الدَينُ الذي لا يَجوزُ تسمِيَتهُ

مايكل سترين*

أصدرت نائبةُ الرئيس الأميركي كامالا هاريس هذا الأسبوع كتابًا مُفَصَّلًا عن السياساتِ التي ستتبعها. ولم تَذكُر فيه سوى مرة واحدة عبارة “الدين الوطني”. وفي المناظرة الرئاسية الأميركية التي جرت في الشهر الفائت، لم تُذكَر كلمةُ “الدَين” مرةً واحدة. كما لم تُذكُر كلمات “الإيرادات” و”الإنفاق” و”الموازنة”.

لكي نكونَ مُنصفين، ذكرت هاريس العجز في الموازنة في كتاب سياساتها ومرّتين أثناء المناظرة، حيث زعمت أنَّ خطةَ الرئيس السابق دونالد ترمب الضريبية من شأنها أن تزيد من العجز وأن سياساتها أكثر مسؤولية من الناحية المالية. ولكن بصرفِ النظر عن ذكرٍ مُوجَزٍ هنا وهناك، لم ينخرط أيٌّ من المُرشَّحَين في مناقشةٍ جادةٍ للمسارِ المالي الكارثي الذي تعيشه البلاد.

إنَّ ديونَ أميركا تسيرُ على مسارٍ محفوفٍ بالمخاطر، والصمتُ ليس حلًّا. ففي ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، كانت نسبة الدين الأميركي إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 39%؛ وبحلول العام 2010، ارتفعت إلى 60.6%. ويتوقع مكتب الموازنة في الكونغرس، وهو هيئة غير حزبية، أن ينمو الدين الوطني بشكلٍ مطرد لعقود من الزمن، ليُعادل الناتج الاقتصادي الإجمالي بحلول العام 2025، ويرتفع إلى 122.4% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2034.

قد يَزعَمُ البعضُ أنَّ إلقاءَ اللوم على الإنفاق أو الإيرادات في العجز البنيوي هو محاسبةٌ مُشَوَّشة أو تحليلٌ اقتصادي مدفوعٌ سياسيًا، لأنَّ العجزَ هو فجوةٌ (الإيرادات ناقص الإنفاق). أنا لا أتفق مع هذا الرأي. إنَّ الخللَ المالي في أميركا مدفوعٌ بالإنفاقِ الحكومي المفرط، وليس بالإيرادات الضريبية القليلة.

علاوةً على ذلك، من المُتَوَقَّعِ أن تنمو ثلاثُ فئاتٍ من الإنفاقِ فقط على مدى العقد المقبل: الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، ومدفوعات الفائدة على الديون المستحقّة (والتي من المُتَوَقَّع أن تتجاوز موازنة الدفاع هذا العام). ومن المتوقع أن تنخفضَ النفقات الحكومية على كلِّ شيء آخر، من الجيش والتعليم إلى البحث العلمي والمتنزهات الوطنية. وبالتالي فإنَّ معالجةَ المشكلة المالية في أميركا تتطلّبُ الاعتمادَ بشكلٍ كبير على التخفيضات في الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية.

بالطبع، فإن زيادة الإيرادات الضريبية من شأنها أن تُقلّلَ من العجز. لكن حتى السماح بانتهاء صلاحية التخفيضات الضريبية لعام 2017 بالكامل، وهي السياسة التي لا يدعمها ترامب ولا هاريس، لن تكونَ كافيةً لمَنعِ الدَين العام من النمو إلى مستوياتٍ غير مُستدامة في المدى الطويل، نظرًا للزيادة المُتَوَقَّعة في الإنفاق. وبحسبِ نموذجِ الدَين الذي وضعته لجنة الموازنة الفيدرالية المسؤولة، فإنَّ إلغاءَ التخفيضات الضريبية لعام 2017 بالكامل، إلى جانب فرض ضرائب على مكاسب رأس المال والأرباح كدخلٍ عادي، من شأنه أن يُقلّلَ نسبةَ الدَينِ إلى الناتج المحلي الإجمالي المُتوقعة في العام 2050 بنحو أربع نقاط مئوية فقط، من 155% إلى 151%.

في ظلِّ العديدِ من الأحداثِ المالية الجسيمة التي تلوحُ في الأفق، ينبغي الضغطُ على ترامب وهاريس لمعالجة هذه القضية. فبادئ ذي بدء، ستنتهي صلاحية العديد من أحكام التخفيضات الضريبية لعام 2017 في العام المقبل. فكيف يُفكّرُ المُرشَّحان في إصلاح قانون الضرائب في ضوء التحديات المالية التي تواجهها الأمة؟

سوف يصبح صندوق الضمان الاجتماعي مُعَسَّرًا في العام 2035، وسوف ينضبُ صندوق التأمين على المستشفيات التابع لبرنامج الرعاية الطبية في العام التالي. وتختلفُ هذه التقديرات، من أمناء البرامج، بمرور الوقت اعتمادًا على مجموعةٍ مُتنوعةٍ من العوامل، ولكنَّ المالَ قد يَنفُدُ قبل الموعدِ المُتَوَقَّع حاليًا.

لقد أعلن كلٌّ من ترامب وهاريس معارضتهما لخفض الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، ولكن لم يُجِب أيٌّ منهما عن الأسئلة الواضحة التالية: في ضوءِ الديون المُتزايدة باستمرارٍ في البلاد، كيفَ يُمكنُ تجنُّبُ مثل هذه التخفيضات؟ ولماذا يكونُ تجنّبها الخيارَ الأفضل؟ من المعقول أنَّ هاريس، إذا فازت في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل وأُعيدَ انتخابها في العام 2028، سوفَ تُشرفُ على إعادةِ هيكلةٍ ضخمة لهذه البرامج في حالِ إفلاس صناديق الاستئمان في عهدها، وهو ما يجعل من الأهمية بمكان أن نسألَ كيف ستتعامل مع مثل هذه المهمّة.

إنَّ الدَينَ الوطني هو إحدى القضايا الأكثر إلحاحًا التي تواجه الولايات المتحدة، وإذا تُرِكَ من دونِ رادع، فقد يؤدّي إلى أزمةٍ ماليةٍ حيث يؤدّي تآكلُ ثقة المستثمرين إلى زيادةٍ كبيرة في أسعار الفائدة. وهذا من شأنه أن يؤدّي إلى تقلُّبِ أسواقِ الأسهم وحتى إلى ارتفاعِ مدفوعات الفائدة للحكومة الفيدرالية. وعلى نحوٍ مُماثل، قد يؤدّي العجزُ المُتضخِّم إلى ارتفاعٍ مُفاجئ في التضخُّم المُتوَقَّع، مما يَفرضُ ضغوطًا على بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لرفع أسعار الفائدة.

قد تحدثُ مثلُ هذه الأزمة في المستقبل، لكنَّ الدَينَ العام كان يُلحِقُ الضررَ بالاقتصاد لعقود من الزمن. ووفقًا لمكتب الموازنة في الكونغرس، فإنَّ كلَّ زيادةٍ في العجز الفيدرالي بمقدارِ دولارٍ واحدٍ تُخفِّضُ الاستثمار الخاص بنحو 33 سنتًا. ونتيجةً لهذا، أصبح لدى أميركا مخزونٌ أصغر من رأس المال، ما يجعلُ العمّال أقل إنتاجية، ويُخفّضُ الأجور، ومن المرجح أن يُقلّلَ من المشاركة في القوى العاملة. وبالتالي فإنَّ ارتفاع الديون كان يؤدي تدريجًا وثابتًا إلى تآكلِ أُسُس الرخاء.

وبعيدًا من هذه الأضرار المباشرة، فإنَّ العجزَ المتزايد له تكاليف الفرصة. فالنفقات الكبيرة لخدمة الدين تُقلّلُ من الحَيِّزِ المالي اللازم للاستثمار في الدفاع الوطني، والبحث العلمي، والسياسات الرامية إلى توسيع الفُرَص الاقتصادية.

إنَّ المُراقِبَ المنطقي لانتخابات العام 2024 قد يستنتجُ أنَّ هناكَ القليل من الاتفاق بين هاريس وترامب. لكن يبدو أنهما يتفقان على أنَّ إحدى أهم القضايا التي تواجه الولايات المتحدة يجب تجاهلها أثناء الحملة وتركها من دون معالجة خلال الفترة الرئاسية المقبلة.

في ما يتعلق بمستقبل أميركا الاقتصادي، يتفقان على أكثر مما يبدو.

  • مايكل سترين هو خبيرٌ اقتصادي أميركي. وهو يشغل حاليًا منصب مدير دراسات السياسة الاقتصادية وباحث آرثر ف. بيرنز في الاقتصاد السياسي في معهد “أميركان إنتربرايز”.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى