رُباعية فان غوخ في خمسينية متحفه (1 من 4)

فان غوخ بريشة جون بيتر راسل (1886)

هنري زغيب*

سنة 1973 انتهى العمل في بناء متحف الرسام الهولندي العالَمي فان غوخ (1853-1890)، وجاء تحفة معمارية جميلة من حيث شكل البناء. وهو في “ساحة المتاحف”، جنوبي أَمستردام، وَحَوله في الساحة كذلك: المتحف البلدي “سْتيديليك”، ومتحف هولندا الوطني، قصر هولندا للموسيقى. وبانتهاء حملة تجميع لوحاته من المتاحف العامة والمجموعات الخاصة، فتح “متحف فان غوخ” أَبوابه للزوار والسياح سنة 1974.

احتفاءً بخمسينية المتحف (1974-2024)، أَكتبُ هذه الرباعية عن أَبرز أَعمال فان غوخ في متحفه.

جُوَانا فان غوخ وابنها فنسنت: حفظَا اللوحات للمتحف

المتحف: قصة تجميع الأَعمال

يضم المتحف حاليًّا أَوسع مجموعة من لوحات فان غوخ ورسومه. وفي سجلَّات المتحف أَنه، سنة 2017، استقبل مليونين و300 أَلف زائر فكان أَكثر المتاحف ارتيادًا في هولندا، والثالث والعشرين ارتيادًا بين جميع متاحف العالم. وسنة 2019 أَطلق المتحف ظاهرة “تعرَّفوا إِلى تجربة فان غوخ”: فيلم متوسط الطول يضم سيرة فان غوخ وأَعماله، جال حتى اليوم على معظم العواصم والمدن الكبرى في العالم.

ولجمع أَعماله قصة: تُوفي فان غوخ سنة 1890 (في 29 تموز/يوليو) فجمع أَعمالَه شقيقُه تيو. لكن تيو تُوفي بعده بستة أشهر فتولَّت احتضانَ الأَعمال زوجتُه جُوَانّا. باعت عددًا من لوحاته لأَجل توسيع شهرة الرسام الذي مات شبْهَ مغمورٍ في عصره، وبقيَت لديها مجموعةٌ خاصة لم تشأْ بيعها. ولدى وفاتها (2 أَيلول/سبتمبر 1925) انتقَلَت اللوحات إِلى ابنها فنسنت وليام (1890-1978) فأَودعها، موَقَّتًا، لدى المتحف البلدي (“سْتيديليك)، ثم نقلَها إِلى عُهدة “مؤسسة فان غوخ” التي تأَسست سنة 1962.

سنة 1963 عهَدَت الحكومة الهولندية إِلى المهندس المعماري الشهير فترتئذٍ غيريت ريتْفيلد وضع تصميم لمتحف كبير على اسم فان غوخ. لكن المهندس توفي في السنة التالية فعهدت الحكومة لاحقًا بمتابعة التصميم إِلى المهندس الياباني كيشُو كوروكاوى (1934-2007)، وبقيَت الورشة بطيئةً حتى انتهَى المتحف بصيغته النهائية سنة 1974.

بعد ربع قرن على استقباله الزوارَ والسياحَ من جميع أَنحاء العالم، كلَّفَت الحكومة الهولندية سنة 1998 المهندس الهولندي مارتن فان غُور (م. 1944) ترميمَ المتحف وتجديدَه. وسنة 2012 تم إِقفال المتحف مجدّدًا ستةَ أَشهر لبعض الإِصلاحات، وتم لتلك الفترة فقط نقلُ 75 لوحة إِلى متحف “هرميتاج أَمستردام” (تأَسَّسَ سنة 2004 فرعًا محليًّا في أَمستردام لـ”هرميتاج” سانت بيترسبورغ في روسيا). وعن إِملي غوردِنْكِر مديرة المتحف الحالية (منذ آذار/مارس 2024) أَن زواره سنة 2023 بلغوا نحو مليون و700 أَلف.

فان غوخ: “على شاطئ شيفينِينْغِن”

فان غوخ سيرة ومسيرة

اللافت في سيرة فان غوخ، أنه اليوم أحد أشهر الرسامين في تاريخ العالم الغربي. ذلك أن في أعماله انعكاسًا واضحًا لسيرة حياته المضطربة القصيرة إنما الغزيرة الإِنتاج، وهي مع مرور السنوات تزدد شعبية توسُّعًا ودراساتٍ فنية وأكاديمية من محللين ونقاد ومؤرخين من مختلف أنحاء العالم، لِما في رُقْشاته (الرُقْشَة هي ضربة الريشة على القماشة البيضاء) من رهافة حس وأسلوب خاص جديد لا يشبه أحدًا سواه.

ولم تكن مسيرته الفنية سهلة ولا هانئة، مع أنه أنتج نحو 2000 عمل، بينها 900 لوحة لم تجد أيَّ صدى أو إقبال على حياته، ما ولَّد في قلبه قهر حسرة خانقة. ذلك أن أسلوبه، عصرئذٍ، كان غريبًا بمزج ألوانه، ورقشاته العريضة ومواضيع لوحاته، فابتعد عنه الجمهور ولم يستسيغوا أعماله الْكانت خارج السائد في أَعمال معاصريه.  وبعد غيابه بفترة أخذت تتخذ أعماله شهرة وتتسع  انتشارًا حتى باتت اليوم، كما يتبين من رواد متحفه والكتابات والكتُب عنها، من أهم التراث التشكيلي في تاريخ الفن العالمي.

اللافت أَن فان غوخ، منذ أَعماله الأُولى، بدأ متأثِّرًا بكبار عصره الهولنديين، وبعدهم بالرسامين الفرنسيين حين انتقل إلى جنوب فرنسا. وراح تدريجيًّا يتحوَّل من المناخ القاتم فترتئذٍ إلى مرحلة مشرقة ذات ألوان زاهية عكست بعض ما كان فيه من ارتياح وجيز وهناءة سريعة، لكن أفضل ما كان يرتاح إليه هو حين يخرج الى الطبيعة ويرسم من مناظرها الريفية ومشاهدها الساطعة وأشخاصها وجوهًا وأَجسامًا، أفرادًا أَو جماعات.

فان غوخ: “أَكَلَة البطاطا”

بعد هذه المقدمة الوجيزة عن نشأَة المتحف ومسيرته، أَنتقِلُ في هذه الرباعية إِلى عرض لمحةٍ عن باقة بين أَبرز ما فيه من أَعمال خالدة.

 

  1. على شاطئ شيفينينْغِن

رسمها فان غوخ سنة 1882، مباشرةً وهو على الشاطئ، ملتقطًا فيها مشهدًا للمَوج والزبد وبعض الأَشخاص على الرمل وهذا الشاطئ في قريةٍ قريبةٍ من مدينة لاهاي، معروفةٍ بصيد السمك. واستخدَم فان غوخ لذلك رُقْشاتٍ عريضةً وطبقةَ أَلوانٍ متراكمة، فجاءت لوحته بأُسلوب ذي مناخٍ انطباعي.

وهذه اللوحة سُرِقَتْ من متحف فان غوخ سنة 2002، ووُجدَت لاحقًا في إِيطاليا واعتَورَها بعض التشوُّه، ما استدعى ترميمها وإِدخالها لاحقًا إِلى صيغة الأَبعاد الثلاثة كي تعودَ المساحات المشوَّهة إِلى أَقرب ما كانت عليه في الأَصل كما رسمها فان غوخ. وتبقى لوحتُهُ هذه شاهدةً على تلك المرحلة من مسيرته الفنية.

  1. أَكَلَةُ البطاطا

رسمها فان غوخ سنة 1885، وهي تشكِّل موقفًا لافتًا في مسيرته الفنية، إِذ هي من أُولى لوحاته الكبيرة الحجم  (82 بـــ 114 سنتم). صاغَها بأَلوان قاتمة على عكس سابقاتها فترتئذٍ، وتعمَّد ذلك كي يُظهر بؤْس الفلَّاحين في اللوحة، كما يبدو من ملامح وجوههم وفقْر ملابسهم. وهو استعمل لهذا الإِيحاء أَلوانًا تُرابية، فظهَر الأَشخاص بتمام ما هُم عليه من فقْر، ومن غلاظة أَيديهم العظمية، ومن طعام فقير بائس. وهنا يَظهر حرص فان غوخ على نقْل المشهد كما هو بكل ما فيه من انفعالات. وهذه اللوحة جلبَت للرسام انتقادات سامة لكنه أَكَّد فيها إِخلاصه لنقْل الحياة الريفية كما هي من دون تعديل.

الحلقة المقبلة: الجزء الثاني – 4 لوحات أُخرى

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى