الاقتصادُ الصيني يُواجِهُ معضلةً صنعها شي

السؤال الحاسم بالنسبة إلى الصين الآن وفي المستقبل هو ما إذا كانت قادرة على تجديد الثقة في اقتصادها عندما لا يَعِدُ النموذجُ الاقتصادي، الذي يُرَوّجُ له شي جين بينغ، بمكافآتٍ ضخمة لرأس المال ولا إعادة توزيع كبيرة للأُسَر.

الإقتصاد الصيني: إلى أين؟

عبد السلام فريد*

أعلنت الحكومة الصينية أخيرًا عن سلسلةٍ من التدابير التي تهدفُ إلى استقرارِ اقتصاد البلاد، وتحفيزِ النموِّ الاقتصادي وتعزيزِ الثقة في جدوى نموذج النمو الصيني في المدى الطويل. تكتسبُ هذه الأهداف أهمّيةً خاصة مع سعي الصين إلى تحقيقِ قدرٍ أعظم من الاستقلال عن الولايات المتحدة، سواءً كسوقِ وجهةٍ لصادراتِ الصين أو كمصدرٍ للمدخلات التكنولوجية العالية. وقد سلطت التحركات الأخيرة الضوءَ مرةً أخرى على الرياحِ المُعاكسة التي تواجه اقتصاد الصين وجهود بكين لمُعالجتها.

في أواخر أيلول (سبتمبر)، فاجأت الصين العديد من المراقبين عندما أعلنت حكومتها عن سلسلةٍ من السياساتِ النقدية التي ألقت طوقَ النجاة للبنوك ومالكي العقارات ومستثمري الأسهم. فقد خفّضَ بنك الشعب الصيني معدّل الاحتياطي الإلزامي وكذلك سعر الفائدة على الإقراض. وتلقّى حاملو الرهن العقاري تخفيضاتٍ، بما في ذلك على المساكن الثانية، والتي أبدى الرئيس شي جين بينغ استياءه منها في الماضي لأنها تتعارَضُ مع شعاره “المساكن للعيش فيها”. كما حصلت الحكومات المحلّية على دَعمٍ تمويلي إضافي لتحويل فائض مخزون الإسكان إلى وحداتٍ سكنية بأسعارٍ معقولة، وهي أولوية حكومية. وأخيرًا، تلقّت سوقُ الأوراق المالية دفعةً قوية من خلال العديد من التدابير المُصَمَّمة لزيادةِ القيمة السوقية للشركات المُدرَجة، بما في ذلك خفض المبلغ المطلوب المُتاح في اليد لما يُسَمّى بالتداول على الهامش.

في الأسبوع الذي أعقبَ هذه الإعلانات، استجابت أسواقُ الأسهم الصينية بتفجّر النشاط، حيث حَفّزَ ارتفاعُ الأسعار المستثمرين الباحثين عن مكاسب سريعة. وكان الكثيرُ من هذا النشاط مدفوعًا بالمستثمرين الأفراد، الذين يفتقرون إلى العديد من فرص الاستثمار الأخرى، وخصوصًا مع تباطؤ سوق العقارات والقيود المفروضة على الاستثمار في الخارج. ويتأثر هؤلاء المستثمرون بشكلٍ خاص بالإعلانات السياسية الصادرة عن الحكومة، حيث يرونها إشاراتٍ أكثر موثوقية على الاقتصاد من أداء الشركات الفردية أو حتى القطاعات. وفي حين أنَّ هذا الوضع يجعل السياسة الحكومية فعّالة على الفور تقريبًا، إلّا أنه ينطوي أيضًا على مخاطر الصعود والهبوط السريع إذا لم تَبدُ التدابير المُعلنة في نهاية المطاف عدوانية بما يكفي لتعزيز ثقة المستثمرين في المدى الطويل.

حتى الآن يبدو أن هذا هو ما حدث مع هذه التدابير. فمنذ الإعلان الأوَّلي، أُصيبَ المستثمرون والخبراء بخيبةِ أملٍ كبيرة إزاءَ ما تلا ذلك، حيث لم يُقابِل الحزمةَ الكبيرة لإحياء أسواق الأسهم حافزٌ مالي كبير بَعد. في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)، وعد مؤتمر صحافي عقدته لجنة التنمية والإصلاح الوطنية بالمزيد من التحفيز المالي، لكنه لم يُقدّم تفاصيل مُحدَّدة، مما أدّى إلى أشدِّ انخفاضاتٍ لم تعرفها أسواق الأسهم الصينية منذ 27 عامًا ومحو المكاسب التي أعقبت الإعلان الأوّلي. وكشف مؤتمر صحافي لاحق لوزارة المالية عن بعض السياسات لمساعدة ذوي الدخل المنخفض، ولكن بدون أيِّ تفاصيل جديدة عن أيِّ تدابير أخرى، ناهيك عن الضربة القوية التي طالت السوق، مما ترك المستثمرين مُستائين.

ويرجعُ بعضُ ردِّ الفعل الباهت إلى كيفية تواصل الحكومة الصينية وكيفية عمل قرارات التمويل. لا تستطيع وزارة المالية الإعلان عن حافزٍ مُستهدفٍ ضخم بمبادرةٍ منها. يجب أن يأتي ذلك من مجلس الدولة بعد تمرير القرار من خلال المؤتمر الشعبي الوطني، الذي يتمتع بالسلطة الاسمية للإنفاق.

لكن، هناك تحدٍّ أكثر جوهرية تواجهه الحكومة الصينية، وهو الرغبة في تعزيز الثقة بدون إطلاق العنان لتوقّعاتٍ غير واقعية من جانب المستهلكين والمستثمرين الصينيين. ويُشكّلُ هذا التوازن بين رفع الثقة وإدارة التوقّعات صعوبةً خاصة بالنسبة إلى الزعيم الصيني شي، لأنه حتى مع سعي الحكومة إلى تحسين الصورة الاقتصادية الشاملة، فقد رفض شي الاستسلام لمطالب التحرير أو إعادة التوزيع أو الانحراف عن التزامه بالنمو المكثّف في مجال التكنولوجيا.

ذلك لأنَّ شي لا يسعى فقط إلى تحقيق الاستقلال عن الولايات المتحدة، فهو يريد أن يفعل ذلك مع ضمان حصول الحكومة الصينية على الاستقلال والقوة لدفع الاقتصاد إلى الأمام بما يتماشى مع رؤيته، من دون إعاقة مطالب الرفاهية لمواطنيها أو مطالب الربح من المستثمرين المحليين والدوليين.

وقد أوضح شي هذه النقطة في العام 2017، عندما أعاد الحزب الشيوعي الصيني تعريف التناقض الرئيس الذي يواجه الحزب في “العصر الجديد”، وهي فترة من الاضطرابات العالمية الهائلة. في خطابه أمام المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في العام 2017، أشار شي إلى أنَّ “ما نواجهه الآن هو التناقض بين التنمية غير المتوازنة وغير الكافية واحتياجات الناس المتزايدة باستمرار لحياةٍ أفضل”. وهذا يتطلب من الحزب ليس فقط السعي إلى الحفاظ على النمو عند 5٪ أو أكثر، بل وأيضًا إدارة واحتواء طبيعة تلك الاحتياجات الشعبية “المتزايدة باستمرار”. وينطبق هذا بشكلٍ خاص على الإصلاحات المالية التي من شأنها زيادة الضرائب وإعادة توزيع المزيد من الثروة على الأسر ذات الدخل المُنخفض. يرفضُ شي مثل هذه التدابير، على الرُغم من آثارها الإيجابية المحتملة على الثقة والإنفاق الاستهلاكي، بحجّة أنها تؤدّي إلى الكسل و”الرفاهية”. ونتيجةً لهذا، كانت الحكومة مترددة في زيادة التوقّعات بأنها ستفعل المزيد لدعم الأسر من خلال التحويلات المالية.

الواقع أنَّ جُزءًا من هذا يرجع إلى الإرث التاريخي لحُزَمِ التحفيز السابقة، التي تطارد الحكومة الحالية. فقد عزّزَ التحفيز الذي عُرض في العام 2008 في أعقاب الأزمة المالية العالمية النمو والعمالة في وقت حرج، لكنه كان مسؤولًا أيضًا عن فقاعة العقارات ودوّامة الديون الحكومية المحلية التي أعقبت ذلك. ولكن تأثير تلك الحزمة ــالأكبر على الإطلاق في الصين ــ ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث تغلغل في كل جانب من جوانب الاقتصاد. ومع إعطاء أوقات الازدهار شعورًا بالثقة والفرصة، تشجّعَ العمّال على المطالبة بالمزيد، ما أدّى إلى ارتفاع الأجور في التصنيع والبناء. وكانت الإضرابات العمالية الكبرى في العام 2010 في صناعة السيارات وفي العام 2014 بين العمال المهاجرين المطالبين بمدفوعات الضمان الاجتماعي بمثابة اختبارٍ للحكومة بطرُقٍ جديدة.

في العام 2015، تعرضت إدارة شي مرة أخرى لحرق السياسات التي كانت تهدف إلى توجيه الاستثمار إلى أسواق الأسهم. وعندما اتخذت الحكومة خطوات لقمع المضاربة المُتفشّية التي أعقبت ذلك، انهارت سوق الأسهم. ويبدو أن النمط نفسه يتكرّر الآن، حيث لن يستمرَّ ارتفاع السوق الأخير إذا لم يتم قريبًا إصدار خطة إصلاح أكثر أهمية وتفصيلًا. ولكن على عكس العام 2015، فإن المستثمرين الأفراد لديهم خيارات قليلة أخرى، حيث لا يزال سوق العقارات في انحدار وفُرَص الاستثمار الخارجية أصبحت محدودة بشكلٍ أكبر.

السؤال الحاسم بالنسبة إلى الصين الآن وفي المستقبل هو ما إذا كانت قادرة على تجديد الثقة في الاقتصاد عندما لا يَعِدُ النموذجُ الاقتصادي، الذي يُرَوِّجُ له شي، بمكافآتٍ ضخمة لرأس المال ولا إعادة توزيع كبيرة للأسر. إذا كانت الإجابة بالنفي، فهذا يعني أن هناك تداعيات اقتصادية واجتماعية.

  • عبد السلام فريد هو مراسل “أسواق العرب” في بكين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى