مُستَقبَلُ لبنان مُعَلَّقٌ على ثلاثِ كلمات

إنَّ أحدَ المقاييس المُهِمّة لقوة “حزب الله” في لبنان حاليًا هو ما إذا كان رئيس الجمهورية الجديد والحكومة المقبلة سيتبنّيان صيغةً قديمة.

الشيخ نعيم قاسم: يحاول إختلاق وَهمِ النصر ليبرّر شرعية السلاح.

مايكل يونغ*

في كانون الثاني (يناير)، عندما يَنتَخِبُ لبنان رئيسًا جديدًا للجمهورية، فإنَّ مصيرَ حفنةٍ من الكلمات سوف يُحدّدُ أينَ أصبحَ لبنان اليوم، والقوّة النسبية ل”حزب الله”، والمزاجَ السائد بين الطوائف المختلفة في البلاد. والكلمات هي، كما يستطيع أي شخص يتابع الشؤون اللبنانية أن يُخَمِّن، “الجيش والشعب والمقاومة”.

ظهرت هذه الصيغة لسنواتٍ في البيانات الوزارية التي تُصدِرها الحكومة باعتبارها حلًّا وسطًا بين أولئك الذين يؤيدون فكرة أنَّ الدولة اللبنانية وحدها يجب أن تتمتّع باحتكار استخدام السلاح وإعلان الحرب والدفاع عن البلاد، وإصرار “حزب الله” على أن أسلحته، “أسلحة المقاومة”، يجب أن تحظى بالشرعية من قِبَل الدولة. وفي ضوء هذا، رفض الحزب على مرِّ السنين مَطالِب معارضيه بضرورة توصُّل اللبنانيين إلى نوعٍ من الإجماع بشأن استراتيجيةٍ دفاعية وطنية ـ وهو المصطلح الذي كان في واقع الأمر اختصارًا لدمج أسلحة “حزب الله” في الدولة.

لقد عانى “حزب الله” من هزيمةٍ مُدمِّرة في صراعه مع إسرائيل، والآن بعدما خسر موقعه الاستراتيجي في سوريا مع سقوط نظام الأسد، أصبحت قدرة الحزب على فرض إرادته على بقيّةِ المجتمع اللبناني مشلولة. لا يزال “حزب الله” يمتلك أسلحة، ولكن قدرته على تهديدِ محيطه كما كان في السابق ضئيلة. ليست هناكَ طائفة من الطوائف اللبنانية، في أغلبيتها، على استعدادٍ للانحناءِ والخضوعِ  لحزبٍ يُنظَرُ إليه على نطاقٍ واسعٍ على أنه في موقفٍ دفاعي.

كان الجهدُ المبذول لتبديد كل علامات الضعف ركيزةً أساسية للخطب الأخيرة التي ألقاها الأمين العام الجديد ل”حزب الله”، الشيخ نعيم قاسم. فقد أعلنَ بأنَّ “حزب الله” يتعافى من الهجوم الإسرائيلي، وأنَّ “المقاومة مُستمرّة”، وأنَّ “العدو لا يمكن إيقافه إلّا بالمقاومة”. ويبدو أنَّ الأمين العام الجديد غافلٌ عن حقيقةٍ مفادها أنَّ “حزب الله” فشلَ في وقف الإسرائيليين، الذين ينتشرون الآن داخل لبنان، ناهيك عن منعهم من تدمير مساحات شاسعة من القرى والبلدات والأحياء ذات الغالبية الشيعية. مع ذلك، فإنَّ قاسم يعرفُ ما هو على المحَكّ. ما لم يتمكّن “حزب الله” من خَلقِ وَهمِ النصر، فإنَّ الأساسَ الذي يستندُ إليه الحزب في الاحتفاظ بأسلحته في علاقته بالدولة اللبنانية سوف ينهار ــ حتى مع انهياره منذ فترة طويلة بين قطاعات كبيرة من اللبنانيين.

إنَّ لبنان سوف يحتاجُ إلى حكومةٍ جديدة بمجرّد انتخابِ رئيسِ جمهوريةٍ جديد. ومع قيام القوى السياسية المختلفة بصياغة البيان الوزاري للحكومة العتيدة، فإنَّ إحدى العقبات الأولى التي سوف تواجهها هي ما إذا كان ينبغي لها أن تُعيدَ إنتاجَ ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”. ويبدو من المؤكد تقريبًا أنَّ عددًا من المشاركين في الحكومة سوف يرفضون التوقيع على مثل هذا البيان مرة أخرى. ولن يفعل حزب “القوات اللبنانية” ذلك بالتأكيد، ومن الصعب أن نُصدّقَ أنَّ أيَّ رئيس وزراء سنّي سوفَ يوافق على ذلك، وخصوصًا في ظلِّ المناخ الطائفي الذي يبدو وكأنه تَجَدَّدَ بعد سقوط بشار الأسد. فلماذا سيقومُ السنّة، الذين يشعرون بتحسُّنٍ جديد بعد عقودٍ من الهيمنة من قِبَل نظامٍ يقوده العلويون في دمشق، بدعمٍ من القوى الشيعية في مختلف أنحاء المنطقة، بأيِّ حافزٍ للتخلّي عن فرصةِ الحدِّ من هامش المناورة الذي يتمتع به “حزب الله”؟

إذا حدث ذلك، فماذا قد يفعل “حزب الله”؟ يبدو أنَّ فكرة نشر الرجال المسلحين في الشوارع لتخويف مُعارضي الحزب أصبحت غير واردة، لأنَّ أحدًا من المعادين ل”حزب الله” في لبنان لم يَعُد على استعدادٍ لقبولِ مثل هذا السلوك. وكان هذا واضحًا أصلًا في عددٍ من الاشتباكات التي وقعت في السنوات الأخيرة -من خلدة، إلى شويا، إلى الطيونة، إلى الكحالة- حيث كان السكان المحليون على استعدادٍ لمهاجمة أعضاء “حزب الله” بدلًا من الخوف والرضوخ لإكراههم.

من ناحيةٍ أخرى، قد يُقرّرُ “حزب الله” مقاطعة أي حكومة لا تعتمد صيغة “الجيش والشعب والمقاومة”. لكن ما قيمة هذا الموقف إذا قرّرَ حليف الحزب نبيه بري عكس ذلك والمشاركة في مثل هذه الحكومة؟ من المؤكد أنَّ بري يُدركُ أنَّ الشيعة أصبحوا بمفردهم في لبنان، وأنهم انقطعوا إلى حدٍّ كبيرٍ عن إخوانهم في العراق وإيران، وبالتالي فإنَّ عزلتهم من قبل “حزب الله” ستكون فكرة مروّعة. لكن هل يستطيع رئيس مجلس النواب أن يتحمّلَ عدم إظهار التضامن مع “حزب الله” في مثل هذه الحالة؟ ربما لا، ولكن موقف بري ليس قويًا كما كان من قبل، حيث يُواجِهُ انتقاداتٍ داخلية ومُعارَضة مُتزايدة من الخارج، وخصوصًا من أعضاء الكونغرس في الولايات المتحدة، التي سوف يتولّى فيها دونالد ترامب الرئاسة قريبًا. وإذا سعى “حزب الله” إلى فرضِ مقاطعة شيعية على الحكومة، فإنَّ كلَّ ما سيفعله هذا هو إثارةُ أزمة مفتوحة لن يتمَّ حلها قريبًا، وذلك في وقتٍ لا يستطيع المجتمع الشيعي أن يتحمّل اللوم على إثارةِ المزيد من الجمود في الدولة.

إنَّ الأرجحَ هو أن يحاول بري، وربما أي رئيس جمهورية محتمل، حسب هويته، التوصُّل إلى حلٍّ وسط بشأن صياغة بيان مجلس الوزراء. لكن حتى هذا لن يكونَ الأمرُ سهلًا. ذلك أنَّ أيَّ رئيس حكومة سُنّي جديد لن يرغبَ في خسارةِ دَعمِ طائفته من خلال تأييد شرعية أسلحة “حزب الله”، في حين أنه من غير المرجح إلى حدٍّ كبير أن يكونَ حزب “القوات اللبنانية”، الممثل المسيحي الرئيس والأبرز، أكثر مرونة. فضلًا عن ذلك فإنَّ أيَّ رئيس وزراء، في زمن الصحوة السنّية، حتى نجيب ميقاتي إذا عاد إلى منصبه، لن يكونَ قادرًا على اتّخاذِ موقفٍ أقل وضوحًا من موقف المسيحيين.

ثمَّ هناك المجتمع الدولي، الذي سيكون له أيضًا رأيٌ في ما سيحدث. سوف تراقب الولايات المتحدة ومعظم دول الخليج العربية، وخصوصًا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، الوضعَ عن كثب لمعرفة كيف ستتصرّف الحكومة المقبلة. وسوف تنتظر أيضًا لترى ما سيحدث لصيغة “الجيش والشعب والمقاومة” للحُكمِ على ما إذا كان الساسة في لبنان على استعدادٍ للتحرُّرِ من سيطرةِ “حزب الله” وهيمنته. وسوف يكونُ ردُّ الفعل اللبناني أساسيًا من حيث النتائج في ما يتّصل بقضيتين حيويتين بالنسبة إلى البلاد: تنفيذ القرار 1701 وإعادة إعمار المناطق الشيعية.

لقد بذل قاسم جهودًا مُضنية مرّاتٍ عدة للتأكيد على أنَّ القرار 1701 لا ينطبق إلّا على جنوب نهر الليطاني. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا. إنَّ النصَّ “يؤكد على أهمّية بسط سيطرة حكومة لبنان على كافة الأراضي اللبنانية وفقًا لأحكام القرار 1559 (2004) والقرار 1680 (2006)، والأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، حتى تتمكّن من ممارسة سيادتها الكاملة، بحيثُ لا تكون هناك أسلحة من دون موافقة حكومة لبنان ولا سلطة أخرى غير سلطة حكومة لبنان”. إنَّ قاسم يُدرك هذا تمامًا، ولهذا السبب فهو حريصٌ على إعادة التأكيد على ثُلاثية “”الجيش والشعب والمقاومة””، حتى يتمكّن من القول إنَّ الحكومة وافقت على شرعية أسلحة “حزب الله”.

ثم هناك مسألة إعادة الإعمار. ف”حزب الله” ليس في وَضعٍ يسمحُ له اليوم بالانخراط في معارك سياسية داخلية من شأنها أن تُعزّزَ حالة الجمود. ومع تشريد مئات الآلاف من الشيعة وعدم وصول مساعدات إعادة الإعمار الكبرى، فمن المرجح أن تظلَّ الدولة هي نقطةُ الاتصال الرئيسة لإعادة الإعمار في المستقبل. وعلى هذا فإنَّ ما يحتاجُ إليه الحزب هو دولة تتحرّكُ بقوّة وبسرعة لتأمين التمويل والبدء في إعادة الإعمار. ولكن إذا رأت الدول العربية، وخصوصًا دول الخليج، أنَّ رئيس الجمهورية والحكومة الجديدَين لا يزالان تحت سيطرة “حزب الله” وهيمنته، فلن يكونَ لديها أيُّ حافزٍ لمساعدة لبنان في إعادة الإعمار. ولهذا السبب فإنَّ الرئيس والحكومة المقبلين سوف يتمتّعان بنفوذٍ كبير على “حزب الله”، وينبغي لهما أن يستخدماه لتآكل ركائز هيمنة الحزب.

وتلوحُ مسألة إيران في الأفق. في حين أعلن قاسم في خطابٍ ألقاه أخيرًا أنَّ إيران سوف تُقدّمُ التمويل لأولئك الذين فقدوا ممتلكاتهم في الصراع مع إسرائيل، فإنَّ المبالغ التي وعدَ بها كانت ضئيلة إذا ما قورنت بحجم الدمار والتكاليف المُتَوَقَّعة لإعادة الإعمار. وعلاوةً على ذلك، يبدو أنَّ هناكَ نقاشًا شديد الانقسام يدور داخل إيران نفسها حول الأموال التي أُنفِقَت على الاستراتيجية الإقليمية للبلاد، وبخاصة المبالغ الضخمة التي أُهدِرَت في سوريا. وحتى أنصار النظام الإيراني انضموا إلى جوقة الاتهامات. ومن بين هؤلاء رجل الدين محمد شريعتي دهاقان، الذي وصف المخطط الإيراني بأنه “مبنيٌّ على أُسُسٍ ضعيفة”. ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عنه مطالبته ب”نهجٍ جديد يُعطي الأولوية لبناء التحالفات مع البلدان بدلًا من دعم الجماعات المسلحة، وإعادة توجيه الأموال والموارد إلى الشعب الإيراني”.

في ضوءِ هذا، يبدو من غير المُرجّح على نحوٍ مُتزايد أن يتدخّلَ الإيرانيون على نطاقٍ واسع لإعادة بناء المناطق الشيعية في لبنان، وخصوصًا بعدما فقدت طهران موطئ قدمها الحاسم في سوريا. وإذا كان هذا التقييم صحيحًا، فلن يكونَ من السهل على “حزب الله” استعادة مستوى الدعم الشعبي الذي كان يتمتّعُ به في السابق بين الشيعة، وسوف يكون من المستحيل تقريبًا على الإيرانيين وحلفائهم إحياء السياسة الفاشلة المتمثلة في إحاطة إسرائيل بحلقةٍ من النار. وإذا كان هذا بعيد المنال، فما هي قيمة صيغة “الجيش والشعب والمقاومة”؟ لا شيءَ منها واضحٌ للعيان.

سوف يتطلّعُ العديد من الناس إلى رئاسة الجمهورية لقياس نقاط قوة “حزب الله” أو نقاط ضعفه. وهذا أمرٌ مفهوم، على الرُغم من أنَّ عَجزَ الحزب في العامين الماضيين عن إيصالِ مرشحه المفضل، سليمان فرنجية، إلى السلطة قد أظهر أصلًا حدود قدراته. مع ذلك، فإنَّ نتيجة صيغة “الجيش والشعب والمقاومة” هي التي ستكون المعركة الأكثر أهمية، لأنها سوف تُحدّدُ ما إذا كانت الطبقة السياسية اللبنانية على استعدادٍ لمواصلةِ منح موافقتها لجماعةٍ مسلحة فوق الدولة. إن كان الساسة على استعدادٍ للتضحية، فسوف يواجهون مقاومة شديدة من جانب العديد من اللبنانيين الذين لا يرغبون في التضحية. ولكن إذا اتخذوا موقفًا شجاعًا غير مُعتاد، فربما يبدأ لبنان أخيرًا في تقويض أُسسِ النظامِ المُعَطَّل والمتعثّر الذي تأسس منذ الانسحاب السوري في العام 2005.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى