إسرائيل تَنقُلُ استراتيجيَتَها الخاصة بغزّة إلى لبنان، لكن “حزب الله” ليس “حماس”
تُقدّمُ حملةُ الفوضى الإسرائيلية التي تُشَنُّ تحت غطاءِ هجومٍ ضد “حزب الله” بعضَ الفوائد السياسية المحدودة لبنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، لكن بالنسبة إلى جميع اللبنانين المدنيين فإنَّ الأمرَ سيكونُ كارثيًا.
مهنَّد الحاج علي*
خلال الشهر الفائت، فاجأت إسرائيل “حزب الله” ــإلى جانب راعيته إيران، وبقية العالم ــ بنجاحاتٍ استخباراتية وعسكرية عدّة رفيعة المستوى. فقد تمكّنت الدولة العبرية من شلِّ شبكة الاتصالات التابعة للمنظمة من خلال تخريب أجهزة النداء واللاسلكي المتطوّرة تقنيًا. علاوةً على ذلك، تزعمُ إسرائيل أنَّ غاراتها الجوية دمّرت جُزءًا كبيرًا من مخزونات “حزب الله” من الصواريخ، والتي كانت تهدف إلى ردعِ حربٍ أخرى مُدَمِّرة عبر الحدود. ولعلَّ الأمرَ الأكثر أهمية هو أنَّ حملة الاغتيالات الإسرائيلية الواسعة النطاق قضت على عددٍ كبيرٍ من كبار قادة “حزب الله”، بمن فيهم زعيمه الشعبي والكاريزمي السيد حسن نصر الله.
حظيت الإنجازات التكتيكية التي حققتها إسرائيل في لبنان باعتراف وإعجابٍ واسع النطاق. لكنَّ الكثيرين من المراقبين فوجئوا بغيابِ أيِّ خطةٍ إسرائيلية عملية لإنهاء الصراع، خصوصًا تلك التي قد تؤدّي إلى تسويةٍ سياسية دائمة. الواقع أنَّ هذا التبايُن الواضح بين الوسائل والغايات ملحوظٌ بشكلٍ خاص في ضوء الخسائر الفادحة التي تكبّدتها المجتمعات الشيعية في لبنان بسبب النجاحات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة. فكما كانت جهودُ إسرائيل للقضاء على “حماس” مُدمِّرة بالنسبة إلى المدنيين الفلسطينيين في غزة، يبدو أنها تدير عملياتها في لبنان من دون أن تكترث كثيرًا بالأضرار التي قد تلحق بالسكان المدنيين أو البنية التحتية الأساسية. فقد دمّرت بلدات وأحياء شيعية بأكملها، ووفقًا لوزارة الصحة اللبنانية، قُتِل 127 طفلًا و261 امرأة خلال الأسابيع الخمسة الأولى من الحملة الإسرائيلية الأخيرة. وفي لبنان كما في غزة –وإن كان على نطاقٍ أضيق حتى الآن ـ يبدو أنَّ إسرائيل استقرّت على استراتيجيةِ العقاب الجماعي التي تُحَمِّلُ السكان المدنيين المسؤولية عن أفعال الجماعات المسلحة التي تعمل في وسطهم.
كانت ضرورةُ وَضع خطة ل”اليوم التالي” لانتهاء الحملات العسكرية موضوعًا ثابتًا في التحذيرات الأميركية لإسرائيل ــوخصوصًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهوــ لأكثر من عام. في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، حذّر الرئيس جو بايدن في خطابٍ ألقاه في تل أبيب زعماء إسرائيل من تكرار الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن أثناء “الحرب على الإرهاب” وغزو العراق في العام 2003: “بعدَ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، غضبنا في الولايات المتحدة. وبينما سعينا إلى تحقيق العدالة وحصلنا عليها، ارتكبنا أيضًا أخطاء”. ولم يُحدد بايدن في خطابه الأخطاءَ التي كان يقصدها. لكنه أعطى مؤشرات من خلال تذكير جمهوره الإسرائيلي بأنَّ “الغالبية العظمى من الفلسطينيين ليست من “حماس””، ومن خلال القول بأنَّ القرارات التي تُتَخَذُ في زمن الحرب تتطلّبُ “الوضوح بشأن الأهداف وتقييمًا صادقًا لما إذا كان المسار الذي تسلكه سيحقق هذه الأهداف”. كانت الرسالة واضحة، وإن لم تكن صريحة تمامًا: بدون خطة دقيقة لما بعد الحرب، حتى النجاح العسكري الساحق قد يؤدي بسهولة إلى الفوضى، تمامًا كما حدث مع الولايات المتحدة في العراق.
لكن بايدن لم يُدرك النقطة الأساسية. ذلك أنَّ نتنياهو لا يحتاج إلى خطةٍ لتجنُّب الفوضى، لأنَّ الفوضى هي خطته. الواقع أن الشهر الماضي في لبنان، كما حدث في العام الفائت في غزة، أثبت أنَّ زعماء إسرائيل لا يحملون أي ادعاءات مثالية بشأن إقامة نظام سياسي جديد في لبنان أو في القطاع الفلسطيني. فهُم لا يحاولون زرع بذور الديموقراطية أو إعادة تشكيل الشرق الأوسط. بالنسبة إلى دولة إسرائيل التي ترفض تقرير المصير الفلسطيني وتشعر بأنها غير مُقَيَّدة من قِبَل حلفائها الغربيين ــوخصوصًا بالنسبة إلى نتنياهو، الذي عزم على حماية سلطته السياسية الداخلية بأي ثمن ــ فإنَّ نتائج الغزو الأميركي للعراق ليست تحذيرًا بقدر ما هي نموذج. ويبدو نتنياهو مُقتنعًا بأنَّ أمنَ بلاده، إلى جانب بقائه السياسي، يعتمدان على إطالة أمد الهجمات العسكرية وإبقاء غزة ولبنان في حالة من عدم القدرة على الحُكم، وبالتالي الرضوخ.
مع ذلك، هناك أسباب تدعونا إلى الاعتقاد بأنَّ هذا الهدف، والتكتيكات والاستراتيجيات التي تستخدمها إسرائيل لتحقيقه، لن تنجح في لبنان بقدر ما نجحت حتى الآن في غزة. على الرُغم من كل أوجه التشابه بينهما، فإنَّ “حزب الله” ليس “حماس”. الواقع أنَّ الأول هو منظمة أكبر من الثانية، وتتمتع بدعمٍ شعبي أوسع، وشبكات أكثر مرونة، وفرصة أفضل للتعافي من خسائرها. ورُغمَ أنَّ إسرائيل لا تواجه حاليًا أيَّ قيود جدية على دوافعها التوسّعية في الضفة الغربية ــفإذا أصبح دونالد ترامب رئيسًا مرة أخرى، فقد تؤيد الولايات المتحدة المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، أو حتى ضمّها لبعض الأراضي الفلسطينيةــ فإنَّ الديبلوماسية الدولية لا تزال تتمتع ببعض النفوذ في لبنان.
حملةُ الفوضى
إنَّ الوضعَ الحالي في لبنان قاتمٌ إلى حَدٍّ لا ينبغي الاستهانة به. فقبل الحملة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، كانت البلاد أصلًا في خضم انهيار اقتصادي طويل، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى النصف على مدى السنوات الخمس الماضية. وبحلول العشرين من تشرين الأول (أكتوبر)، أي بعد شهرٍ تقريبًا على بدء الهجوم الأخير، كان ما يُقدَّر بنحو 809 آلاف شخص في لبنان قد نزحوا داخليًا بسبب القتال. وتُقدّر الأمم المتحدة أنَّ 425 ألف شخص إضافي عبروا الحدود إلى سوريا التي مزّقتها الحرب. ووفقًا لليونيسيف، دمرت الحملة الإسرائيلية أيضًا ما لا يقل عن 28 منشأة للمياه، والتي تخدم أكثر من 360 ألف شخص. إنَّ حجمَ الدمار يجعل الحياة غير مُستدامة في العديد من أجزاء البلاد، وقد دفع ذلك نائب المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان عمران رضا إلى التحذير من أنَّ لبنان “يخاطر بالسقوط في هاويةٍ إنسانية مأسوية”.
هذا الدمارُ الواسع النطاق ليس مجرّد نتيجةٍ ثانوية أو نتيجة غير مقصودة للهجمات الإسرائيلية ضد “حزب الله”. إنَّ ما يجري في لبنان ليس سوى جُزءٍ من حملةٍ واسعة النطاق تهدف في جوهرها إلى مُفاقَمة وإشعال التوترات الداخلية في لبنان، وهي حملةٌ حجبها السحر التقني المُتمثّل في تفجير إسرائيل لأجهزة النداء واللاسلكي الخاصة بأعضاء “حزب الله” وعمليات اغتيال قادته التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة. الواقع أنَّ التدمير المنهجي الذي تتعرّض له مناطق جنوب لبنان ووادي البقاع والضواحي الجنوبية لبيروت يشيرُ إلى أنَّ إسرائيل تأمل في تهجير أكثر من مليون شيعي لبناني، بهدف دفع التوترات الاجتماعية اللبنانية إلى نقطة الانهيار في نهاية المطاف.
هذا هو السبب الذي دفع نتنياهو في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) إلى دعوة “المسيحيين والدروز والمسلمين السنة والشيعة” إلى الوقوف في وجه “حزب الله” و”استعادة بلادهم”. إن نتنياهو ليس ساذجًا إلى الحدِّ الذي يجعله يتوقع انتفاضة لبنانية ضد “حزب الله”. لكنه يُدركُ أنَّ إلقاءَ اللوم على المنظمة عن الهجمات الإسرائيلية من المرجح أن يزيد من التوترات في لبنان، الذي يتوقع نتنياهو أن يعمل مثل الإسفنجة لامتصاصِ التهديدات المستقبلية ضد بلاده.
ويُفسّرُ منطقٌ مُماثلٌ لماذا بذلت إسرائيل جهودًا مُضنية لاستهدافِ البلدات الشيعية اللبنانية داخل المناطق ذات الغالبية المسيحية أو الدرزية، فضلًا عن اللاجئين الشيعة الباحثين عن مأوى في المناطق المسيحية والسنية والدرزية. لقد شجّعت الهجمات الغالبية في تلك المناطق على النظر إلى الشيعة باعتبارهم تهديدًا لسلامتهم، الأمر الذي أدى إلى تغذية المظالم والأعمال العدائية التي كانت تغلي منذ عقود. وفي كلتا الحالتين، لم تكن للحملات العسكرية أهمية أمنية أو عسكرية كبيرة، لأنها تميل إلى استهداف مقاتلي “حزب الله” من ذوي الرتب الأدنى. ومع ذلك، فإنَّ الهجمات، التي غالبًا ما تقتل العشرات من المدنيين، نجحت في زيادة التوترات الطائفية، وفي بعض الحالات، أدّت حتى إلى طرد الشيعة.
لقد فرضت الحملة الإسرائيلية ضغوطًا شديدة على الحكومة اللبنانية. في الأشهر التي سبقت التصعيد الأخير للصراع، كان دور الحكومة في إعادة الإعمار وإغاثة اللاجئين مسألة خلافية في لبنان. وكان خصوم “حزب الله” في السياسة اللبنانية يعتقدون أنَّ المنظمة، إلى جانب إيران، كانت مسؤولة عن بدء الصراع في العام الماضي، وبالتالي يتعيَّن عليها أن تتحمّلَ تكاليف إعادة الإعمار. ومع تدمير إسرائيل للمزيد والمزيد من البنية الأساسية اللبنانية، فإنَّ هذه الحجة من الممكن أن تؤدّي إلى أزمةٍ داخلية كاملة. فإذا نجحت إيران في تجنُّب دفع تكاليف إعادة الإعمار، على سبيل المثال، فقد يحاول المعارضون السياسيون ل”حزب الله” منع الإنفاق الحكومي المحلّي القليل المُتاح. وقد يؤدي الجمود الناتج عن ذلك إلى العنف. ومن ناحية أخرى، في حالة تورُّط إيران في إعادة الإعمار، وهو أمرٌ غير مرجح، فإنها سوف تُطالب بالتأكيد بثمنٍ سياسي من شأنه أن يعملَ لصالح “حزب الله” وحلفائه.
لبنان ليس غزة
إنَّ استراتيجية إسرائيل المُتمثّلة في فرض العقاب الجماعي على شعبٍ بأكمله كوسيلةٍ لضمانِ الاستسلام ليست سابقة. تُوَفّرُ سوريا، جارة لبنان، مثالًا على مدى فعالية هذا التكتيك الوحشي. خلال الحرب الأهلية الأخيرة في بلاده، قصف الرئيس بشار الأسد، بدعم من إيران وروسيا، مدنًا بأكملها بلا هوادة في حملة أسفرت عن مقتل الآلاف وتشريد الملايين. وكان والد بشار، حافظ الأسد، قد فرض عقوبةً مماثلة بعد انتفاضةٍ في ثمانينيات القرن العشرين، وعلى الرُغم من أن أفعاله أدت إلى عزلةٍ دولية وعقوبات، إلّا أنها منحت نظام الأسد عقودًا من السلام. وبفضل حلفائها الغربيين، ربما لن تضطرَّ إسرائيل إلى القلق بشأن العواقب الديبلوماسية لحملتها من العنف الجماعي في لبنان. وحتى إذا تمَّ وضعُ اتفاقٍ جديدٍ قائمٍ على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 لإنهاء الصراع الحالي – الذي أنشأ منطقة عازلة حيث من المفترض ألا يُسمح لأيِّ قواتٍ باستثناء الجيش اللبناني وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة للبقاء فيها- فإنَّ تداعيات الحملة ستقع بالتأكيد بشكل أكبر على المجتمع اللبناني المُنقَسِم.
لكن، هناك أسبابٌ تدعونا إلى الاعتقاد بأنَّ خطة إسرائيل لاستغلال الفوضى في لبنان على نحوٍ مُثمرٍ قد لا تنجح بالطريقة التي يأملها نتنياهو. فمن الواضح أنَّ إيران مُلتزمة بتمويل “حزب الله” والحفاظ عليه، حتى في مواجهة الضغوط الداخلية اللبنانية المُتنامية لنزع سلاح المنظمة. ومن غير المرجح أن تُغَيِّرَ الضربات الإسرائيلية داخل إيران هذا الأمر. والواقع أنَّ كلّما ازدادت إيران إذلالًا وانعدامًا للأمن، زادت احتمالات رؤية النظام في طهران ل”حزب الله” باعتباره حصنًا ضروريًا ضد إسرائيل، وخصوصًا إذا تمكّنت المنظمة من استعادة ثقة إيران في قدراتها.
من الواضح أيضًا أنَّ زخمَ الحملة الإسرائيلية في لبنان يتباطأ. فرُغمَ أنَّ “حزب الله” فقد أمينه العام وكثيرًا من قياداته، فإنَّ ما يكفي من القدرات العسكرية للمنظمة نجت حتى أصبحت قادرة على صدِّ الهجمات البرية الإسرائيلية. وقد قُتل أو جُرح العشرات من الجنود والضباط الإسرائيليين، الأمر الذي ساعد على تعزيز الروح المعنوية بين مقاتلي “حزب الله”، وتمكّنَ الحزب من إعادة بناء بعض شبكات الاتصالات الخاصة به. في الأسابيع الماضية، شنَّ “حزب الله” هجمات قاتلة في لبنان وشمال إسرائيل، ووصلت طائراته المسَيَّرة حتى إلى منزل نتنياهو في قيسارية. ومن المرجح أن يأمل “حزب الله” أن تُقدّمَ هذه الهجمات بعض التعويض عن إخفاقاته الكبرى خلال الأسابيع القليلة الماضية.
هناك أيضًا دلائل تشير إلى أنَّ “حزب الله” بدأ بالفعل التخطيط لمستقبله بعد نصر الله. وعلى نحوٍ غير معتاد بالنسبة إلى مسلم، لم يتم دفن نصر الله فور وفاته. بل تمَّ الاحتفاظُ بجثته من أجل جنازة ما بعد الحرب، والتي من المرجح أن تجتذبَ حشودًا أكبر حتى من تلك التي حزنت على رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، الذي اغتيل في العام 2005، والذي حضر جنازته مئات الآلاف. كان الشيعة الفقراء في لبنان ينظرون إلى نصر الله، ابن بائع الخضار الجائل، باعتباره رمزًا للتمكين ضد كلٍّ من إسرائيل والطوائف الدينية والعرقية الأخرى في لبنان. ومن المرجح أن يستخدم “حزب الله” جنازته وذكراه لإعادة تأسيس نفسه في الساحة السياسية وإضفاء الشرعية على القيادة المتبقية للمنظمة، وخصوصًا الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام الجديد، الذي كان نائبًا لنصر الله في السابق.
مستقبل “حزب الله”
يُمكن ل”حزب الله” أن يتعافى، ولكن إذا كان للمنظمة أن تستعيدَ موطئ قدمها، فسوف تحتاج إلى التغلّب على ثلاثة تحديات رئيسة. الأول هو التحوُّل الجيلي داخل صفوف المنظمة. إنَّ غالبية القادة الذين قتلوا في الحملة الإسرائيلية تنتمي إلى جيل نصر الله، الذي نشأ في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات الفائتة. وقد تسبّب الافتقارُ إلى الحراك الاجتماعي في إحداث توترات داخل المنظمة، ويبدو من المحتمل أن إسرائيل وحلفاءها تمكّنوا من استغلال هذه الإحباطات لأغراضٍ استخباراتية. والحقيقة أنَّ معظم قيادات المنظمة، الذين توفوا الآن، كان في الستينيات من عمره، تشيرُ إلى مشكلةٍ يتعيّن على إيران والقيادة الجديدة التعامل معها.
والتحدّي الثاني هو التوترات الداخلية بين الشيعة من وادي البقاع وأولئك من جنوب لبنان. بعد مقتل عباس الموسوي، الأمين العام الأسبق ل”حزب الله”، الذي ينحدر من شمال شرق البلاد، وقع على عاتق نصر الله، وهو من الجنوب، إدارة التوترات الجغرافية داخل صفوف المنظمة. ورُغمَ أنَّ الفريقين الشيعييين مُتَّحِدَان بإيمانٍ مشترك وصراعٍ سياسي، إلّا أنَّ بينهما اختلافات اجتماعية واقتصادية كبيرة. فالشيعة في البقاع يميلون إلى العيش في مجتمعاتٍ قائمة على العشائر، وهم أكثر فقرًا وتهميشًا في السياسة الوطنية. وعلى النقيض من ذلك، فإن جنوب لبنان هو موطن لجميع الزعماء الشيعة البارزين في البلاد، بمن فيهم قاسم، زعيم “حزب الله” الجديد، ونبيه بري، رئيس مجلس النواب. والواقع أنَّ تدمير المدن والبلدات الشيعية، والتوتّرات الطائفية المُحتَمَلة التي ستتبع الحرب، يعني أنَّ الطائفة الشيعية بأكملها في لبنان سوف تحتاج إلى مساعدة “حزب الله” وما تبقّى من مؤسّساتها الاجتماعية لتوفير الخدمات في غياب قدرة الدولة.
التحدّي الثالث هو علاقة “حزب الله” بإيران. رُغمَ كونه لبنانيًا، فإنَّ نصر الله كان من بين المُقرَّبين من طهران. كان بارعًا في انتزاعِ حصّةٍ كبيرة من الموارد المالية والعسكرية من النظام الإيراني ل”حزب الله”. لكن في أعقاب وفاته، ربما يضطر “حزب الله” إلى تدبير أموره لفترة من الوقت بتمويلٍ إيراني أقل، وهو ما قد يدفع المنظمة إلى تبنّي نهجٍ أكثر استغلالًا للدولة اللبنانية ومواردها.
ليس هناك من مخرج؟
في بعض الأحيان، وخصوصًا في الآونة الأخيرة، قد يكون من السهل أن نتخيَّلَ أنَّ لبنان محكومٌ عليه إلى الأبد بأن يكونَ مُجرَّد بيدقٍ في الصراع الطويل الأمد بين إسرائيل من جهة وإيران و”حزب الله” من جهةٍ أخرى. ولكن مثل هذه النتيجة القاتمة لا تزال قابلة للتخفيف من حدّتها من خلال الديبلوماسية الشاملة، والحوار الوطني، والالتزام الدولي بإعادة بناء الدولة اللبنانية. وهذه العناصر الثلاثة لا بُدَّ وأن تسيرَ جنبًا إلى جنب، وكُلُّها سوف تتطلّبُ جُهدًا مُتضافرًا من جانب الولايات المتحدة وفرنسا والدول العربية.
إنَّ الديبلوماسية الشاملة سوف تضمن تعاون إيران، وهو أمرٌ بالغ الأهمية لضمان عدم لعب طهران دور المُفسد في أيِّ مرحلةٍ انتقالية قد تلي اتفاق وقف إطلاق النار. وهناكَ حاجةٌ إلى حوارٍ وطني في لبنان لملء الفراغ الحالي في السلطة، ومناقشة الإصلاحات الدستورية التي من شأنها أن تُساعِدَ على ضمان السلام بين الطوائف، وتحديد إطار زمني لدمج القدرات العسكرية ل”حزب الله” مع القوات المسلحة اللبنانية. (كان هذا الاندماج، المعروف باسم استراتيجية الدفاع الوطني، في قلب جولات الحوار السابقة في لبنان، ومن شأنه أن يضمن احتكار الدولة اللبنانية للعنف). أخيرًا، سيكون الالتزام بإعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية والاقتصاد المُمزَّق في البلاد ضروريًا لتنفيذ أيِّ اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، خصوصًا وأنَّ القوات المسلحة اللبنانية في وضعٍ ضعيف منذ بدء الانهيار الاقتصادي والمالي في العام 2019. وإذا طُلِبَ من القوات المسلحة ضمان وقف إطلاق النار، فسوف تحتاج إلى أن تكون قادرة على تمويل عملياتها، وهو ما لن يكون ممكنًا إلّا بموارد اقتصادٍ مُنتعش.
من دون مثل هذا الجهد المكثف، فإنَّ المسار الحالي للصراع سوف ينتج المزيد من الاضطرابات في لبنان، مع استمرارِ إسرائيل في الرد على هجمات “حزب الله” بعنفٍ غير متناسب، ما يؤدي إلى المزيد من النزوح الجماعي. وقد تُقدّمُ حملة الفوضى التي تُشَنُّ تحت غطاءِ هجومٍ ضد “حزب الله” بعض الفوائد السياسية المحدودة لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، ولكن بالنسبة إلى الجميع، وخصوصًا المدنيين اللبنانيين، فإنَّ الأمر سيكون كارثيًا.
- مهنّد الحاج علي هو باحث لبناني ونائب مدير الأبحاث في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط. يمكن متابعته عبر منصة (X) على: @MohanadHageAli
- يصدُرُ هذا المقال بالعربية في أسواق العرب توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.