المجموعات الجهادية: لماذا تستطيع التَكَيُّف ولا تندثر؟

يعكس تطوّر موقف “هيئة تحرير الشام” في سوريا القدرة على التكيّف مع الأوضاع المُستَجدّة التي تُميّز الكثير من المجموعات الجهادية.

تنظيم “القاعدة”: اعتمد اللامركزية في القيادة وما زال مستمرًّا!

دالية غانم*

شكّلَ الاستيلاءُ السريع لمقاتلي “هيئة تحرير الشام” على سوريا حدثًا مُذهلًا، إذ بدأ بهجوم مُباغت في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وأطاحَ نظامَ بشار الأسد في غضون 11 يومًا فقط ليكتمل ذلك في 8 كانون الأول (ديسمبر) الحالي، مُنهيًا بذلك حُكمًا استمرّ لأكثر من نصف قرن. والواقع أنّ سرعة التطوّرات تركت الكثير من المراقبين أمام أسئلة أكثر من إجابات، ومن بينها تلك المتعلّقة بطبيعة الثوّار، ولا سيما الفصيل المُهيمن بينهم. ومع ذلك، يبقى تاريخ “هيئة تحرير الشام” مُعقّدًا ومُتشابكًا تمامًا مع الصراع السوري نفسه. بعد ثماني سنوات من التطوّر والتكيّف، ظهرت هذه المجموعة الجهادية، المعروفة سابقًا بـ”جبهة النصرة”، في صدارة تحالفٍ هشٍّ يضمّ قوى متباينة تسعى للسيطرة على البلاد مظهرة قوّة ونفوذ لافتين.

يثير هذا الصعود الدراماتيكي تساؤلات تتجاوز حدود ساحة المعركة. وتُبيّن حالة “هيئة تحرير الشام” أنّ المجموعات الجهادية تمتلك قدرةً استثنائية على الصمود وقابليةً عالية للتكيّف على الرُغم من فترات التراجع التي قد تمرّ بها. لا تختفي المجموعات الجهادية بسهولة، حتى عندما تواجه ضغوطًا وجودية كبيرة، لا بل تتكيّف وتتطوّر وتظهر مُجدّدًا بأشكال جديدة مُستغلّةً فراغات السلطة والمظالم المُهملة. ومن الخطير أن تُقلّلَ الحكومات في المنطقة وخارجها من شأن هذه المجموعات، فقد أثبت التاريخ أنّ هذه المجموعات غالبًا ما تنتعشُ وتعودُ بطُرُقٍ غير مُتوقّعة وبقوّة مُتجدّدة.

كيف تصمد المجموعات الجهادية؟

تأسّست “جبهة النصرة”، التي تحوّلت لاحقًا إلى “هيئة تحرير الشام”، على يَدَي أحمد حسين الشرع المعروف باسمه الحركي أبو محمد الجولاني. في العام 2011، كلّفه تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” (داعش) بالذهاب إلى سوريا، حيث أظهرَ بسرعةٍ نزعةً استقلالية وحسًّا إستراتيجيًا مُميَّزًا . بين العامين 2012 و2013، تحدّى الجولاني تعليمات التنظيم وصَبَّ تركيزه على تأسيسِ منطقةِ نفوذٍ خاصّة بـ”جبهة النصرة” في أجزاءٍ من شمال سوريا وشرقها. وقد أرست هذه الخطوة الجريئة الأُسُس لاستقلال “هيئة تحرير الشام” في المستقبل. وفي العام 2013 عندما أعلن زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي اندماج المجموعتيَن تحت قيادة واحدة، رفض الجولاني هذا القرار، وقطع العلاقات مع “داعش”، وأعاد الاصطفاف مع تنظيم “القاعدة”، في إشارةٍ إلى انفصالٍ واضح وتَحَوُّلٍ إستراتيجي في الولاء. ويعكس هذا النهجُ المُبكِر من اتّخاذ قرارات محسوبة قدرةَ “هيئة تحرير الشام” على التكيّف ووضع مصالحها على رأس أولوياتها حتى في مواجهة ضغوط من كيانات أقوى مثل “داعش”.

أعقبَ هذا التحوُّل في العام 2016 إعادة تسمية المجموعة ب”جبهة فتح الشام”، حيث نأت بنفسها عن تنظيم “القاعدة” وركّزت جهودها على الصراع السوري. وفي أواخر كانون الثاني (يناير) 2017، اندمجت مع عدد من المجموعات مثل حركة نور الدين الزنكي ولواء الحق وجيش السنّة وجبهة أنصار الدين لتُشكّل “هيئة تحرير الشام”. وسمح هذا التحوّل الإستراتيجي لـ”هيئة تحرير الشام” بترسيخ وجودها على الساحة السورية، ما مكّنها من الحفاظ على أهمّيتها في صراعٍ محلّي. وتكاد تكون هذه التكيّفات الإستراتيجية سمةً مشتركة بين المجموعات الجهادية.

وفي حين تُعتَبَرُ القدرة على التكيّف أمرًا حاسمًا لبقاءِ أيِّ مجموعةٍ مُتمرّدة، تُظهِرُ المجموعات الجهادية مزيجًا فريدًا من الحماسة الإيديولوجية والبنى اللامركزية واستغلال الظروف المحلّية بذكاء، وهذا ما يُميِّزها عن باقي المجموعات. فهي تتميّز بقدرةٍ ملحوظة على التكيّف والصمود بفضل عوامل رئيسة متعدّدة. أولًا، يُغذّي التزامها الإيديولوجي الديني الثابت تصلُّبها في مواجهة النكسات ويتجذّر إيمانها بقضيةٍ أكبر، مثل مفهوم “الأمة”. ثانيًا، تساهم البنية اللامركزية للكثير من الشبكات الجهادية في حمايتها من محاولات القضاء عليها عبر التخلّص من قادتها، ما يجعل شلّها مستحيلًا حتى مع فقدان قادتها. ثالثًا، تسمح لها براعتها في استغلال المظالم المحلّية وفراغات السلطة بحشد الدعم والمُجنّدين، ما يضمن استمراريتها حتى في مواجهة التحدّيات. أخيرًا، يتيح لها الاستخدام الفعّال للبروباغندا والتطرّف عبر الإنترنت الحفاظ على وجودها وتحفيز الهجمات، حتى في مواجهة الخسائر الإقليمية.

تُعَدُّ حالة تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” مثالًا آخر على قدرة المجموعات الجهادية على التطوّر. تعود جذور هذا التنظيم إلى العنف الذي أفرزته الحرب الأهلية الجزائرية بين العامين 1990 و2000، تحديدًا مع تأسيس “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” بقيادة عبد المالك دروكدال، المعروف بأبي مصعب عبد الودود، بعد انشقاقه عن “الجماعة الإسلامية المسلّحة” السيئة السمعة في منتصف تسعينيات القرن العشرين. وقد حافظت المجموعة على وجودها بفضلِ قرار إستراتيجي حاسم اتّخذه دروكدال لإبعاد مجموعته عن الحملة العنيفة التي شنّتها “الجماعة الإسلامية المسلّحة” ضدّ المدنيين، والتي بلغت ذروتها بمذابح مروّعة في صيف 1997. وفي العام 2006، أعلن دروكدال التحالف مع تنظيم “القاعدة”، وفي العام التالي غيّر اسمها إلى تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، ما عزّز مكانتها.

ساهمَ هذا التحالف بزيادة موارد المجموعة وتوسيع علاقاتها الدولية، ما وفّر لها منصّةً لتعزيز أجندتها الجهادية. وإدراكًا منه لمحدودية جاذبيته داخل الجزائر، وسّع تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” عمليّاته إلى منطقة الساحل في العام 2009، مستفيدًا من الحدود المتفلّتة وشبكات الدعم المُحتملة في البلدان المجاورة. كما كان التوسّع جنوبًا جُزءًا من هدف إستراتيجي لتوحيد المجموعات الجهادية النشطة في منطقة الساحل، وضمّ فصائل مثل “الجماعة الليبية المقاتلة” و”الجماعة الإسلامية المغربية المقاتلة”، لتشكيل جبهة جهادية أوسع ومُتَّحِدة أكثر. ولتنفيذ ذلك بفعالية، قسّم دروكدال فرع الساحل إلى كتائب متعدّدة ووضعها تحت قيادة شخصيّات رئيسة مثل مختار بلمختار وعبد الحميد أبو زيد ويحيى جوادي. وأدّت هذه الخطوات إلي نجاح كبير حيث سمحت ل”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” تشكيل تحالفات مع مجموعات مسلّحة أخرى مثل أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، وبالتالي تعزيز نفوذه الإقليمي.

أظهرَ تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” مرونةً ملحوظة تحت قيادة دروكدال، حيث نفّذ سلسلة من الهجمات الإرهابية من ضمنها تفجيرات وعمليات اختطاف استهدفت المصالح الجزائرية والدولية. لقد تعلّم دروكدال من أخطاء “الجماعة الإسلامية المسلّحة”، فحاول تجنّب تنفير السكان المحلّيين في منطقة الساحل. وبإدراكه أنّ وحشية “الجماعة الإسلامية المسلّحة” ساهمت في تأجيج الاستياء الشعبي وإعاقة أهدافها، دعا دروكدال إلى تطبيق تدريجي وإستراتيجي للشريعة الإسلامية، مع التركيز على “الدعوة”، لكسب القلوب والعقول، وحذّر من فرض عقوبات قاسية ومتهوّرة مثل الجلد العلني بتهمة الزنا، مؤكّدًا أنّ هذه الإجراءات لا تؤدّي إلّا إلى استعداء السكّان وتقويض أهداف التنظيم في الأمد الطويل.

وعلى الرُغم من النكسات وفقدان قادته الرئيسيين، تمكّن تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” من التطوّر والحفاظ على وجوده في منطقة الساحل. وكما هو الحال مع “هيئة تحرير الشام”، يُذكّرنا تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” بأنّ هذه المجموعات لا تختفي بسهولة، بل تتكيّف، وتُعيدُ صياغة تحالفاتها بطرقٍ تُمكّنها من الصمود في وجه النكسات والخسائر.

وينطبقُ هذا أيضًا على المنظّمات الأكبر حجمًا، مثل تنظيم “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، التي استمرّت على الرُغم من الحملات العسكرية الدولية الموجّهة للقضاء عليها. مرّ تنظيم “القاعدة” بتحوّل عميق بعد “الحرب على الإرهاب” التي قادتها الولايات المتّحدة عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 ومقتل أسامة بن لادن؛ حيث ألغى مركزية البنية القيادية وتبنّى نموذج الامتياز الذي مكّن فروعه الإقليمية من العمل باستقلالية أكبر. وهذا سمح لـتنظيم “القاعدة” بالحفاظ على انتشاره العالمي والتغلّب على ضعفه تجاه استهداف قادته. فضلًا عن ذلك، حوّل تركيزه نحو الصراعات والمظالم المحلّية، ودمج نفسه في النضالات القائمة، واستغلّ حالة عدم الاستقرار لكسب الدعم والمجنّدين.

التكيّف الذي أظهره تنظيم “الدولة الإسلامية” مشابهٌ لما حدث بعد خسارته للأراضي التي كانت تحت “الخلافة” في العراق وسوريا. فقد كثّف وجوده على الإنترنت، واستخدم بروباغندا ذكية لتحفيز هجمات الذئاب المنفردة في جميع أنحاء العالم وجعلِها أكثر تطرّفًا. وفي الوقت نفسه، استغلّ تنظيم “داعش” الاضطرابات والصراعات في مناطق أخرى، وخصوصًا في أفريقيا وجنوب آسيا، ليؤسّس موطئ قدم جديدًا له وتوسيع نفوذه. وهذا يدلّ على تحوّلٍ إستراتيجي نحو تمرّدٍ أكثر لامركزية، يحافظ على دور التنظيم كمهدّد مستمرّ للأمن العالمي والاستقرار الإقليمي وحياة المدنيين، حتى في غياب دولة “الخلافة” التي كانت تُميّزه سابقًا عن المجموعات الأخرى.

سواء تعلّق الأمر باللامركزية التي يتبنّاها تنظيم “القاعدة” وتركيزه على الصراعات المحلّية، أو تبنّي تنظيم “داعش” لأساليب التطرّف عبر الإنترنت والتوسّع في مناطق جديدة، أو التحوّلات والتحالفات الإستراتيجية التي انتهجتها “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، فقد أثبتت هذه المجموعات باستمرار قدرتها على التطوّر والصمود. وتشكّل هذه السمة تحدّيًا كبيراً لجهود مكافحة الإرهاب، وتتطلّب نهجًا مرنًا ومتعدّد الأوجه يمكنه توقّع الطبيعة المتغيّرة للتهديد الجهادي والاستجابة له بفعّالية.

  • داليا غانم هي زميلة بارزة ومديرة برنامج الصراعات والتحوّلات في مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية. تُركز أبحاثها على السياسة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما فيها قضايا العنف السياسي، والتطرُّف، والعلاقات المدنية العسكرية، ودراسات النوع الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى