةٍ حاسمة على روسيا. وبالتالي، فإنَّ النصرَ هناك ضروري لاستعادة مكانة روسيا في الشرق الأوسط ومجال ما بعد الاتحاد السوفياتي.
وفي ما يَتّصِلُ بأولويات روسيا في سوريا، وبخلاف السيطرة على الأضرار وتخفيف المخاطر، فإنَّ موسكو لديها عددٌ من المخاوف. ومن بين المخاوف المباشرة إدارة التهديدات الإرهابية. فقد ضمّت المجموعات المختلفة التي قاتلت نظام الأسد وكانت معارضة لموسكو مواطنين من روسيا والدول المجاورة لها. وكانت موسكو تعتبر سوريا بمثابة مغناطيس يجتذب العناصر المتطرّفة، مما يسمح لها بإبعاد التهديدات الإرهابية المُتَصَوَّرة عن حدودها. اليوم، لم يَعُد لديها هذا الخيار. وبالتالي، هناك بديلان: التفاوض مع المجموعات المناهضة لروسيا أو التركيز على التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب.
وفي ما يتصل بدور سوريا كحجرٍ أساس للتواصل مع أفريقيا، ستسعى موسكو إلى نقاطِ دخولٍ بديلة إلى القارة السمراء من أجل الحفاظ على وجودها. والخيارُ الأكثر مُلاءَمة هو ليبيا. ففي شرق الجماهيرية السابقة، كثّفت موسكو وجودها منذ ربيع العام 2024، بما في ذلك نقل الأسلحة والمعدات العسكرية من سوريا. ويمنح وقوع ليبيا على البحر الأبيض المتوسط وحدودها البرية مع الدول الأفريقية ميزة على الدول الأخرى. مع ذلك، فإنَّ الوضع العسكري غير المستقر في البلاد قد يُعرّضُ المواقف الروسية للخطر مرة أخرى في المستقبل.
في الوقت نفسه، سوف يستمرُّ اعتمادُ روسيا على تركيا للحصول على نموِّ الفرص اللوجستية. لن يظلَّ الوصول إلى ليبيا مُمكنًا إلّا من خلال نهرَي الدردنيل والبوسفور الخاضعَين للسيطرة التركية. وفي حين قد تُركّزُ روسيا بشكلٍ أكبر على أفريقيا، فمن المرجح أن تُحاولَ الحفاظ على وجودها في سوريا. وستعتمد النتيجة على الاتفاقيات بين أنقرة وموسكو. وقد يكون أحد شروط الاحتفاظ بالقواعد العسكرية الروسية في سوريا عدم استخدامها ضد أي طرف داخل البلاد، بل خدمة أغراض لوجستية، في مقابل تعديلات على موقف موسكو تجاه السلطات السورية الجديدة.
في أعقابِ انهيار نظام الأسد، دخل الصراعُ السوري مرحلةً مختلفة تمامًا. ومن المتوقع أن يظلَّ التدخُّلُ المباشر لروسيا ضئيلًا في انتظارِ ظهورِ توازُنٍ أكثر استقرارًا للقوى بين الفصائل المعنية. وبمجرّد تحقيق الاستقرار، قد تُسَهّلُ موسكو الحوار السياسي، خصوصًا وأنَّ ديبلوماسيتها أظهرت استعداد روسيا للتفاوض مع الجماعات التي وصفتها سابقًا بالإرهابية أو استهدفتها أثناء الصراع، مما يدل على المرونة في السعي إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
إنَّ أحدَ المحرّكات الرئيسة للانخراط الروسي قد يكون الحاجة إلى توفير الاستقرار الخارجي، وخصوصًا إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها بالكامل من سوريا، كما كان مُتَوَقَّعًا خلال فترة ولاية دونالد ترامب السابقة. ويُمكنُ لروسيا أن تَستفيدَ من علاقاتها الثُنائية مع مختلف الفصائل وإحياء صيغة أستانا المُنقَرِضة كأساسٍ لجهود وساطة مُنَقَّحة. وسوف يعتمد الكثير على نتائج المحادثات بين روسيا والقوى المهيمنة في سوريا – تلك التي ستشكل في نهاية المطاف العملية السياسية وتؤكد السيطرة على الأصول الاستراتيجية مثل قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية.
إذا اتخذت روسيا قرارًا سياسيًا باستعادة موقعها في سوريا، فسوف تُحدِّدُ نقاط العودة. وقد يشمل ذلك حماية الأقليات العرقية والدينية أو العمل كقوة موازنة خارجية محايدة. ومن المرجّح أن تصبح سياسة موسكو في الشرق الأوسط أكثر مرونة. وإذا لزم الأمر، يمكنها التعاون مع المنظمات التي تعتبرها إرهابية، كما فعلت مع طالبان. وبالتالي، فإنَّ انسحاب روسيا من الشرق الأوسط غير مُرَجَّح. بل قد تنتظر إلى أن تهدأ العاصفة وتقترح مبادرات لحل الصراعات، واستبدال القوة الصارمة بالنفوذ الديبلوماسي. ومن وجهة نظرها، فإن الانتصارَ على الدول الغربية في أوكرانيا من شأنه أن يوفّر الزخم للتحوُّل نحو نظامٍ عالمي مُتعدّد الأقطاب، ويعني ضمنًا أن إعادة تنشيط دور روسيا في الشرق الأوسط يظل مُمكنًا في الأمد البعيد.
- الدكتور سيرغي ميلكونيان هو زميل باحث في معهد أبحاث السياسات التطبيقية في أرمينيا، يركز على روسيا وإيران. وهو أيضًا أستاذ زائر في جامعة يريفان الحكومية والجامعة الروسية الأرمنية. قبل انضمامه إلى معهد أبحاث السياسات التطبيقية، شغل منصب مساعد رئيس أرمينيا من العام 2020 إلى العام 2022، حيث غطت مهمته دول ما بعد الاتحاد السوفياتي والشرق الأوسط.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.