إِدغار آلن پــو: 9 احتمالات لموته المأْساوي الغامض (1 من 4)

عنوان صحافي للميتة الغامضة

هنري زغيب*

من المبدعين (أُدباء، شعراء، فنانين، أَعلامًا،…) مَن يُثيرون جدلًا في حياتهم بين سيرتهم الخاصة والشخصية ومسيرتهم المهنية، فتدور حول حياتهم تفاسيرُ وأَقوال واحتمالات وتقديرات وتنظيرات.

ولكنَّ من النادر أَن يثير موتُ مبدعٍ أَقوالًا واحتمالاتٍ حول سبب وفاته أَو ظروف ميتته. وهذه حال الشاعر الأَميركي إِدغار آلِن پُو عن وفاته في ظروف مأْساوية غامضة ما زالت حتى اليوم تُسِيل آراء وتكهنات.

في هذا المقال من أَربع حلقات، سردٌ لِما صدَر حتى اليوم من احتمالات.

شاهدة ضريح الشاعر

متشرَّد غريب في مشهدٍ غريب

كان المطر غزيرًا يومها (الأَربعاء 3 أُكتوبر 1849) على بالتيمور (ولاية ميريلند الأَميركية). لكنَّ المطر لم يؤَخِّر جوزف وُوكِر، منضد الأَحرف في جريدة “بالتيمور صَن”، من توجُّهه إِلى قاعة غانِرْزْ، الشهيرة بالاحتفالات العامة، وكانت تعجُّ بالمواطنين الذي تقاطروا إِليها كي يُدلوا بأَصواتهم في الانتخابات. قبل بلوغ مدخل الصالة، فوجئَ برؤْية رجلٍ تائه، يرتدي ملابس رثَّة شبه ممزقة، متكوِّمًا عند أَسفل مزراب المبنى. كان الرجل شبْه مغميٍّ عليه، عاجزًا عن الحركة. وإِذ اقترب منه جوزف فوجئَ مصدومًا بأَن الرجل هو الشاعر إِدغار آلِن پو. هلع لمنظر الشاعر المترنح، فجثا إِليه وسأَله إِن كان في بالتيمور أَيُّ قريبٍ له يمكن أَن يساعده. تكلَّم الشاعر مُتَأْتِئًا فلفَظ اسم جوزف سْنودْغْراس (وكان رئيس تحرير مجلة طبية وملمًّا ببعض العلاجات). بادر جوزف فورًا إِلى كتابةِ رسالةٍ سريعة هذا نصها:

بالتيمور، 3 تشرين الأَول/أُكتوبر 1849

السيد الطبيب جوزف سْنودْغْراس

أَنا أَمام رجل مهلهل الملابس، على مدخل صالة غانِرْزْ، هو الشاعر إِدغار آلِن پو. إِنه في حالة انهيار صحي مخيف. يقول إِنك تعرفه، وهو في حاجة ملحَّة جدًا إِلى مساعدة فورية.

بكل احترام

جوزف وُوكِر

في 27 أَيلول/سبتمبر، قبل نحو أُسبوع من تلك الحادثة، كان الشاعر غادر مدينة ريتشموند (ولاية فيرجينيا) قاصدًا مدينة فيلادلفيا (ولاية بنسيلفانيا) لنشْر مجموعةٍ شعرية لشاعرة واعدة يومها تدعى مارغريت لَاوْد (1812-1889).

البؤْس في عينيه الحزينتَيْن

من هو “رينولدز”؟

كان وُوكِر أَول من رآه في هذا المظهر البائس، منذ مغادرته إِلى ريتشموند. ويبدو أَنه لم يبلُغ فيلادلفيا حيث دار النشر، ولا عاد إِلى نيويورك حيث كان سيصحب عمَّته إِلى ريتشموند لحضورها عرسًا هناك. وهو نادرًا ما كان يغادر بالتيمور حيث انطلق في حياته الأَدبية منذ مطلع القرن التاسع عشر. ويبدو أَنه، في الأَيام الأَربعة الأَخيرة، منذ وجدَه وُوكِر حتى وفاته في السابع من الشهر، لم يستعد أَبدًا وعيَه الكامل كي يشرحَ ما الذي حدَث حتى يكون متكوِّمًا هكذا عند أَسفل ذاك المزراب، مرتديًا ثيابًا ليست له، متشرِّدًا في الشوارع. وثبُتَ في ما بعد أَنه أَمضى أَيامه الأَخيرة مترنحًا بنوبات من التيهان والضياع والهلوسات. وفي الليلة التي سبقت وفاته، يذكُر الطبيب المناوب جون موران الذي عالجه في المستشفى أَن الشاعر كان يردِّد اسم “رينولدز”، الاسم الذي بقي ولا يزال لغزًا من دون اكتشاف.

هل رسم نهايته في روايته؟

سوى أَن موته الغارق في اللغز والسر والغموض يبدو كأَنه مُنتَزَعٌ من صفحات أَحد مؤَلفاته. فهو أَمضى سنواتٍ طويلةً يرسم وجه شخص يستلهمُ مغامرةً مثيرةً ومحاطةً بالأَلغاز. وهذا الشخص هو شاعر، مفتِّش، مؤَلِّف، مسافر مغامر شاركَ في الحرب الإِغريقية للاستقلال وتم اعتقاله في روسيا.

ومع أَن تشخيص الوفاة أَفاد بأَنها ناجمة عن صدمة دماغية، أَو تَنَامي ورمٍ خبيث في الدماغ، بقيَتْ حول ظروف وفاته أَلغاز وأَسرار غامضة أَدَّت بالباحثين والمؤَرخين إِلى افتراضات وترجيحات وتكهُّنات مختلفة حول سبب الوفاة. من هنا قول كْريس سْتِيْمْنِر (مدير متحف “پو” في ريتشموند): “لعلُّه منذ رسم في روايته شخصيةَ ذاك المفتش الغامض، كان يهيِّئُنا للنهاية التي آل إِليها في آخر حياته”.

الاحتمالات

أَبرزُ الاحتمالات التي افترضَها الباحثون تبلغُ تسعةً، هنا لمحة عنها.

  1. تعرُّضُه للضرب

سنة 1867 صدر للكاتبة إِليزابيت سميث (1806-1893) مقالٌ بعنوان “ملاحظات سيرة ذاتية: إِدغار آلِن پو” أَبعدَ الشبهاتِ عن الإِدمان على الخمْر أَو الورَم الخبيث سببًا للوفاة، وسرَدَتْ أَنَّ امرأَةً كان أَهانَها الشاعر، هي التي أَرسلت من أَشْبَعَهُ ضربًا قاسيًا باللطْم المتتالي بأَداة حادَّة على رأْسه وكلِّ جسمه، من دون أَن يَعرِفَ الضاربُ ما سيخلِّفُه هذا الضرب الوحشي من نتائج على صحَّة الشاعر. ويبدو أَنَّ دماغه بعدذاك أَخذَ يعطي إِشارات حُمَّى غير طبيعية. ولاحقًا، سنة 1872 أَصدرَ الكاتب أُوجين ديدييه (1738-1913) مقالًا بعنوان “ضريح پو” سرد فيه أَنَّ پو كان في بالتيمور حين التقى أَصدقاءَ له راحوا يُغْرُونه بالانغماس معهم في جلسَة سُكْر. ولأَنَّ الشاعر لم يكن معتادًا على الخمْر، ما إِن احتسى أَولَ كأْس حتى شعر بالدُوار الشديد وغادر تلك الجلسة مُتَعْتَعًا، وخرجَ يمشي تائهًا في الشوارع، فالتقاه جَمْع من الطافرين سلَبوه ما في جيبه من مال، ثم أَشبَعوه ضربًا وركْلًا حتى سقَطَ شبْهَ مغْميٍّ عليه في الشارع طيلة الباقي من تلك الليلة، ومنذئِذٍ بدأَ يعاني من نوباتٍ هستيرية يُولِّدها دماغُه.

ما هي الاحتمالات الأُخْرى لسبب الوفاة؟

هذا ما أُعالِـجُه تَوَاليًا في الأَجزاء التالية من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى