عُمان: الوسيطُ الهادئُ في تخفيفِ التوتّراتِ الإقليميّة

صحيحٌ أنّ مسقط لم تكن من أبرز الوسطاء الإقليميّين، إلّا أنّ دورها كان محوريًا في رأب بعض الانقسامات الإقليميّة الأكثر استعصاءً. ولم تنتهِ مهمّتها بعد.

وزيرا خارجية عُمان وزير الخارجية العماني السيد بدر البوسعيدي وإيران عباس عراقجي خلال لقائهما الأخير في مسقط: إدانة الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان.

جورجيو كافيرو*

شكّلَ اتّفاقُ إعادةِ التطبيع بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران المُبرَم في آذار (مارس) 2023 نقطةَ تحوّلٍ في ديبلوماسيّة الشرق الأوسط الحديثة. ورُغمَ أنَّ الصين حظيت بمعظم الثناء لدورها في المصالحة، ما ساهمَ في تهدئة إحدى المنافسات الأكثر توتّرًا في المنطقة، كان العملُ الشاق الذي أُنجِزَ في خلال العامين الماضيين من صنع سلطنة عُمان والعراق إلى حدّ بعيد. وعندما أدركَ الوسطاء العُمانيون والعراقيون أنّ دعمَ قوةٍ عالميّةٍ رئيسة سيُعزّزُ من قوةِ وجدية الاتفاق وسيجعله أكثر استدامةً، نصحوا بأن يُوَقَّعَ الاتّفاق في بكين برعاية الصين.

بعد مرور تسعة عشر شهرًا، ما زالت النُخب العُمانيّة تشعر بالتفاؤل حيال الانفراج بين جارَتَيها. وما يُعزّزُ هذا التفاؤل هو أنَّ الحربَ على غزة ولبنان لم تُعَرقِل التقدّمَ المُحرَز في خفضِ التوتّرات بين الرياض وطهران. وفي الاجتماع الذي عُقِدَ في الدوحة في مطلع الشهر الجاري بين وزير الخارجيّة السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أكّد الأول رغبة المملكة في تطوير الروابط الثنائيّة بين البلدين، قائلًا: “نسعى إلى طيّ صفحة الخلافات مع إيران إلى الأبد ونعملُ على حَلِّ قضايانا وتوسيع العلاقات كبلدَين صديقَين وشقيقَين”. وبعد أسبوعٍ، وصل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى الرياض والتقى بولي العهد السعودي ورئيس الوزراء الأمير محمد بن سلمان لمناقشة الشؤون الثنائية والإقليمية. وكانت هذه المحادثات الأخيرة بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين رفيعي المستوى حاسمة بالنسبة إلى جهود المملكة لتجنّب الانجرار إلى الأعمال العدائية بين إيران من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى. وكانت لهذا الحوار أهميةٌ كبرى في مساعي طهران للحيلولة دون انهيار أجندة “الجيران أوّلًا” في ظلِّ تصاعُدِ الصراعات في الشرق الأوسط.

بالإضافة إلى تهدئة التوتّرات السعوديّة-الإيرانيّة، بذلت مسقط جهودًا حثيثة لمساعدة البحرين ومصر على استئنافِ الروابط الديبلوماسيّة مع إيران، التي قُطِعَت بشكلٍ رسمي بين طهران والمنامة في العام 2016 وبين العاصمة الإيرانيّة والقاهرة في العام 1980 في أعقاب الثورة الإيرانيّة. يعكس هذا قناعةَ عُمان بأنّ الأمن الخليجي يتطلّبُ حوارًا وتعاونًا عربيًا-إيرانيًا وبأنّ التحالفات العربيّة والمؤسّسات دون الإقليميّة لا يجب أن تكون، من حيثُ المبدَإِ، مُعاديةً لطهران. ويُفسّر هذا التفكير لماذا لم تُؤيّد عُمان انحياز مجلس التعاون الخليجي لصالح بغداد في الحرب بين إيران والعراق (بين 1980 و1988) ولماذا يَسَّرَت مسقط في العام 1991 استئناف العلاقات السعودية-الإيرانيّة التي قطعتها الرياض إثر الاشتباكات الدامية بين حجّاجٍ إيرانيين وشرطةِ مُكافحةِ الشغب السعوديّة في العام 1987.

عُمان تضطلع بدور الوسيط

في وقت حدوث الإنفراج الديبلوماسي السعودي-الإيراني في العام الفائت، توجّه السلطان العُماني هيثم بن طارق إلى البحرين لإجراءِ مناقشاتٍ مع القادة في المنامة حول العلاقات مع إيران. وعقد الديبلوماسيّون البحرينيون والإيرانيّون منذ ذلك الحين مُحادثاتٍ لاحقة في السفارة الإيرانية في مسقط بشأن إعادة التطبيع.

ترتكز جهود السلطنة على تاريخها المُمتدّ لعقودٍ كجسرٍ ديبلوماسي للبحرين، ليس مع إيران فحسب، بل أيضًا مع قطر. وكانت الخلافات المتعلّقة بالأراضي بين المنامة والدوحة القائمة منذ فترةٍ طويلة على وشكِ إشعالِ حربٍ حول جزيرةٍ اصطناعية قبالة ساحل قطر في العام 1986. صحيحٌ أنَّ الوساطة السعوديّة ساهمت في حلّ هذا النزاع، لكنّ المبادرات العُمانيّة كانت أساسيّةً لإطلاق المحادثات بين المنامة والدوحة. وبعد جيلٍ من الزمن في مطلع العام 2021، اضطّلعت عُمان والكويت بدورٍ ديبلوماسي حاسمٍ مهّدَ الطريق أمام البحرين ومصر والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة لرفع حصارها على قطر الذي فرضته في العام 2017، وبالتالي حلّ هذه الأزمة داخل مجلس التعاون الخليجي التي لم يسبق لها مثيل.

منذُ أن أعادت المملكة العربيّة السعوديّة وإيران تطبيع علاقاتهما الديبلوماسيّة في السنة الفائتة، ينقل السلطان هيثم الرسائل بين مصر وإيران. وقد زار الحاكم العُماني مصر في 21 أيار (مايو) 2023 حيث التقى بالرئيس عبد الفتاح السيسي في القاهرة لمناقشة الأزمات الإقليميّة ووضع العلاقات المصريّة-الإيرانيّة. وبعدٍ أسبوع، اجتمع السلطان هيثم في طهران بالرئيس الإيراني آنذاك إبراهيم رئيسي وبالمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي قال: “إننا نرحّب بإعلان سلطان عُمان عن رغبة مصر في استئناف العلاقات مع جمهورية إيران الإسلاميّة ولا نعارض هذا الأمر”.

الواقع أنَّ تاريخَ عُمان حافلٌ بمحاولاتِ تخفيف الضغوط على مصر وتعزيز علاقاتها مع الدول الإقليميّة. فقد كانت السلطنة من بين ثلاث دول أعضاء فقط في جامعة الدول العربية التي لم تقطع علاقاتها الديبلوماسيّة مع القاهرة بعد توقيع اتّفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل في العام 1978. وقد عكست زيارة سلف هيثم السلطان قابوس إلى الإسكندريّة في العام 1982 قناعةَ عُمان بحقّ مصر السيادي في كسر مقاييس العروبة واتّخاذ قراراتها الخاصة في ما يتعلّق بالتطبيع مع إسرائيل. وبحسب بعض المصادر، أدّت مسقط دور الوسيط عندما بلغت التوتّرات بين القاهرة وطهران ذروتها في العام 2009 وقد قام مسؤولون من البلدين بزياراتٍ إلى عُمان.

