كتابُ الوسادة وعبقريةُ اللغة الأُم

منظمة اليونسكو: 18 كانون الأول/ديسمبر يوم اللغة العربية

هنري زغيب*

 

(18 كانون الأَول/ديسمبر: اليومُ العالَمي لِلُّغة العربية)  

   

في الكتابة

منذ ربع قرن طلَّقَتْ أَصابعُ يُـمناي ضَمَّ القلَم للكتابة، وانصرَفَتِ العَشْر معًا إِلى مكابس الكومـﭙـيوتر. ومنذُئذٍ ما عدتُ أَمسكتُ القلم، إِذ اعتدتُ الكتابةَ مباشرةً على الشاشة الصغيرة البيضاء، تملأُها تَكْتكةُ أَناملي على المكابس الصامتة كلماتٍ سُودًا على صفحات بيضاء أُوْدِعُها ذاكرةَ هذا الجهاز الإِلكْتروني، مستعيضًا به عن أَكداسٍ من ورق كانت في ثناياها تنامُ كتاباتي كما سطَّرَها خطِّي. وأَخذتُ أَفقِد عادةَ تناوُل القلَم حتى لتصعُب عليَّ اليوم كتابةُ أَسطر ضئيلة بدون أَن تتعبَ يدِي أَو يتعثَّرَ خطِّي بعدما كان جليًّا على تأَنُّقِ تشكيلٍ وجمالِ تخطيط.

هكذا التكنولوجيا أَفقدَتْني إِحدى أَجمل عاداتي لكنها، بالمقابل، كثَّفَت نتاجي وأَغْنَتْهُ وأَمَّنَتْ له بلوغًا أَسرعَ إِلى وُجُهاته.

الجمالُ في لغة الضاد

في القراءة

و… من الكتابة إِلى القراءَة:

منذ مطالعي اعتدتُ اصطحابَ كتابٍ إِلى زمنِ “قبل النوم” فلا أُغمضُ عينيَّ إِلَّا على إِغلاق كتابٍ أَكون صافَحتُ صفْحتَه الأَخيرة، أَو واعدْتُه على لقاءٍ تالٍ في الليلة التالية فلا أَدَعُه يعود إِلى مكتبتي إِلَّا بعدما أُغلق قراءَته على فهرسه الأَخير.

قبل سنواتٍ عادت التكنولوجيا من جديدٍ تُفْقدني عادةً أُخرى من أَجمل عاداتي منذ راح، مكان المولود الوَرَقي بين يدَيَّ – يحلُّ لَوحٌ ذَكيٌّ يحمل لي، رقميًّا، عددًا مفاجئًا من مؤَلفاتٍ ونصوصٍ لم يكن ممكنًا لي قَطفُها بِيَدَيَّ لزمنِ “قبل النوم”.

وفي الحالتين كان عليَّ أَن أَنصاع، لا مُرغَمًا بل مُرغِمًا عادَتي على التأَقْلُم مع كُلِّ جديدٍ، كي أَستلحقَ العصر قبل أَن يَفوتَني جديدُه، فلا أَبقى قديمًا هناكَ حيثما يغُورُ المتشبِّثُ في جمود القعر متصنِّعًا الحفاظَ على حسيس الورق، كتابًا أَو جريدة، بين يديه.

وبعدما كنتُ في هُدُوء الليل أَعود إِلى هَدْأَة القراءَة، وعلى منضدتي – جارةِ الوسادة – كتابٌ أَو اثنا، وربما أَكثر، من صفحاتٍ وَرَقيةٍ تنتظرني فاتحةً لي وَسَاعة الآفاق المعرفية، بتُّ اليوم أَسأَل “فانوس” اللوح الذكيِّ أَن يفتح لي مغارتَه الإِلكترونية الأُعجوبية على مجلَّدات كثيرةٍ مضيئةٍ بين قديم الكنوز التراثية وجديد الإِرث الأَدبي، فأَروحُ بِتَرَف الاختيار على ضوء مصباحٍ خفيٍّ أَنتقي كتابًا لا يَثْقُلُ حَـمْلُه مهما ثَقُلَت مئاتُ صفحاته. وإِذا احتجْتُ استيضاحًا أَو معلُومةً رافدةً بعضَ ما أَقرأُ، أَلوذُ بــ”الفانوس” الذكيّ ذاته فيجيبُني بسرعة إِلكترونية من دون أَن أُغادر سريري إِلى مكتبتي مستطلعًا قاموسًا أَو أَيَّ مرجع.

