هل يَتَّجِهُ “حزبُ الله” إلى الداخل؟

إنَّ الادِّعاءَ بأنَّ “حزب الله” يسعى إلى إحياء قدراته العسكرية في المناطق غير الشيعية يبدو ادعاءً يصعب تحقيقه.

ما هي عواقب تهجير الشيعة من مناطقهم بعد تدميرها؟

مايكل يونغ*

بينما يُشاهدُ اللبنانيون برُعبٍ التدميرَ المنهجي الذي تُنفّذه إسرائيل للقرى والبلدات والأحياء في المناطق ذات الغالبية الشيعية في الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان ووادي البقاع، فإنهم يفكرون أيضًا في العواقب والتداعيات الديموغرافية التي قد تترتّب على ذلك بمجرّد انتهاء الصراع.

وقد استغلَّ خصومُ “حزب الله” هذا الأمر لخلقِ شعورٍ بالذعرِ في المجتمع اللبناني. زَعمَ رجلُ دينٍ شيعي مُعارِضٌ للحزب على شاشة التلفزيون أنَّ “حزب الله”، بعد أن يتم تدمير مناطق التركيز الديموغرافي الشيعي من قبل إسرائيل، سوف يحاولُ إحياءَ نفسه عسكريًا في المناطق غير الشيعية في لبنان. وهذا أمرٌ مقلقٌ للغاية بالنسبة إلى العديد من اللبنانيين، لأنه يفتحُ البابَ أمامَ احتمالِ اندلاعِ حربٍ أهلية. لكن قبل أن نمدَّ أيدينا إلى أسلحتنا أو حقائبنا، دعونا نفكك ونُحلّل هذه الفكرة قليلًا.

من المحتمل أن يكونَ من الصحيح أن نفترضَ أنَّ قيادة “حزب الله” وإيران تستعدان الآن لموقفٍ احتياطي من أجل البقاء وإعادة بناء قدرات الحزب. لكن من الصحيح أيضًا أنَّ الاستراتيجية الإسرائيلية تتلخّصُ في ضمان عزل الشيعة، أو بالأحرى أنصار الحزب في المجتمع الشيعي، داخل لبنان، وأن يصبح وجودهم في المناطق غير الخاضعة لسيطرة “حزب الله” سامًا. وبهذا فإنَّ الإسرائيليين يخلقون انقسامات بين النازحين الشيعة في الغالب وبقية المجتمع، وهو ما سوف يتفاقم فقط بسبب المطالب المتزايدة من قِبَل أغلب اللبنانيين بأن ينهي الحزب حربه مع إسرائيل. ولكن ما يراه اللبنانيون في واقع الأمر هو رغبة “حزب الله” في مواصلة الصراع إلى أجلٍ غير مسمى، في محاولةٍ للبقاء سياسيًا وعسكريًا، بتشجيعٍ من رُعاته الإيرانيين.

وهذا يثير السؤال التالي: هل يستطيع “حزب الله” أن يُواصلَ حربه وسطَ عداءِ غالبية اللبنانيين الذين، حتى وإن لم يكن لديهم أي تعاطف مع إسرائيل، لا يرون أي جدوى في هذه المذبحة العبثية، في وقتٍ يعاني المجتمع الشيعي بالفعل من عواقبها المروعة؟ قد يجيب البعض بالإيجاب، لأنَّ “حزب الله” لا يهتم بما يُفكّر فيه مواطنوه. وسوف يظل بقاؤه وأولوياته الإيرانية أكثر أهمية من أيِّ استياءٍ محلّي يتم التعبير عنه. قد يكون هذا صحيحًا، ولكن كلّ هذا يعني أنَّ الحزب يسمح لإسرائيل بمواصلة تدمير بيئته الاجتماعية والاقتصادية، التي كانت لفترةٍ طويلة جوهر استقلاليته وقوته. ومن غير المرجح إلى حدٍّ كبير أن يتمكّنَ الحزب من إعادة خلق هذا في المناطق غير الشيعية، على الأقل من دون إثارة صراعٍ أهلي قد يبتلع “حزب الله” في حروبٍ صغيرة متعدّدة.

في العام 2020، أشارَ أحد حلفاء “حزب الله” إلى نقطةٍ ذات صلة، عندما أشار ضمنًا إلى أنَّ الحزب لم يتفاعل بشكلٍ كافٍ مع الانهيارِ المالي في لبنان. حَذّرَ أنيس نقاش، في مقابلة مع قناة الميادين التلفزيونية الموالية لإيران، من أنَّ الانخراط في المقاومة ينطوي على أكثر من العمليات العسكرية؛ يتعيّن على “حزب الله” أيضًا أن يأخُذَ في الاعتبار تأثير الأزمة الاقتصادية في البلاد. وكما قال، “الأمن الوطني لا يقتصر على الأسلحة والدفاع المسلح … [إنه مرتبط] بالتعليم والاقتصاد والزراعة والصحة. العمل المسلح جُزءٌ من هذا، لكنه لا يكفي للدفاع عن الأمة”.

أشارَ نقاش إلى أنَّ قوة “حزب الله” يجب أن تنبع من قدرته على تطويرِ قاعدةِ دعمٍ على جبهاتٍ لا حصر لها ويُحيط نفسه بمجتمعٍ لديه مصلحة في الدفاع عن حزب المقاومة ومؤسّساته. لكن كان من الصحيح أيضًا أنَّ المجتمعَ المحيط بالحزب يجب أن تكونَ لديه الوسائل لدعم “حزب الله” ماليًا وأخلاقيًا وسياسيًا وبالقوة البشرية.

لكن هل لا يزال هذا الأمرُ مُمكنًا اليوم؟ إنَّ “حزب الله” سوف يحتفظُ بولاءِ مجتمعه في المستقبل المنظور، وهو الولاء الذي سوف يتعزّزُ إذا ما تمّت مقاومة وجود النازحين الشيعة في مختلف أنحاء لبنان ـ وهو ما من شأنه أن يعزّزَ الشعور بالتضامن الطائفي. ولكنَّ الولاءَ يجلب معه أيضًا مسؤوليات. فقد دُمِّرَت القاعدة الاجتماعية ل”حزب الله” وأُفقِرَت، والآن أصبح لزامًا على الحزب أن يتولّى رعايتها، ومن المتوقع أن يفعل ذلك. لهذا السبب فإنَّ المجتمع الشيعي سوف يظلُّ يُشكّلُ عبئًا كبيرًا على “حزب الله” في السنوات المقبلة، وهو ما من شأنه أن يجعل جهود الحزب لإعادة بناء بنيته التحتية العسكرية أكثر صعوبة إلى حدٍّ كبير، وخصوصًا في المناطق المعادية له.

علاوةً على ذلك، ارتكبَ “حزب الله” أخطاءً فادحة في الماضي بانتهاكِ العديد من القواعد غير المكتوبة للعقد الاجتماعي الطائفي في لبنان. فهو مُتَّهَم باغتيالِ الزعيم السنّي الكبير رفيق الحريري، ونَشرَ قواتٍ في سوريا نيابةً عن نظامٍ يُعارضه العديد من السنّة، للدفاع عن المصالح الاستراتيجية لإيران الشيعية. ويرى العديد من المسيحيين أنه مسؤولٌ عن انفجارِ مرفَإِ بيروت، ومحاولة اقتحام الحيّ المسيحي في الطيونة في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 لتقويض التحقيق في ذلك الانفجار. كما حاولَ فرضَ مرشّحه المسيحي الماروني لرئاسة الجمهورية، ضد رغبات الغالبية العظمى من المسيحيين. وفي كل مكان، أثار الحزب الاستياء، لذا فمن المتوقع أن يواجه ردَّ فعلٍ قويًا ضد أجندته، ربما من خلال اللجوء إلى السلاح.

لكن لنفترض أنَّ صراعًا طائفيًا اندلع، وانزلق لبنان مرة أخرى إلى حربٍ يجد فيها “حزب الله” نفسه يقاتل تحالفًا من الطوائف. فهل تسمح إيران للحزب بالوقوع في هذا الفخ؟ إنَّ تجربةَ منظمة التحرير الفلسطينية غنية بالدروس. بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، كان الانجرار إلى الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 سببًا في انهيارها. فقد وجدت المنظمة نفسها متورّطة في صراعات إقليمية ــ الأمر الذي استفزّ أوّلًا التدخل العسكري السوري في العام 1976، قبل أن تغزو إسرائيل لبنان في العام 1982 لطرد الفلسطينيين من لبنان. ولقد أبدت منظمة التحرير الفلسطينية ندمها على تورّطها، ثم أصدرت في وقتٍ لاحق اعتذارًا علنيًا للبنانيين.

من المؤكد أنه إذا اندلعت حربٌ أهلية أخرى في لبنان، فإنَّ العديدَ من الدول سوف تتدخل إلى جانب معارضي “حزب الله”، وليس أقلها إسرائيل، للمساعدة في إلحاقِ الهزيمة بالحزب. ولا شك أنَّ لبنان سوف يُدَمَّر، وسوف يخسر الجميع، ولكن من منظورٍ إيراني فإنَّ النتيجة سوف تكون غير مُرضية بشكلٍ خاص. لهذا السبب فمن الصعب أن نرى قادة طهران يمنحون “حزب الله” الضوءَ الأخضر لتدابير قد تؤدي إلى صراعٍ طائفي من شأنه أن يزيدَ من تدمير المجتمع الشيعي الذي تضرّر أصلًا بشكلٍ كبير.

في الوقت نفسه، قد لا تتمكّن إيران من تقديم الكثير ل”حزب الله” وأنصاره من حيث المساعدة. ذلك أنَّ إعادة تسليح “حزب الله” وإعادة بناء المناطق الشيعية في الوقت نفسه سوف يُكلف إيران مليارات عدة من الدولارات، وقد لا يتمكّن الإيرانيون من توفيرها في وقتٍ تمرُّ الجمهورية الإسلامية في صعوبات اقتصادية. والأمر الأكثر جوهرية هو أنَّ المسؤولين في طهران يتساءلون عما إذا كان الاستثمار الجديد الكبير في الحزب يستحقُّ العناء حقًّا اليوم. فمع عجز “حزب الله” عن حماية مجتمعه الشيعي وتعريضه لمحنةٍ جديدة من الإبادة على مستوى البلاد، فقد تمَّ تحييدُ قدراته العسكرية فعليًا، ربما لعقود. وينطبق الشيء نفسه تقريبًا على “حماس” في غزة. إنَّ هذا الواقع سيفرضُ على الإيرانيين أن يقوموا بتقييمٍ باردٍ حول ما إذا كانت استراتيجيتهم الكارثية “وحدة الساحات” تستحقُّ الإنقاذ.

هناك فكرتان تتبادران إلى الذهن هنا. في حالةِ اندلاعِ حربٍ أهلية على جبهاتٍ عدة، هل سيكون “حزب الله” في وَضعٍ مُتميِّز؟ إن جغرافية المجتمع الشيعي اليوم هي بالفعل مناطق عُرضةً للخطر. هناك ثلاث مناطق من التركيز الطائفي ــ جنوب لبنان، ووادي البقاع الجنوبي والشمالي، والضواحي الجنوبية لبيروت. في أفضل الأوقات، فإنَّ الانضمام والوصول إلى هذه المناطق في أوقات الصراع يشكل تحديًا كبيرًا، حيث تهيمن مجتمعات أخرى على روابط الاتصالات بينها. لكن إذا حاول “حزب الله”، كما يزعم دعاة الذعر، ترسيخ نفسه في مناطق غير شيعية، بدون وجود قاعدة اجتماعية حاضرة، فإنَّ الحزبَ سوف يكون في وضعٍ أشدّ خطورة في شنِّ حرب، وتحديدًا حرب يرى أعداؤه أنها تنطوي على عواقب وجودية.

إن هناك فكرة أخرى تخطر على بالي أيضًا. ماذا عن الجيش اللبناني؟ إننا نميلُ إلى نسيان أنَّ هناك قوة مسلّحة في هذا البلد لا تزال قادرة على السيطرة على الاضطرابات إذا لزم الأمر، بل إنها مستعدة حتى للتدخّل بالقوة المميتة إذا لزم الأمر للحفاظ على السلم الأهلي. وهذا هو بالضبط ما فعلته خلال حادثة الطيونة، عندما منعت مسلحي “حزب الله” وحركة “أمل” من التقدم نحو الأحياء ذات الغالبية المسيحية. ولا شك أن الجيش يدرك اليوم أنه أقرب من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الأهلية في العام 1990 إلى فرض سلطة الدولة (مهما كانت ضعيفة) على المجتمع.

إن لبنان يواجه العديد من المصاعب التي تلوح في الأفق، والتي تأتي على رأس الصعوبات العديدة التي واجهها في السنوات الخمس الماضية. بلدانٌ قليلة استطاعت تحمل مثل هذا القدر من الأزمات في وقتٍ قصير جدًا. لكن القصة الأخيرة المُفزِعة حول إعادة تشكيل وإحياء “حزب الله” في المناطق غير الشيعية تُحَوِّلُ مخطّطًا بالغ الصعوبة إلى مخطط بسيط للغاية بشكلٍ مُخادع. ففي السنوات المقبلة سوف يواجه “حزب الله” مهمّة شاقة وجبالًا من المشاكل يتعيّن عليه أن يتسلّقها في أفضل الظروف، ومن غير المرجح أن يرغبَ في القيام بذلك في حين أنه في حالة حرب مع بقية المجتمع اللبناني.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى