إلى أينَ تَتَّجِهُ الأمورُ في حربِ لبنان المَفتوحة؟
تريدُ إسرائيل والولايات المتحدة تغيير المشهد السياسي في لبنان، ولكن يتعيّن عليهما توخّي الحذر الشديد حتى لا يُدَمَّرُ كلُّ شيء.

مايكل يونغ*
مع استمرارِ الحملة الإسرائيلية في لبنان، لا تزال هناك أسئلة عديدة تنتظر الإجابة. ماذا سيحدث بعد ذلك ل”حزب الله”؟ ما هو الهدف النهائي للجيش الإسرائيلي؟ وعلى ماذا اتفقت إسرائيل والولايات المتحدة مما سمح للأميركيين بتغييرِ اقتراحٍ قدّموه قبل أشهرٍ عدة لإنهاء القتال بين “حزب الله” والقوات الإسرائيلية؟
كانت أول إشارة إلى تغيُّرِ شيءٍ ما في الموقف الأميركي في أوائل تشرين الأول (أكتوبر)، عندما أخبرَ المبعوث الأميركي الخاص آموس هوكستين رئيس الوزراء اللبناني المؤقت نجيب ميقاتي أنَّ العَرضَ الذي نقله إلى اللبنانيين في حزيران (يونيو) الفائت أصبحَ الآن “خارج نطاق النقاش”، بسبب الظروف المُتَغيِّرة على الأرض. وكان اقتراحُ هوكستين يدعو “حزب الله” إلى الانسحابِ من الحدود إلى مسافة حوالي 30 كيلومترًا، خلف نهر الليطاني، ثم نشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود، إلى جانب قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان.
إنَّ خطّةَ هوكستين تعكسُ إلى حدٍّ كبير قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي أنهى حرب لبنان في العام 2006، ويحكُمُ نظريًا العلاقات بين لبنان وإسرائيل على طول حدودهما المشتركة. لكن بسحب خطته، أشار هوكستين إلى أنَّ واشنطن كانت تُفكّرُ في شيءٍ أكثر من القرار 1701؛ أو بالأحرى كانت تتبنّى الموقف الإسرائيلي القائل بأنَّ القرارَ لم يَعُد كافيًا، لأنه لا يحتوي على آليةِ تنفيذٍ تضمنُ بقاء “حزب الله” بعيدًا من أراضي إسرائيل.
في الواقع، بدا أنَّ التقاريرَ الإخبارية في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) تؤكّد أنَّ إدارة جو بايدن كانت مُنخرِطة في تفكيرٍ أكثر طموحًا. ومع قطع رأس القيادة السياسية والعسكرية ل”حزب الله” إلى حدٍّ كبير بعد اغتيال الأمين العام السيد حسن نصر الله وخليفته المُتَوَقَّع هاشم صفي الدين والعديد من كبار القادة العسكريين، يسعى الأميركيون الآن إلى تغييرِ توازُن القوى في لبنان بشكلٍ جذري. وكما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر، “ما نريد أن نراه من هذا الوضع، في نهاية المطاف، هو أن يتمكّنَ لبنان من كسر القبضة التي فرضها “حزب الله” على البلاد ــ أكثر من مجرد قبضة، كسر القبضة الخانقة التي فرضها “حزب الله” على البلاد وإزالة حق النقض الذي يتمتع به “حزب الله” على الرئيس”.
إنَّ انتخابَ لبنان لرئيسٍ جديد يُشكّلُ أولوية بالنسبة إلى الأميركيين، الذين يعتقدون أن هذه خطوة أولى ضرورية لتعزيز نظام ما بعد “حزب الله”. وليس من المستغرب أن يكون الشخص الذي يعتبرونه الأكثر ميلًا إلى الشروع في مثل هذا المسعى هو قائد الجيش، العماد جوزيف عون، الذي يُمثّلُ المؤسّسة الوطنية الوحيدة التي تحتفظ باحترامِ معظم اللبنانيين. ويُجسّدُ عون منطق سلطة الدولة، في مقابل منطق “حزب الله” المُتمثّل في المقاومة المفتوحة. ولكن أولئك الذين يسارعون إلى إعلان موت “حزب الله” يجب عليهم أن يكونوا حذرين للغاية. ذلك أنَّ محاولة فَرضِ واقعٍ جديد يعتبره الحزب تهديدًا لمصالحه الحيوية هي وصفة لحربٍ أهلية. وعلى الرُغم من كلِّ الأزمات التي واجهها لبنان على مدى عقود، ظلَّ شيءٌ واحدٌ ثابتًا: القرارات الكبرى، عندما لا تُتَّخَذ بالإجماع، تميلُ إلى توليدِ صراعٍ طائفي.
إن هذا الأمرُ قد يكون مُحبِطًا للحكومات الأجنبية. لكن الآن هو أسوأ وقت لإجبار المجتمع الشيعي على اتّخاذِ قراراتٍ يُعارضها “حزب الله”. فالمجتمع الشيعي يُعاني من الصدمة والتشرّد والتسليح الثقيل، في غيابِ زعيمٍ قادرٍ على السيطرة على الاستياء والإذلال الواسع النطاق الذي يشعر به الشيعة باعتبارهم المجتمع الوحيد المُستَهدَف من قِبَل إسرائيل. بالنسبة إلى صنّاعِ القرار الأجانب، قد يبدو الآن الوقت المناسب للضغط على “حزب الله”. لكن هل فكّرَ أحدٌ في العواقب؟ بمجرّد استعادة الحزب لموطئ قدمه، ما هو ردُّ فعله في ما يتّصل بشركائه الطائفيين في الدولة؟ سوف ينشر “حزب الله” رواية مفادها أنهم استغلّوا الهجوم الإسرائيلي لتهميش الشيعة مرة أخرى، وسوف تسمح هذه الرسالة ل”حزب الله” بامتصاصِ وإعادةِ توجيه الغضب الذي لا بدَّ وأن يشعرَ به العديد من أفراد المجتمع الشيعي لخسارتهم كل شيء بسبب غضب إسرائيل المُدمّر.
ووفقًا لأصواتٍ مؤثّرة في واشنطن، كان هناكَ حديثٌ أخيرًا عن فرضِ عقوباتٍ على رئيس مجلس النواب نبيه بري إذا لم يَدعُ إلى عقدِ جلسةٍ للبرلمان لانتخابِ رئيسٍ جديد. ولا يسع المرء إلّا أن يتساءل مَن الذي جاء بمثل هذه الفكرة الغبية إلى حَدٍّ لا يُصدَّق. فبرّي يرأس المؤسسة الحاكمة الوحيدة العاملة في لبنان، البرلمان، ويجلس على تقاطُعِ المنطقين السائدين اليوم، منطق المقاومة ومنطق الدولة. ومن خلالِ فرضِ عقوباتٍ على بري، لن يعملَ الأميركيون على تحييده فقط باعتباره شخصًا قادرًا على المساعدة في التوصل إلى حلٍّ توافُقي لأزمة ما بعد الحرب في لبنان، والذي قد يُشرِكُ “حزب الله” في نهاية المطاف في أيِّ ترتيبٍ من هذا القبيل؛ بل إنهم سيقوّضون أيضًا البرلمان نفسه، مما يترك لبنان في فراغٍ مؤسّسي.
يبدو أنَّ هناكَ سوءَ فهمٍ حول ماهية “حزب الله”. بالنسبة إلى الأميركيين والإسرائيليين، فإنَّ المنظمة هي ببساطة قوّة “وكيلة لإيران”، وهذا يعني أنه إذا قتلت قادتها، فإنك تحلُّ مشكلتك. مع ذلك، إنَّ “حزب الله” راسخٌ أيضًا في واحدة من أكبر الطوائف في لبنان، وأصبحت رمزيته جُزءًا من الهوية الشيعية الجماعية. بعبارةٍ أخرى، سوف يُفسّرُ عددٌ كبير من الشيعة كلَّ الجهودِ المبذولة لإضعاف الحزب على أنها جهدٌ لشلِّ المجتمع ككل. ولهذا السبب ما زال العديدُ من النازحين الشيعة اليوم موالين ل”حزب الله”، على الرُغم من حقيقةِ أنَّ سوءَ تقديره الهائل في ما يتعلق بإسرائيل -وهو ثاني سوء تقدير من نوعه يرتكبه في ثمانية عشر عامًا- أدّى إلى تدمير المناطق التي يسيطر عليها “حزب الله”، الأمر الذي أنتجَ نزوحَ حوالي 1.2 مليون شخص.
إحدى الشخصيات التي تتمتع معها الولايات المتحدة بعلاقاتٍ جيدة بشكلٍ خاص هو زعيم حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، الذي من الواضح أنه تولّى بنفسه قيادة الهجوم ضد “حزب الله”. في مؤتمرٍ عُقِدَ في مقر إقامته، “معراب”، في نهاية الأسبوع الماضي، كرّرَ جعجع دعمه لقرارات الأمم المتحدة بشأن لبنان، وفي مقدمتها قرار مجلس الأمن رقم 1559، الذي يدعو إلى نزع سلاح “حزب الله”. والمشكلة هي أن قِلّة من المعارضين ل”حزب الله” سوف تتبع جعجع في مواجهةٍ مع الحزب قد تؤدي إلى تفاقم العداوات الطائفية. ومما يزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة إلى الأميركيين أنَّ جعجع غير مُتحمّس كثيرًا لجوزيف عون، حتى ولو وافق على صفقة شاملة تحظى بموافقة دولية وتؤدي إلى وصول عون إلى السلطة.
على مستوى آخر، يتعيّنُ على الأميركيين أن يُحدّدوا كيف تلعبُ الخطط العسكرية الإسرائيلية في لبنان دورًا في كلِّ هذا. ولقد تركت إسرائيل لنفسها مجموعة من الخيارات. ويبدو أن أحد الخيارات يهدف إلى تنفيذ القرار 1559 من خلال نزع سلاح “حزب الله” بالقوة، ويسعى خيارٌ آخر إلى تعزيز الترتيبات الأمنية على طول الحدود في جنوب لبنان. وقد يستلزم الخيار الأول شنَّ حملةٍ أطول كثيرًا في لبنان، وربما غزوًا إسرائيليًا حتى نهر الأولي وصيدا، حيث قد يستغرق الإسرائيليون بعض الوقت لتدمير مخازن أسلحة “حزب الله” في مختلف أنحاء البلاد. وقد يعني الخيار الثاني احتلال الإسرائيليين للمنطقة بالكامل الواقعة بين نهر الليطاني والحدود، والتمسّك بالمنطقة، وربط انسحابهم بتمرير قرارٍ من الأمم المتحدة أكثر صرامة من القرار 1701.
وكما كشف الصحافي اللبناني منير ربيع، فإنَّ مسودةً أوّلية من هذا الاقتراح مطروحةٌ الآن للمناقشة في مجلس الأمن الدولي. إنَّ النصَّ في الأساس يجمع بين الأهداف الواردة في القرارين 1559 و1701 ـ بما في ذلك انسحاب “حزب الله” إلى الليطاني ونزع سلاحه، فضلًا عن خطواتٍ أخرى، بما في ذلك إجراء انتخابات برلمانية مبكرة وانتخابات رئاسية. ولكن فُرَص تبنّي النص محدودة، وفقًا لربيع، ولكنه ربما يخدم كخطوةٍ افتتاحية في المفاوضات. ومن عجيب المفارقات أن هذا الموقف يمنح إسرائيل نفوذًا: ذلك أن التهديد الإسرائيلي بتوسيع حملتها في لبنان يمكن أن يُستخدَم لإرغام مجلس الأمن الدولي على تمرير ما تعتبره إسرائيل نسخة مرضية من المسودة؛ وإذا تمّت عرقلة الإسرائيليين والأميركيين في المجلس، فقد يحاولون استغلال هذا التعطّل لتبرير استمرار العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان.
إنَّ الضغطَ من أجل إضعاف قبضة “حزب الله” على النظام اللبناني واستبدال قوته العسكرية بالجيش اللبناني هو أمرٌ يفضّله العديد من اللبنانيين. ولكن هذا لن يتمَّ بنجاحٍ من جانب واشنطن أو إسرائيل. في أقصى تقدير، قد تتمكّن الأحزاب اللبنانية من إجبار “حزب الله” على الدخول في مفاوضاتٍ بشأن استراتيجيةٍ دفاعية وطنية جديدة، ومن أجلِ القيام بذلك فإنها ستحتاج بلا شك إلى تعاون بري. وحتى في هذه الحالة، لا شيءَ مضمونًا، لأنَّ صانعَ القرار النهائي بشأن أسلحة الحزب هو إيران.
ولكن قد يكون هناك ثغرةٌ هنا، نظرًا لأنَّ الدمار المُروِّع الذي ألحقته إسرائيل ببيئة “حزب الله”، فإن ذلك يشيرُ إلى أنَّ الحزب لن يكونَ قادرًا على الانخراط في مغامرات عسكرية جديدة لعقود، إن كان قادرًا على ذلك على الإطلاق. فالمجتمع الشيعي لا يستطيع أن يتحمّل المزيد. وفي ضوء هذا، قد تُحوّلُ إيران أولوياتها من إعادة تسليح “حزب الله” إلى حماية المجتمع الشيعي المُنهَك وإنعاشه، على النحو الذي يحافظ على نفوذها في لبنان. وإذا فشلت في القيام بذلك، فقد يستنتج الشيعة في لبنان أنهم موجودون هناك فقط ليكونوا بمثابة وقودٍ للمدافع الإيرانية، الأمر الذي يلحق الضرر بطهران بشكلٍ لا يُمكن إصلاحه.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.