إِنه زمنُ “قبل النوم”، لا يصحُّ ليليًّا دخولُه بدون تغذيةٍ وساعةَ الفكر. ولا يعود مُهمًّا عندها أَن تكونَ التغذية من أَوراقٍ معدودةٍ في كتابٍ ذي دفَّتين، أَو من “فانوسِ” لوحٍ ذكيٍّ يحمل صفحاتٍ لا يتثاقل حَـمْلُها مهما ناءَت بها الآلاف.

العربيةُ كلام الله

غنى العربية

في قراءاتي العربية تتكشَّف لي كنوزٌ كثيراً ما أُحبُّ مشاركة قرائي بها. لذا كلما صادفتُ أَحدَها في قراءاتي الليلية أُدوِّن جانبًا أَن أُشارك به قرائي. منها مثلًا  ما دونتُهُ في ما يلي:

يومَ الأُممُ المتحدة (في دورتها السنوية الثامنة والعشرين – كانون الأَول/ديسمبر 1973) اتخذَت قرارَها رقم 3190 بـ”اعتماد العربية لغةً رسميةً للجمعية العامة وسائر هيئَاتها” فباتَت العربيةُ السادسةَ رسميًّا (مع الإِنكليزية والفرنسية والإِســﭙـانية والروسية والصينية)، برَّرَت قرارَها بـــ”ما للُّغة العربية من دَورٍ في حفْظ حضارة الإِنسان وثقافته، ونشْرهما في العالم”.

غير أَنَّ ما لم يَلْحظْهُ القرار، وربما لم يعرفْهُ مُعِدُّوهُ حينئذٍ، كون العربية تمتاز عن تلك الخمس الرفيقات، وكثيراتٍ سواها، بخصائصَ فريدةٍ منذ فجرها السحيق. فأَن تكونَ لغة “الضاد” ليست وحدها ميزةً تفيها ثَراءَها حيال لغات أُخرى.

من ذاك الثَراء: أَنَّ مئاتٍ من الكلمات العربية دخلت معظم اللغات المعتمدة في منظمة الأُمم المتحدة، وباتت على أَلسنة الناطقين والكاتبين بها، ودخلَت قواميسَها التي يقرُّ كثير منها بجذورها العربية.

عبقريةُ المُثنّى

ومن الثَراء كذلك: عبقريةُ الـمُثَنَّى. ففي أَيِّ لغةٍ، لا بُدَّ من ردف كلمة “اثنين” بالكلمة المقصودة حتى تعطي معنى المثَنَّى، بينما العربيةُ زاخرةٌ بالمثَنَّى في الكلمة ذاتها، مُذَكَّرِها والمؤَنَّث، فنقول “كتابَين” و”صفحَتَين” دون حاجتنا إِلى الكلمة المسْبَقة الدالَّة على الثنائية.

من ذاك الثَراء أَيضًا: المرادِفات. ففي معظم اللغات يتكوَّن المعنى بكلمةٍ تناسبُه، عدا بضع مفردات تُقاربه وقد لا تُصيبه. بينما العربية تَغْنى بمرادِفات تَبلغ مئاتٍ عدَّةً للمفردة الواحدة، ما لا يتوفر في أَيٍّ أُخرى من اللغات العالمية. من هنا بلوغُ المفردات العربية مئات المئات، بينما اللغات الأُخرى لا تبلغ منها سوى بضع عشرات.

إِنه ثَراء اللغة معطًى للعربية مخزونًا ثقافيًّا قلَّما (كي لا أَنفي تمامًا) يتوفَّر في أَيٍّ أُخرى من لغات الأُمم المتحدة الخمس التي تُتوِّجها العربيةُ بثَراها الـجَمّ. فلْنَغْنَم بهذا الغنى الفريد تَرفُدُنا به لغتُنا الأُم، ولْندخُل إِليها ولْنتعامل معها بقدسية المهابة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى