بايدن يُبلِغُ إيران: “أنا أعرف”… ولا حربَ شاملةً في المنطقة
محمّد قوّاص*
لا حربَ شاملةً في المنطقة. ليس صحيحًا ما تَدّعيهِ إيران من تَوَعُّدٍ بهذا الخيار. الحربُ الشاملة تنخرط فيها دولٌ مُتعدّدة وهو أمرٌ غير وارد ولا أعراض له. وإذا ما كان القصدُ أنَّ إيران ستُحرّك فصائلها وجماعاتها المُوالية مُجتمعة، فذلك لا يعني حربًا شاملة، بل تبقى الحربُ ثُنائية تجري بين طرفين فقط: إسرائيل وإيران.
جالَ وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، على عواصم المنطقة، مُتَوَسِّلًا احتضانًا إقليميًا يقي إيران تلك الحرب الموعودة. لسانُ حال كل العواصم يقول: “لا نُريدُ حروبًا في منطقتنا”. ومنطقها يقول “لا نُريدُ حربكما (إيران وإسرائيل) في بلداننا”. والحال إنَّ الشرق الأوسط يعيش منذ “الطوفان” حربًا بين الطرفين وإن كانت واجهاتها تشي بغير ذلك. وحين كان يتسرَّبُ لغطٌ في تلك الحقيقة، كانت طهران تُصوّبُ أيَّ شكٍّ وتؤكد في غزّة واليمن وسوريا والعراق ولبنان، أنها تملك قرار الحرب والسلم وخيار فتح الجبهات وإغلاقها.
لا تُريدُ طهران أن ينسى العالم، ولو للحظة، أنها الرقمُ الصعب في المنطقة. أشاع عراقجي في تجواله الديبلوماسي على العواصم ما يوحي بذلك. والرجل قام برحلاته على إيقاعِ ما اقترفه في لبنان. أملى هناك، على بيروت والمنطقة، خريطةَ طريقٍ مرسومة في مشاغل الجمهورية الإسلامية تفرُض استمرارَ القتال من لبنان، وربطَ مصيرِ وقف إطلاق النار هناك بذلك في غزة، وتعلن أنَّ لا قرارَ لحكومة البلد من دون موافقةِ حزبها في لبنان. سمعت العواصم جيدًا تلك المواقف، وربما لم تصغِ كثيرًا لما حمله الوزير الإيراني إليها.
تُراقبُ تلك العواصم “حرب الآخرين” في منطقتها. لا تنخرطُ بها. وتنأى بنفسها عنها. وليست معنيّةً بخططِ إسرائيل. وغير مُهتمّة بما تُعدّه إيران وما تتوعّد به. في النهاية، وأيًّا كانت نتائج ذلك النزال ومآلاته، فإنه يجري تحت سقف النظام الدولي على تصدّعه، سواء في الشراكة الأميركية للضربات الإسرائيلية الموعودة ضد إيران، أم في رعاية و “تفهّم” القوى الغربية، أم في مواكبة روسيا والصين المُعرِبتَان دائمًا عن قلقٍ مُمل. يفضحُ المشهد تواطُؤًا جماعيًا لا مُتَرَدّد داخله، يستحسن تغييرًا لقواعد لعبة باتت متقادمة ومكلفة وغير مفيدة فرضتها جمهورية الخميني منذ عقود.
يُبلِغُ الرئيس الأميركي، جو بايدن، العالَم أنه على علمٍ بخرائط الضربات الإسرائيلية ضد إيران وتوقيتها. يقولها بلسانه “نعم أعرف”. يتوجه وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، ومبعوثه الخاص، آموس هوكستين، إلى المنطقة بناءً على هذا العامل المستجدّ. سبق المبعوثيْن وصول منظومة الصواريخ الأميركية “ثاد” وتمركزها وطاقمها الأميركي داخل إسرائيل. يُبدّل هذا المعطى من قواعد اللعبة. لم تعد واشنطن وسيطًا مزعومًا بين إيران وإسرائيل. باتت القوات الأميركية في المنطقة حليفًا مُعلنًا لإسرائيل في شنّها الضربات ضد إيران وحليفًا، وآخرين، في ردِّ أيِّ ردّ فعل من إيران ومواليها في المنطقة.
وفق هذا المستجد ونتائج حرب إسرائيل ضد غزّة ولبنان، تبدو ردود فعل إيران الصوتية، سواء من بعثتها في الأمم المتحدة في نيويورك أم من منابرها الرسمية في طهران، رتيبة في تهديداتها إلى حدّ الضجر. فلا تحرّك صيني-روسي يقلب موازين القوى، ولا تغير في ما تملكه إيران وفصائلها بإمكانه أن يمنح التهديدات الإيرانية جرعات تخصّبها بدرجات متقدمة من الصدقية. والأرجح أنَّ المرشد الأعلى للجمهورية، علي خامنئي، يدرك أن الزمن تغيّر وأن جمهوريته تواجه لأول مرة “كأسَ سمٍّ” جديدًا لطالما عملت منذ نهاية حربها مع العراق على إبعاده ومقت ذكراه.
سقطت استراتيجية “الحرب بالوكالة”. عملت طهران طويلًا بدهاء ودأب على ردّ الأذى عن حدودها وجعل أسوار إيران وقلاعها بعيدة من نوافذ طهران. ارتضى الغرب هذه اللعبة واشتهى مع إيران التراقص وتبادل المنافع. عملت إيران خلال العقود الأخيرة على نفخ التابعين والتفاخر بأنها تسيطر على 4 عواصم عربية، على حدّ تعبير حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيراني السابق، أو الجهر، على لسان الجنرال حسين سلامي، نائب قائد الحرس الثوري الإيراني آنذاك، بأنَّ “الثورة” تمدّدت صوب العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والبحرين واليمن وأفغانستان، واكتشاف علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني لشؤون الأقليات آنذاك، أنَّ العراق “عاصمة لإمبراطورية إيران الجديدة”.
تتأمل إيران ضمور “الإمبراطورية”، وضيق هامش المناورة، وإعراض العالم، بشرقه وغربه، عن إعادة اللعب على أيِّ رقعة قبل أن يطبع الإسرائيليون والأميركيون بصمة مشتركة على قواعد اشتباك لم تعد طهران تمسك بقوانينها.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).