الهدوء الإقليمي في مصلحة عُمان الوطنيّة

تتماشى هذه المبادرات الرامية إلى تخفيف التوتّر بين الدول العربيّة والإسلاميّة المجاورة مع التقليد العُماني العريق في استخدام الديبلوماسيّة لتعزيز “الحلول المُوَجَّهة نحو التوافق”. وقد تجلّت هذه المقاربة الديبلوماسيّة في سياسة عُمان الخارجيّة من خلال تعاملها مع الحكومة السوريّة وحركة الحوثيين في اليمن، ما وضع عُمان أخيرًا في موقفٍ مُغايرٍ لمعظم أعضاء مجلس التعاون الخليجي.

لطالما رأت القيادة العُمانيّة أنّ الاضطرابات والصراعات في منطقتَي الخليج والشرق الأوسط الأوسع تشكّلُ تهديدًا خطيرًا لأمنها القومي، واعتبرت أنّها عُرضةً لتداعياتِ الفوضى التي اجتاحت اليمن والعراق وسوريا المجاورة. وفي الوقت نفسه، لطالما اعترفت القيادة في مسقط بأنّ السلامَ الشامل في الجوار يخدم عُمان ومصالح جيرانها التجاريّة. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار جهود مسقط لتيسير الديبلوماسيّة والحوار بين الخصوم الإقليميين براغماتيّة في جوهرها.

وعوضًا عن القيامِ بدورِ الوسيطـ مباشرةً، غالبًا ما يَسّرت عُمان المحادثات الرامية إلى الحدّ من التوتّر بين الدول داخل المنطقة وخارجها. وتبقى السلطنة العضو الأكثر ودّية مع إيران من بين دول مجلس التعاون الخليجي. فقد استضافت محادثات سريّة لوقف إطلاق النار بين طهران وبغداد خلال الحرب بين إيران والعراق في الثمانينيات الفائتة قبل الانخراط في علاقاتٍ أوثق مع الجمهورية الإسلامية بعدما وضع هذا الصراع أوزاره، ما أكسبَ حكومةَ مسقط حظوةً لدى طهران ومكانةً بارزة كدولةٍ عربيّة تتمتّع بروابط وثيقة مع الغرب وتحظى في الوقت نفسه بثقة الجمهورية الإسلاميّة إلى حدٍّ بعيد.

ديبلوماسيّة هادئة لكن فعّالة

وبفضل عضويّتها في مجلس التعاون الخليجي وعلاقتها المُمَيّزة مع طهران، تمكّنت عُمان من تأمين مجالاتٍ ديبلوماسيّة للدول العربيّة لإشراك الإيرانيين في أوقاتٍ حسّاسة عندما كان الانخراطُ المباشر يحمل في طيّاته تحدّياتٍ سياسيّة أكبر بكثير. انطلقت المحادثات التمهيديّة للانفراج السعودي-الإيراني في بغداد في نيسان (أبريل) 2021 حين صعّدت الهجمات الصاروخيّة التي شنّها الحوثيون التوتّرات بين الرياض وطهران إلى أوجها وتلتها جولاتٌ لاحقة في عُمان والعراق. وبصفتها وسيطًا حريصًا على الحدّ من مخاطر الصراعات بين الدول الإقليميّة، لا تتصدّر جهود عُمان لتيسير الحوار عناوين الصحف دائمًا، فهي تتجنّبُ الأضواءَ وتتحرّك وراء الكواليس في انخراطها الديبلوماسي. غير أنّ التاريخ أثبت أنّ هذه الإستراتيجية فعّالة باستمرار.

وقد رسّخ السلطان قابوس على مدى العقود الخمسة من حكمه بين 1970 و2020، الديبلوماسيّة وصناعة السلام والحياد الجيوسياسي كركائز أساسيّة للهويّة العُمانيّة. ومنذ تسلّم السلطان هيثم مقاليد الحكم قبل حوالي خمسة أعوام، واصل جهود سلفه للحفاظ على دور السلطنة كميسّر ومُسَهِّل للحوار وجسرٍ ديبلوماسي موثوق بين الخصوم في الشرق الأوسط.

  • جورجيو كافيرو هوالرئيس التنفيذي والمؤسس لشركة “Gulf State Analytics“.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى