القرنُ الأفريقي على فوهةِ بُركان!

شرق أفريقيا هي منطقة مُمزّقة تمامًا بالحروب الأهلية والتوتّرات بين الدول وتدخُّل القوى الدولية والإقليمية. ومن الممكن أن تنفجرَ الأوضاع بسهولة لتتحوَّل إلى حرب إقليمية شاملة، مع عواقب إقليمية وعالمية بعيدة المدى.

رئيس إثيوبيا آبي أحمد علي ورئيس “أرض الصومال” موسى بيهي عبدي: حلفٌ ثُنائي ولّد توتّرًا في القرن الأفريقي.

الدكتور سعود المولى*

يُمكِنُ القولُ بدايةً إن شرقَ أفريقيا هو اليوم برميلُ بارود. على سبيل المثال يُعاني السودان وإثيوبيا والصومال من حروبٍ أهلية مُستَمرّة منذ سنوات.  وقد تسارعت أخيرًا بشكلٍ ملحوظ حمى التوتّرات بين الدول أو بين تحالفات دول والتي يُمكنُ أن تؤدّي بسهولةٍ إلى حروبٍ كبرى تشمل إثيوبيا ومصر والصومال والسودان وإريتريا، وربما دولًا أخرى.  وفي الوقت نفسه، تتدخل أيضًا القوى الإقليمية مثل الإمارات العربية المتحدة وتركيا وإيران، وكذلك القوى العالمية الاستعمارية (الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل)، وجميعها تحاول استغلال الصراعات لمصلحتها الخاصة.

إنَّ حربًا كبرى تشملُ بلدان القرن الإفريقي، بما فيها مصر (يبلغ عدد سكان هذه الدول مُجتمعةً أكثر من 310 ملايين نسمة)، ستكون لها تداعياتٌ كبيرة على منطقة شرق أفريقيا، لا بل على كلِّ أفريقيا وعلى الوضع الدولي برمّته. جميع هذه الدول تقعُ على البحر الأحمر الذي يُعَدُّ من أهمِّ طرق التجارة البحرية، وحيثُ تُشكّلُ قناة السويس رابطًا حيويًا للشحن الدولي، تُمثّل 12-15% من التجارة العالمية وحوالى 20% من تجارة الحاويات. ويَمُرُّ عبر المضيق نحو 30% من نقل النفط الخام و20% من نقل الغاز المسال. بعبارةٍ أخرى، قد تؤدّي حربٌ كبرى في شرق أفريقيا أيضًا إلى عواقب بعيدة المدى على الاقتصاد العالمي.

وقضيةَ الحرب في شرق أفريقيا هي مهمّة أيضًا لجهة أنَّ القارة السمراء هي ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان وهي أسرع القارات نموًا، كما إنها تحمل وتصدّر العدد الأكبر من اللاجئين في العالم.

إنعدام الاستقرار السياسي في ظلِّ انهيارٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ وبَيئِيٍّ

صارَ واضحًا أخيرًا أنَّ تَغُيُّرَ المناخ العالمي له عواقب مدمّرة على شرق إفريقيا.  فقد أدّت مواسم متواصلة عدّة من انخفاضِ هطول الأمطار إلى فتراتِ جفافٍ طويلة الأمد. وهذا يؤثُر في توليد الكهرباء، حيث إنَّ إنتاجَ جُزءٍ كبيرٍ من الكهرباء في المنطقة يكونُ من طريق الطاقة الكهرومائية. لكن بحلول منتصف العام 2023، بدأت منطقة القرن الإفريقي المنكوبة بالجفاف ُتسجّلُ كمياتٍ كبيرة من الأمطار. ومع عدم قدرة التربة القاحلة على امتصاصِ الماء، تسبّب ذلك في فيضانات مدمّرة في العديد من المناطق. ومن النتائج الأخرى للجفاف والفيضانات معًا، غزو الجراد بين العامَين 2019 و2022، والذي وُصِفَ بأنه الأسوأ منذ 25 عامًا بالنسبة إلى إثيوبيا والصومال، والأسوأ منذ 70 عامًا بالنسبة إلى كينيا.

وكانت العواقبُ مدمّرة على اقتصاد وحياة شعوب شرق أفريقيا . إذ يعمل ما يقرب من 70% من السكان في أنشطةٍ مُرتَبطةٍ مباشرة بالزراعة، والتي تتأثّر بشدة بالجفاف والفيضانات وغزو الجراد، وما إلى ذلك. ويواجه أكثر من 23 مليون شخص في أجزاءٍ من إثيوبيا وكينيا والصومال مجاعةً شديدة. وقد ارتفعَ مُعدّل الفقر المُدقع في المنطقة إلى 35% في العام 2021. وقد يؤدّي ارتفاعُ درجات الحرارة إلى خسارةٍ تتراوح بين 10 و20% في إنتاجِ المحاصيل الأساسية الرئيسة، مثل الذرة والفاصوليا. علاوةً على ذلك، تُجبِرُ هذه الكوارث المجموعات السكانية على هجر أراضيها الأصلية، الأمر الذي يُمكنُ أن يؤدّي إلى صراعاتٍ بين مجموعاتٍ مختلفة من الرعاة أو بين الرعاة ومُلّاكِ الأراضي.

والحالُ أنَّ منطقةَ شرق أفريقيا هي واحدة من أفقر المناطق في العالم، وقد تفاقَمَ وضعها بسبب تزايد الديون المُستَحِقّة للقوى والمؤسّسات الدولية الكبرى. وهي لديها أعلى نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي في أيِّ منطقة في القارة السمراء، بما في ذلك جنوب السودان، الذي تبلغ فيه النسبة 60.4٪ (2023)، وكينيا بنسبة 70.2٪، ومصر بنسبة 92.7٪، والسودان بنسبة 256٪. وقد بلغ حجم الدين الخارجي للصومال (نسبة إلى الدخل القومي الإجمالي) 95٪ في العام 2020. وتجبر الزيادة في الدين العام هذه الدول على استخدامِ جُزءٍ كبيرٍ من عائدات صادراتها لسداد ديونها. ووفقًا للبنك الأفريقي للاستيراد بلغت نسبة خدمة الدين إلى الصادرات في القارة 38.4% في العام 2024.

تاريخيًا، كان شرقُ أفريقيا، مثل القارة السمراء بأكملها، مدينة للقوى والمؤسّسات الغربية الكبرى. وقد تغيَّرَ هذا إلى حدٍّ ما مع صعود الصين كقوّةٍ عالمية جديدة. ووفقًا لمركز سياسات التنمية العالمية في جامعة بوسطن ” مركز سياسة التنمية العالمية ” (Center for Global Development Policy)، فإنَّ إجمالي القروض التي قدّمتها الصين لأفريقيا (170.1 مليار دولار أميركي) شكّلت 64% من قروض البنك الدولي (264.1 مليار دولار أميركي) في الأعوام من 2000 إلى 2022. وفي أواخر العام 2022، خلصَ تقريرٌ من مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس” (Chatham House) حول الديون الصينية في أفريقيا إلى أنَّ الدائنين الصينيين يُمثّلون 12% من الدين الخارجي العام والخاص للقارة، والذي تضاعفَ أكثر من خمسة أضعاف ليصل إلى 696 مليار دولار بين العامين 2000 و2020. وتَرَكَّزَ ثُلثا الديون في قطاعَين: النقل والطاقة. وكانت الوجهات الثلاث الأولى للقروض الصينية هي أنغولا وإثيوبيا وكينيا. ومن أهمِّ المشاريع مشروعان للنقل والبنية التحتية: ممر لامو (يربط ميناء لامو في كينيا بإثيوبيا وجنوب السودان) والممر الشمالي (يربط ميناء مومباسا الكيني ببوروندي شرق جمهورية الكونغو الديموقراطية، وورواندا وأوغندا. والممر يخدم أيضًا شمال تنزانيا وجنوب السودان وإثيوبيا).

يتلازَمُ هذا البؤس البيئي والاقتصادي الاجتماعي في شرق أفريقيا مع عدم الاستقرار السياسي العميق، حيث تأثّرت المنطقة بشدّة بأزمة النظام العالمي مع تفاقُمِ تنافس القوى العظمى نتيجةً لتراجُع الولايات المتحدة (القوة المهيمنة لفترة طويلة) وصعود قوى عظمى جديدة مثل الصين وروسيا، ما أدّى إلى تقويضِ النظام الإقليمي. وبالمثل، تتدخّل قوى إقليمية عدة (أبرزها الإمارات العربية المتحدة، ولكن أيضًا إثيوبيا وتركيا ومصر وإيران) في الصراعات الداخلية لدول المنطقة لتوسيع نفوذها أو الوصول إلى قواعد بحرية في البحر الأحمر أو ضمان السيطرة على المناطق التي تحوي احتياطاتٍ ثمينة من المواد الخام.

هذا التدهور البيئي والاجتماعي والسياسي يؤدّي حتمًا إلى زيادة التناقُضات بين الفقراء والمُهَمَّشين في المدن والأرياف، من جهة، والطبقة الحاكمة ومعها القوى الأجنبية المُهَيمِنة من جهةٍ أخرى. وقد أدّى ذلك إلى انتفاضاتٍ شعبية في شرق أفريقيا (كانت مُرتبطة ب”الربيع العربي” أيضًا)، أطاحت نظامَي مبارك في مصر في العام 2011 وعمر البشير في السودان في العام 2019. لكن الأنظمة الحاكمة تمكّنت من قمع أو احتواء هذه الثورات. واليوم، تخضع جميع دول المنطقة (مصر والسودان وإثيوبيا وإريتريا والصومال) لحكم دكتاتوريات عسكرية أو لوجود قوات أجنبية.

من النتائج الأخرى لتسارُع التناقُضات الدولية والإقليمية والمحلّية ولهشاشةِ المجتمعات التي تمرُّ بأزمات، التفاقم الهائل للصراعات القومية والعرقية.

تشهد إثيوبيا صراعاتٌ عرقية عدّة أشعلت شرارة الحرب الأهلية في التيغراي في العامَين 2020-2022، فضلًا عن صراعاتٍ مسلحة في مناطق أخرى. احتلّت إثيوبيا ودول أخرى من شرق أفريقيا (بمساعدة القوات الأميركية) الصومال منذ العام 2006. كما إنَّ الحكومةَ الصومالية في صراعٍ مع إقليمَين يقاتلان من أجل الحكم الذاتي أو الانفصال. علاوةً على ذلك، فإنَّ السودان مُنقَسِمٌ بسببِ العديد من الصراعات العشائرية. ومنذ العام 2023، والسودان غارقٌ في حربٍ أهلية مدمّرة، متأثرة أيضًا بالتوتّرات العرقية (على سبيل المثال في دارفور). يُضافُ إلى ذلك الاحتكاكات طويلة الأمد بين إثيوبيا وإريتريا. ولم تحصل الأخيرة على استقلالها عن إثيوبيا إلّا في العام 1991، بعد كفاح تحرير مسلّح استمرَّ 30 عامًا. وبين العامين 1998 و2000، اندلعت حربٌ بين البلدين راح ضحيتها ما يصل إلى 300 ألف شخص.

باختصار، شرق أفريقيا هي منطقة مُمزّقة تمامًا بالحروب الأهلية والتوتّرات بين الدول وتدخُّل القوى الدولية والإقليمية. ومن الممكن أن تنفجرَ الأوضاع بسهولة لتتحوَّل إلى حرب إقليمية شاملة، مع عواقب إقليمية وعالمية بعيدة المدى.

تحالُفان مُتنافِسان يتصارعان

على الرُغمِ من أنَّ الصراعاتَ في شرق أفريقيا لها سياقٌ مُشترك، فمن الخطَإِ أن ننظُرَ إليها من منظورٍ آليٍّ ونتجاهلُ الطبيعةَ الخاصة لكلٍّ منها. لكلِّ صراعٍ سببٌ مُحَدَّد وفردي ينتجُ عن تناقُضاتٍ اجتماعية ووطنية ملموسة داخل كلٍّ من هذه البلدان أو في ما بينها. لذلك، وفي حين أنَّ القوى الإقليمية والدولية تتدخّلُ بالتأكيد في هذه الصراعات، سيكونُ من الخطَإِ النظر بشكلٍ عام إلى تركيز التناقضات المتفجّرة في شرق أفريقيا على أنها مجرّدُ صراعٍ غير مُباشر بين الجهاتِ الفاعلة الخارجية.

إنَّ الاعترافَ بالأسباب الفردية لكلِّ صراعٍ لا يعني تجاهل الترابط بينها، وبالأخص بعدما ظهرت تحالفاتٌ جديدة في المنطقة. فمن ناحية، ترتبط إثيوبيا ــثاني أكبر دولة في إفريقيا من حيث عدد السكان (132 مليون نسمة)ــ ارتباطًا وثيقًا بالإمارات العربية المتحدة. كما أقامت أديس أبابا علاقات وثيقة مع نظام “أرض الصومال”، وهي دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع (غير مُعتَرَف بها دوليًا) انفصلت عن الصومال في العام 1991. كما إنَّ دولة الإمارات تدعم ميليشيا “قوات الدعم السريع” السودانية التابعة للجنرال محمد حمدان دقلو (المُلقَّب بحميدتي)، المعروفة بمذابحها في دارفور، وتدعم أيضًا النظام التشادي الحالي وقوات الجنرال حفتر في ليبيا. وكانت إلى وقتٍ قريب داعمة لنظام آسياس أفورقي أو دكتاتورية الحزب الواحد، منذ العام 1991، في إريتريا.

بعد سقوط منغستو هايلي مريام في العام 1991، أصبح نظام أديس أبابا نوعًا من شرطةٍ إقليمية تخدُمُ مصالح القوى الدولية الكبرى في المنطقة. كانت أثيوبيا قادرة على لعب هذا الدور على الرُغم من اقتصادها المُتَخَلِّف، وذلك للاسباب التالية:

  • أنَّ عددَ سكانها أكبر من مجموع جميع الدول المجاورة لها؛
  • أنها شهدت دكتاتورية الحزب الواحد المستقرة لما يقرب من ثلاثة عقود حتى العام 2020 (عندما بدأت الحرب في التيغراي).
  • أنَّ النظامَ كان قريبًا من الولايات المتحدة وقد نفّذَ عملية الاحتلال الأجنبي للصومال منذ العام 2006 بالتعاون الوثيق مع واشنطن.

ومع ذلك، تغيَّرَ الوضعُ إلى حدٍّ ما بعدما أصبحَ آبي أحمد رئيسًا للوزراء في العام 2018 حين أطاحَ المجموعة التي هَيمَنت لفترةٍ طويلة على النظام. ومنذ ذلك الحين، اقتربت أديس أبابا أكثر من الصين، في حين أصبحت واشنطن أكثر انتقادًا للنظام.

بعد نهاية الحرب الإثيوبية-الإريترية في العام 1991، أصبحت إثيوبيا دولةَ الحزب المُهَيمِن تحت حكم الجبهة الثورية الديموقراطية للشعب الإثيوبي، وهي تحالفٌ من أربعة أحزاب عرقية: جبهة تحرير شعب التيغراي (FLPT)، والمنظمة الديموقراطية لشعوب الأورومو (ODPO)، والحركة الوطنية الديموقراطية الأمهرية (MNDA)، والحركة الديموقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا (MDPSE).

بعد السقوط الرسمي لنظام منغيستو في 28 أيار (مايو) 1991، أصبح ملس زيناوي رئيسًا للبلاد في 28 أيار (مايو) 1991 إلى 21 آب (أغسطس) 1995 حيث صار بعدها رئيسًا لحكومةٍ انتقالية في 23 آب (أغسطس) 1995 حتى وفاته في العام 2012. وقد أدخل بلاده في مرحلةٍ من الإصلاحات: التعددية الحزبية، والحرية الدينية، والانتخابات الديموقراطية، وخصخصة قطاعات مُعَيَّنة. وستتميّز رئاسته أيضًا بانفصال إريتريا بعد استفتاء العام 1993 واعتماد دستور جديد في العام 1994: أصبحت إثيوبيا رسميًا جمهورية إثيوبيا الديموقراطية الفيدرالية وقُسِّمت إداريًا على أُسُسٍ عرقية، إلى مناطق مختلفة. خلال تلك الفترة الانتقالية 1991- 1995، كان تامرات لاين (من الحركة الوطنية الديموقراطية الأمهرية) رئيسًا لمجلس الوزراء. وقد تميّزَ هذا النظام بتعديلٍ إقليمي أساسي: استقلال إريتريا في العام 1993، واعتماد دستور جديد في كانون الأول (ديسمبر) 1994 ثم تنظيم انتخابات متعددة الأحزاب في عام 1995. وفي 22 آب (أغسطس) 1995، أُعلِنت جمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديموقراطية، وأصبح  زيناوي رئيسًا للوزراء رسميًا في 23 آب (أغسطس)، وأعيد انتخابه في الأعوام 2000 و2005 و2010 حتى وفاته في العام 2012.

في 2 نيسان (أبريل) 2018، أُطيح بجبهة تحرير شعب تيغراي من الحكومة الفيدرالية بسبب الاستياء المتزايد بين الناس، كردِّ فعلٍ على 27 عامًا من القمع. وفي انتخاباتٍ مُغلَقة لرئاسة الجبهة الثورية الديموقراطية، صوَّت أعضاءُ اللجنة التنفيذية من مناطق أمهرة وأورومو وشعوب قوميات الأمم الجنوبية لآبي أحمد علي في تحدٍ لجبهة تحرير تيغراي. وبعد خسارتهم الانتخابات وإقصائهم من الحكومة الفيدرالية، انتقل مسؤولو جبهة التيغراي إلى تيغراي حيث استمرّوا بإدارة المنطقة لمدة ثلاث سنوات مع تكرار النزاع المسلح مع الحكومة الفيدرالية وأهم محطاته الحرب في 2020- 2022 .

أخيرًا تشكّلَ تحالفٌ جديد بين مصر وحكومة الصومال الفيدرالية وإريتريا في قمة ثُلاثية عُقدت في أسمرة في 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، حيث التقى رؤساء الدول الثلاث. هذا التحالف هو في الأساس نتيجةً لتقارُب مصالح الدول المشاركة في الصراعَين الإقليميين الأكثر أهمية: 1- الصراع بين إثيوبيا ومصر حول سد النهضة الإثيوبي الكبير، 2- الصراع المتفجّر بين إثيوبيا والحكومة الفيدرالية في الصومال بعد أن وَقّعت إثيوبيا في كانون الثاني (يناير) 2024 اتفاقًا مع “أرض الصومال” يمنحها أراض لإنشاء قاعدة بحرية مقابل الاعتراف باستقلال “أرض الصومال”.

أشكالُ الصراع المختلفة

في الأساس، يُمكنُ تقسيمُ الصراعات الحالية إلى ثلاثةِ أنواعٍ مختلفة:

  • الحروب الأهلية مثل الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان أو حرب تيغراي في إثيوبيا؛
  • الصراعات بين الدول مثل الصراع بين إثيوبيا ومصر والصراع بين إثيوبيا وإريتريا؛
  • حروبٌ داخلية ذات طابع تحرُّري ، مثل التمرُّد الذي تقوده “حركة الشباب” ضد الاحتلال الأجنبي للصومال بقيادة إثيوبيا؛ ومقاومة قبائل الفور والزغاوة والمساليت في دارفور ضد النظام السوداني وحلفائه المحليين، ونضال الأقلية الصومالية المُهَمَّشة اقتصاديًا في أوغادين التي تحتلها إثيوبيا، وهي تُناضِل من أجل الاستقلال وتقرير المصير.

بالتالي يتوجب علينا أن نُدرِكَ أهمّية المسألة العرقية/القومية في المنطقة.

الإثيوبيون مُتَنَوِّعون للغاية ويضمّون أكثر من 80 مجموعة عرقية مختلفة. أكبر أربع مجموعات عرقية هي الأورومو (34.4٪)، الأمهرة (27.0٪)، الصوماليون (6.2٪) والتيغريون(6.1٪). توجد في السودان أيضًا مجموعاتٌ عرقية عدة (العرب السودانيون هم المجموعة الأكبر، حيث يشكلون 70٪ من إجمالي السكان). وفي المقابل فإنَّ الصومال بلدٌ متجانس حيث يُمثّل الصوماليون حوالي 98% من السكان. ومع ذلك، فالصومال مُقسَّمٌ في الوقت نفسه إلى أكثر من 500 قبيلة وعشيرة.

ينبغي تحليلُ كلّ صراعٍ عرقي/وطني بشكلٍ ملموس لتقييم الوضع وإعداد تحليل ملموس لكلِّ صراعٍ عرقي/قومي في المنطقة. ويجب علينا أن نفحصَ تاريخ كل صراع. وبطبيعة الحال، فإنَّ هذه العلاقات بين المجموعات العرقية أو الشعوب ليست ثابتة ويُمكنُ أن تتغيّرَ بمرور الوقت بسبب أحداثٍ سياسية كبرى. وكمثالٍ تاريخي، نستشهد بيوغوسلافيا في السنوات التي سبقت بداية حروب البلقان في العام 1991. فقد أدّى صعودُ سلوبودان ميلوشيفيتش وسياساته الشوفينية المُتطرِّفة إلى تحويلِ طابع الدولة الفيدرالية بحيث أصبحت صربيا هي القومية/الإثنية المُهَيمنة على الجمهورية بأكملها، ولم تضطهد ألبان كوسوفو فحسب (لقد فعلت ذلك منذ بداية وجود يوغوسلافيا)، بل ايضًا مسلمي البوسنة، والكروات، والسلوفينيين، والمقدونيين، وما إلى ذلك. ومن الأمثلة الأخرى على المجموعات العرقية التي تَغَيَّرَ وضعها بسبب الأحداث الكبرى وضع التوتسي في رواندا أو التاميل في سريلانكا.

الصومال بين الاحتلالِ الأجنبي والنزاعاتِ الداخلية

لطالما كانت الصومال مركز اهتمام القوى العالمية والإقليمية بسبب موقعها الاستراتيجي في القرن الأفريقي، حيث تُسيطرُ على باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، وهو أحد طرق النقل البحري الرئيسة. ولكن منذ أن مُنيت الولايات المتحدة بهزيمةٍ مُذلّة في “معركة مقديشو” في صيف العام 1993، واجهت القوى الكبرى صعوبةً كبيرة في فَرضِ سيطرتها على البلد الذي مزقه الفقر والحرب الأهلية.  فمنذ أوائل العام 2007، حاولت “الحكومة الفيدرالية الانتقالية” ترسيخ سلطتها بمساعدة نحو عشرين ألف جندي بقيادة إثيوبيا وبدعم من القوات الخاصة الأميركية وغيرها من القوى الأجنبية. وبينما تمتلك إثيوبيا أكبر وحدة ضمن هذه الجيوش، تُقدّم كينيا وأوغندا وبوروندي وجيبوتي قوات أيضًا. لعلَّ هذا ما يُفسّرُ عنادَ المقاومة الداخلية، بقيادة “حركة الشباب” الإسلامية. وعلى الرُغم من تفوّقها العسكري الهائل، إلّا أنَّ قوات الاحتلال التي تقودها إثيوبيا وبدعم من الغرب و”الحكومة الفيدرالية” فشلت حتى الآن في هزيمة حركة الشباب التي لا تزال تسيطر على مناطق واسعة في جنوب البلاد ووسعت عملياتها في السنوات الأخيرة. و”حركة الشباب” التي هي حركة سلفية إسلامية نجحت في جذب القطاعات الفقيرة المُهَمَّشة بشكلٍ أساسي إلى صفِّ معارضتها القومية للاحتلال الأجنبي، ويُنظَرُ إلى نظامها الشرعي على نطاقٍ واسع على أنه مُتفوِّقٌ على أجهزة الدولة الفاسدة وغير الفعّالة. وبالمثل، تُحاولُ “حركة الشباب” دعمَ الأقليات الصومالية في الدول المجاورة مثل إثيوبيا وكينيا وجيبوتي (انظر على سبيل المثال توغّلها في المنطقة الصومالية بإثيوبيا في صيف 2022). وقد تكون وطنيتها ​​الإسلامية مُستوحاة من التقليد الفخور لحركات المقاومة وحركات الدراويش ضد المُستَعمِرين الإيطاليين والبريطانيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وعلاوةً على ذلك، تدعو “حركة الشباب” إلى مُعارضةِ “العشائرية”، كما إنَّ لها قاعدة قوية بين العشائر الفقيرة التي تُعاني من التمييز. وبالنظر إلى موقفها الضعيف، تُحاولُ الحكومة الفيدرالية الحصول على الدعم من خلال إبرام اتفاقيات مع زعماء العشائر المختلفة. وقد أدى ذلك إلى تشكيلِ ميليشيات عشائرية في السنوات الأخيرة. وفي حين ساعد هذا في بعض الأحيان على صدِّ قوات “حركة الشباب”، فإنه قَوَّضَ التماسك الوطني للبلاد وكذلك سلطة الحكومة الفيدرالية، إذ بدأت العشائر المختلفة تستخدم ميليشياتها في صراعاتٍ على السلطة ضد بعضها البعض ورفضت القتال تحت سلطة الحكومة الفيدرالية وجيشها. ونظرًا لطول فترة الاحتلال الأجنبي، أقامَ العديدُ من سلطات المقاطعات وزعماء العشائر علاقاتٍ وثيقة مع قوات الاحتلال. كل هذا سمح ل”حركة الشباب” استعادة الأراضي التي كانت فقدتها في السابق. ومما زاد من ضعف موقف الحكومة الاتحادية الانهيار المفاجئ لعلاقاتها مع إثيوبيا، القوة الأجنبية التي توفّرُ أكبر فرقة من قوات الاحتلال. وكما ذكرنا أعلاه، وقّعَت أديس أبابا في كانون الثاني (يناير) 2024 اتفاقيةً تمنحُ إثيوبيا أرضًا في “أرض الصومال” لإنشاء قاعدة بحرية مقابل الاعتراف باستقلال “أرض الصومال”. بالنسبة إلى أديس أبابا، يُعتَبَرُ هذا الاتفاق حاسمًا في استعادة حلم الوصول إلى البحر الأحمر (الذي فقدته بعد استقلال إريتريا في أعقاب انهيار دكتاتورية منغيستو في العام 1991). ويأمل رئيس “أرض الصومال” موسى بيهي عبدي في الحصول على الاعتراف الدولي بدولته (التي لم تعترف بها أي دولة أخرى حتى الآن).

ومع ذلك، فإنَّ الصفقة مَوضِعُ تساؤلٍ كبير داخل النخبة الحاكمة في “أرض الصومال”. حتى أنَّ وزير دفاع “أرض الصومال”، عبد القاني محمود عطية، استقال احتجاجًا على الاتفاق. كما إنَّ جُزءًا كبيرًا من هذا البلد المستقل بحكم الأمر الواقع يعارض استقلال “أرض الصومال” رسميًا ويرغب في البقاء داخل جمهورية الصومال الفيدرالية. وبعد فترةٍ قصيرة من حربٍ أهلية اندلعت في العام 2023، تمكّنت القوات التابعة للإدارة الذاتية لولاية خاتمة (التي تضم أجزاء من مناطق سول وسناج وكاين) من طرد قوات “أرض الصومال”.  كما إنَّ الاتفاق بين إثيوبيا و”أرض الصومال” أثار موجةً من ردودِ الفعل الوطنية في الصومال نفسه. واضطرَّ الرئيس حسن شيخ محمود، الذي كان يُنظَرُ إليه على أنه دمية في أيدي القوى الأجنبية، إلى قطع العلاقات الوثيقة مع أديس أبابا والدعوة إلى طرد القوات الإثيوبية؛ ثم وقّعَ اتفاقًا مع مصر، التي أرسلت بالفعل أسلحة ثقيلة وستوفر ما بين 5,000 إلى 10,000 جندي ليحلوا محل الإثيوبيين. إلّا أنَّ الأخيرين لم يظهروا حتى الآن أي علامات على قرب انسحابهم من الصومال. ومن ثم فإنه يُحتَمل وقوع اشتباكات بين القوات المصرية وقوات إثيوبيا و”أرض الصومال”. وقد تتشابك هذه الصراعات مع الصراعات الداخلية في الصومال و”أرض الصومال”. كما إنَّ مثل هذه الحرب قد تشملُ أيضًا إريتريا (التي انضمّت أخيرًا إلى التحالف المصري-الصومالي)، فضلًا عن الإمارات العربية المتحدة وتركيا.

من الواضح أنَّ موجةَ الشعور القومي المُناهضة لإثيوبيا في الصومال تُفسِّرُ احتضان “حركة الشباب”. وهذا يُضفي الشرعية على قضيتهم ويُقوِّضُ شرعية الحكومة الفيدرالية، التي كانت سلطتها تعتمد بشكلٍ شبه كامل على وجود قوات الاحتلال بقيادة إثيوبيا. وفي الواقع، فإنَّ معارضة الرئيس محمود الشديدة للاتفاق بين إثيوبيا و”أرض الصومال” ترجع إلى خوفه من أن يؤدّي ذلك إلى تسريع عودة “حركة الشباب” للبروز.

هل تندلعُ الحربُ بين مصر وإثيوبيا؟

وكما ذكرنا سابقًا، يُعَدُّ الصراعُ بين إثيوبيا ومصر أحد المحرِّكات الرئيسة للتوترات الإقليمية. قام نظام أديس أبابا ببناء سد النهضة الإثيوبي الكبير على النيل الأزرق، وهو أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، وهدفها توليد الكهرباء للتخفيف من النقص الحاد في الطاقة في إثيوبيا وتصدير الكهرباء إلى البلدان المجاورة. وتُعارِضُ مصر بشدّة هذا المشروع لأنها تخشى أن يؤدّي السدّ إلى تقليل كمية المياه المُتاحة في نهر النيل، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على إنتاج الزراعة والكهرباء في البلاد. ومن المعروف أنَّ النظام المصري يناقش منذ سنوات إمكانية معالجة سد النهضة لتأمين موارده المائية. والتحالف المصري مع الصومال تُحرّكه الدوافع نفسها. هناكَ شعورٌ وطني كبير في مصر يهدفُ إلى وقف سد النهضة بأيِّ وسيلةٍ مُمكنة. ولا يستطيع نظام عبد الفتاح السيسي أن يتحمّلَ عدم القيامِ بأيِّ شيء. فهو نظام دكتاتوري قمعي، فاسد تمامًا وغير كفؤ، ما أدّى إلى تفاقم الظروف المعيشية الاجتماعية للجماهير الشعبية. وليس مستغربًا بالتالي أن يكونَ مكروهًا على نطاق واسع. ويصدق هذا بشكلٍ أكبر منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، عندما لم يُحرّك السيسي ساكنًا لمساعدة الشعب الفلسطيني وقام بقمع أي مظاهرة مؤيّدة للفلسطينيين في الشوارع. باختصار، يتعرّض الجنرال السيسي لضغوطٍ هائلة حتى لا يفشل في هذه القضية الأساسية للبلاد.

في الوقت نفسه، لا يمكن لآبي أحمد أن يتخلّى عن مشروع سد النهضة أيضًا، لأنه ضروريٌ لزيادة إنتاج الكهرباء في إثيوبيا وضمان التحديث الاقتصادي للبلاد. ويُعتَبَرُ المشروع أساسيًا لخطة آبي لتحويل إثيوبيا إلى قوة إقليمية. ومثل السيسي، فإنَّ نظامه هشٌّ للغاية ومن غير المرجح أن يبقى على قيد الحياة إن حصلت تسوية تميل لصالح القاهرة.

إثيوبيا: قوة إقليمية هشّة تنهشُها الصراعات

تمتّعَ النظام الإثيوبي –الذي كان عبارةً عن تحالُفٍ من الجماعات المتمرّدة العرقية التي كانت تقاتل ضد دكتاتورية منغيستو– بدعمٍ شعبي واسع النطاق في الفترة الأولى بعد وصوله إلى السلطة في العام 1991. ومع ذلك، فإنَّ سياساته النيوليبرالية والمؤيِّدة للقوى الإمبريالية –التي تجعله يعمل كقوة إقليمية في خدمة القوى العظمى– أدّت إلى صراعاتٍ داخلية وفشلت في تحقيق التماسك الوطني أو التنمية الاجتماعية.  وبدلًا من ذلك، ظهرت الصراعات العرقية والقومية، وكانت إيذانًا بفترةٍ من الاضطرابات والحرب الأهلية. وكما ذكرنا أعلاه، أطلق آبي أحمد –الذي تنتمي قاعدته إلى النخبة الحاكمة لمجموعة الأورومو العرقية– سياسةً جديدة بعد وصوله إلى السلطة في العام 2018. وكان هدفه هو التخلّص من جبهة تحرير تيغراي التي تتخذ من تيغراي مقرًا لها، وهي المجموعة التي هيمنت لفترة طويلة داخل الجبهة الديموقراطية الثورية (الائتلاف الحاكم للأحزاب العرقية والإقليمية الذي وصل إلى السلطة في العام 1991). ولتحقيق هذه الغاية، قام آبي بدمج أحزاب الجبهة الديموقراطية الثورية وعدد قليل من الأحزاب الأخرى في حزبٍ باسم “الازدهار الجديد”، لكنه استبعد جبهة تحرير تيغراي. كما بدأ محادثات سلام مع إريتريا (وللعلم أن جبهة تحرير تيغراي كانت القوة الدافعة وراء الحرب بين البلدين في العامين 1998 و2000). وسوف يتنازل لاحقًا عن معظم المناطق الحدودية المُتنازَع عليها، وهي المناطق التي كانت جُزءًا من مقاطعة تيغراي، إلى إريتريا. وفي المقابل، انضمت القوات الإريترية إلى الحرب ضد تيغراي إلى جانب عدوها السابق، الجيش الإثيوبي (الذي لا يزال يسيطر على جُزءٍ من أراضي تيغراي). لذلك لم يكن مُستغربًا أن تبدأ جبهة تحرير تيغري حربًا أهلية في تشؤين الثاني (نوفمبر) 2020، انتهت بعد عامين بوقفٍ هشٍّ لإطلاق النار. وفي الواقع، لا تزال التوترات مرتفعة ويُمكِنُ أن تُستأنف الحرب الأهلية في أيِّ وقت.

في الواقع، لم يتمكّن آبي من تثبيت استقرار الوضع الداخلي على الإطلاق. وفي حربه ضد تيغراي، بنى تحالفًا مع ميليشيات “فانو” (Fano) التابعة لجماعة الأمهرة العرقية (ثاني أكبر جماعة في البلاد). لكن بعد فترةٍ وجيزة من انتهاء حرب تيغراي، اندلعت حربٌ أهلية بين النظام وميليشيات “فانو”، وهي حربٌ لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. كما يواجه آبي تمرُّدًا جديدًا من جبهة تحرير أورومو – جيش تحرير أورومو، وهي حركة عصابات من مجموعة الأورومو العرقية (التي ينتمي إليها رئيس الوزراء وحاشيته).

في الواقع، إثيوبيا عملاقٌ ذو أقدامٍ من طين. إنها الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في شرق أفريقيا ولديها جيشٌ كبير. وهي تحاول القيام بمغامراتٍ في السياسة الخارجية لتصبح قوة مهيمنة في المنطقة، جُزئيًا بالتعاون الوثيق مع القوى العظمى (مثل احتلال الصومال)، وجُزئيًا بمبادرةٍ منها (على سبيل المثال، الحصول على قاعدة بحرية في “أرض الصومال”، مشروع بناء سد النهضة). ومع ذلك، فهي مُتخلِّفة اقتصاديًا وتُمزّقها التوتّرات العرقية والحروب الأهلية والنظام دِكتاتوري الذي له الكثير من الأعداء في الداخل والخارج. وكما ذكرنا أعلاه، كانت إثيوبيا وإريتريا في حالةِ حربٍ بين العامين 1998 و2000 وشهدتا صراعات حدودية منذ ذلك الحين. وتغلّبَ آبي أحمد مؤقتًا على هذه التوترات من خلال تقديم تنازلاتٍ إقليمية لكسب إريتريا كحليفٍ في حربه ضد تيغراي. ومع ذلك، مع نهايةِ حرب تيغراي، اختفى أساس هذا التحالف أيضًا. وأخيرًا، انضمّت الدكتاتورية الإريترية، التي يحكمها رئيسها الأول والوحيد، أسياس أفورقي، منذ العام 1993، إلى التحالف مع مصر والصومال ضد إثيوبيا . باختصار، هناك مؤشّرات مُعَيَّنة تشيرُ إلى حربٍ جديدة بين الدولتين.

السودان في أتون الحرب الأهلية

في السودان تستمر الحرب الأهلية الدموية بين القوات المسلحة لجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع للجنرال حميدتي وهي كارثة على الشعب السوداني ويمكن أن تُساهمَ بسهولة في اندلاع حرب إقليمية شاملة.  يتمتّع حميدتي بدعمٍ من دولة الإمارات العربية المتحدة. كما كانت له علاقات وثيقة مع إسرائيل. أما الجنرال البرهان فهو الآن قريب من مصر وروسيا وإيران (تأمل موسكو وطهران في تأمين قواعد بحرية في السودان للوصول المباشر إلى البحر الأحمر). ومن المرجح أنه في حالة نشوب حرب إقليمية شاملة، فإنَّ الجنرال البرهان سيقترب بعد أكثر من مصر وروسيا وإيران.  وسينضم البرهان إلى التحالف المصري الصومالي، بينما سينضم الجنرال حميدتي إلى التحالف الإماراتي-الإثيوبي.

طوال التسعينيات، كان “الجنجويد” يتحركون للسيطرة على الأراضي، وقد تسامحت معهم الحكومة السودانية. وانخرطت غالبية عرب دارفور، من البقارة، في الحرب على أراضي الرعي. وفي الفترة 1999-2000، وفي مواجهة تهديدات التمرُّد في غرب وشمال دارفور، قام جهاز الأمن السوداني بتسليح قوات “الجنجويد”. ومع تصاعد التمرّد الدارفوري في شباط (فبراير) 2003، بقيادة حركة/جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، ردت الحكومة السودانية باستخدام الجنجويد كقوة رئيسة لمكافحة التمرّد، وصدرت أوامر لقوات الجنجويد بمهاجمة المناطق التي يسيطر عليها المتمرّدون في دارفور واستعادتها. وبحلول أوائل العام 2006، كان قد جرى استيعاب العديد من الجنجويد في القوات المسلحة السودانية، بما في ذلك قوات الدعم السريع وحرس الحدود. في الوقت نفسه، توسّعَ إطارُ الجنجويد ليشمل بعض القبائل العربية في شرق دارفور التي لم تكن مرتبطة تاريخيًا بالجنجويد الأصليين.

في 14 تموز (يوليو) 2011 وقعت حركتا تحرير السودان والعدل والمساواة في الدوحة اتفاق سلام بعد مفاوضاتٍ طويلة استغرقت ثلاثين شهرًا برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وقطر. وبناءً على اتفاق الدوحة تشكلت سلطة إقليمية في دارفور آلت رئاستها إلى التجاني سيسي وتقلّد عدد من معاونيه حقائب وزارية، ونصَّ الاتفاق أيضًا على إجراءِ استفتاءٍ يحدد الوضع الإداري للإقليم.

في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 شكلت حركات دارفور تحالفًا عسكريًا مع الحركة الشعبية-قطاع الشمال التي كانت تُحارب الحكومة السودانية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المتاخمتَين لدولة جنوب السودان ترتّبَ عليه تصعيدُ عسكري أوسع مع القوات الحكومية. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2011 لقي زعيم حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم حتفه إثر غارة جوية. واختارت الحركة (وهي أقوى الحركات في دارفور) شقيقه جبريل خلفًا له. في العام 2013، قررت الخرطوم تشكيل هيئة شبه عسكرية مُعَزَّزة بين عرب دارفور، تسمى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”.

في العام 2014 دعا الرئيس عمر البشير خصومه إلى حوارٍ شامل تبنّاه الاتحاد الإفريقي الذي فوَّضَ فريق وساطة بقيادة رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو أمبيكي لإنجاحه. وعقد الوسيط جولاتٍ عدة من المفاوضات بين الحكومة والحركات المسلحة لم تؤدِّ إلى إحرازِ أي تقدّم.

مع اندلاعِ الانتفاضة الشعبية في السودان في العام 2019، تحالف حميدتي مع عددٍ من جنرالات الجيش، على رأسهم عبد الفتاح البرهان، للتخلّص من عمر البشير وتقاسُم السلطة ؛ وأصبح البرهان رئيسًا وحميدتي نائبًا للرئيس. قادت الحكومة الانتقالية المُشَكَّلة عقب سقوط البشير مفاوضاتٍ مع المتمرّدين أسفرت عن توقيع اتفاقية “جوبا للسلام” في آب (أغسطس) 2020، عَيّنَ رئيس الوزراء آنذاك عبد الله حمدوك بموجبها مني مناوي حاكمًا عامًا لإقليم دارفور. ومع تصاعد الخلافات بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس المركزي، وقوى التوافق الوطني، قاد مناوي وآخرون اعتصامًا أمام القصر الجمهوري في العاصمة السودانية الخرطوم، أدى إلى اتخاذ رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 “إجراءات” بحل الحكومة وإبقاء الموقِّعين على “اتفاقية جوبا” في مناصبهم. وعقب اندلاع الصراع المسلح في 15 نيسان (أبريل) 2023 بين الجيش السوداني (الذي يرأسه تاريخيًا ضباط ينتمون إلى الوسط الإثني والسياسي لشمال وادي النيل) وقوات الدعم السريع (وريثة ميليشيات دارفور الجنجويد) ،  شكلت حركات دارفور المسلحة تحالفًا عسكريًا مشتركًا بهدف حماية المدنيين في إقليم دارفور، غير أنها أعلنت في 11 نيسان (أبريل) 2024 خروجها عن الحياد والقتال إلى جانب الجيش السوداني.

خاتمة

في الختام، وكما ذكرنا أعلاه، يُمكن تصنيف الصراعات في شرق أفريقيا إلى ثلاث فئات مختلفة:

أ) الصراعات بين الدول، مثل الصراع بين إثيوبيا ومصر أو بين قوى التحالفين (إثيوبيا-الإمارات-أرض الصومال مقابل مصر-الصومال-إريتريا).

ب) الحروب الأهلية ، مثل الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في السودان، أو حرب تيغراي في إثيوبيا.

ج) حروب التحرير الوطني، مثل الانتفاضة الشعبية ضد احتلال إثيوبيا للصومال؛ المقاومة الصومالية في أوغادين ضد إثيوبيا. ويمكن أن نضيف إلى ذلك احتمالات الانتفاضات الديموقراطية الشعبية، ضد الدكتاتوريات الحاكمة.

إنَّ تصاعُدَ حدة الصراعات في شرق أفريقيا ستكونُ له عواقب وخيمة على المنطقة. إنَّ جميعَ الأنظمة تقريبًا –إثيوبيا والصومال وإريتريا والسودان ومصر – هشّة للغاية أو تكافح بالفعل من أجل البقاء. إنَّ أيَّ تغييرٍ جذري في ميزان القوى، أو أيَّ انتكاسةٍ مُذلّة أو هزيمة عسكرية في أيِّ بلد من هذه البلدان، يُمكن أن يؤدّي بسهولةٍ إلى انفجاراتٍ سياسية في كل المنطقة. إنَّ تطوّرًا من هذا النوع ستكونُ له تداعيات كبيرة ليس فقط على شرق أفريقيا، بل على الشرق الأوسط برمته. ولا يبدو أيضًا أنَّ الحرب الأهلية السودانية ستتوقف قريبًا وهي ستُضعِفُ كل الأطراف المتورِّطة فيها ناهيك عن تدمير اقتصاد وحياة الشعب السوداني.

في إثيوبيا يواجه نظام آبي حروبًا أهلية عرقية وشيكة أو واسعة النطاق في أمهرة وأورومو وتيغراي. بالإضافة إلى ذلك، هناكَ تمرّدٌ منخفضُ الحدّة في منطقة أوغادين الصومالية في إثيوبيا. وإذا واجهت أديس أبابا حربًا مع مصر (ربما بالاشتراك مع حربٍ مع إريتريا)، فليس من الصعب تخيُّل أنَّ هذا من شأنه أن يضعف نظام آبي بشكلٍ كبير، وفي الوقت نفسه، سيُشجع الأقليات العرقية على تكثيف تمرّدها. وقد تكون النتيجة انهيار الدولة الإثيوبية.

والشيء نفسه يحدث مع دكتاتورية السيسي العسكرية في مصر. إنَّ النكسة المُهينة في الصراع مع إثيوبيا لن تؤدّي إلّا إلى زعزعة نظام القاهرة الذي فقد مصداقيته في الداخل والخارج. ومن المرجّح أن يُثيرَ هذا موجةً وطنية من الاحتجاجات الشعبية. وقد يؤدّي ذلك أيضًا إلى إثارة غضب قطاعات من الجيش ــ غير الراضية بالفعل عن سياسة السلبية المشينة التي ينتهجها السيسي في مواجهة الإبادة الجماعية في غزة . إذا سقط نظام الجنرال السيسي في مصر فإنَّ النظام الإقليمي والدولي برمته في المنطقة سوف يهتز.

وكل هذا ينطبق بشكل أكبر على الصومال. لم تتولَّ الحكومة الفيدرالية السلطة إلّا منذ عقدين من الزمن بفضل وجود 20 ألف جندي احتلال أجنبي. وأيُّ صراعٍ بين الدول التي تنتمي إليها هذه القوات، أو أي صراع بين القوات الإثيوبية والمصرية على الأراضي الصومالية يمكن أن ينهي وجود الحكومة الفيدرالية. والأمور مماثلة مع نظام “أرض الصومال”. ومن المرجح أن تتمكّن “حركة الشباب” من استغلال هذه الصعوبات التي يواجهها النظام الفيدرالي وقوات الاحتلال.

يبدو أنَّ القرن الأفريقي بات على فوهةِ بركان…

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى