ترامب في اليمن: تَجريبُ المُجَرَّب؟

تشرحُ هذه المقالة حدودَ العملية العسكرية الأميركية على اليمن، وتعقيدات شروط نجاحها واستفادة الرئيس دونالد ترامب منها في حربه التجارية على الصين وإخضاعه لأوروبا. فقد تعاقب على هذا الملف أكثر من وسيط ودخل أكثر من مسارٍ تفاوُضي وعسكري من دون أن يعودَ اليمن دولةً موحَّدة تبسط فيها السلطة الشرعية نفوذها على كامل ترابه ومن دون أن تتوقف الصواريخ والمسيَّرات الحوثية، ومن دون أن تعود السفن للبحر الأحمر. فلماذا يدخل رجل المال والسلام حربًا خاسرة؟

الحوثيون: باتوا يُشكّلون خطرًا على المصالح الأميركية في الخليج والقرن الأفريقي.

ملاك جعفر عباس*

فَتَحَ التصعيدُ الأميركي في الساحة اليمنية، من خلال إعادة تصنيف الولايات المتحدة لجماعة “أنصار الله” الحوثية كحركةٍ إرهابية وتجدُّد الحملة الجوية لضرب البنية التحتية واستهداف بعض قيادات الجماعة بنسختها الترامبية في آذار (مارس) الماضي، بابَ التساؤلات حول الهدف النهائي لإدارة ترامب في اليمن. صحيحٌ أنَّ الرئيس الأميركي قال أنَّ الضربات ستشتدُّ حتى يفقد الحوثيون قدرتهم على تهديد السفن في البحر الأحمر، إلّا أنَّ هذا الكلام حمّالُ أوجه. فهل المطلوب هو تحجيم القدرة الصاروخية للحوثي في استهداف حركة الملاحة في البحر الأحمر والمرافق الإسرائيلية؟ أم أنَّ للضربة هدفًا أوسع يتخطّى الصواريخ والمُسَيَّرات ليشمل إنهاءَ حُكم الحوثي لصنعاء وأجزاءٍ واسعة من اليمن لينكفئ مُجَدَّدًا إلى صعدة؟ أم أنَّ الولايات المتحدة تُقارِبُ في مكانٍ ما مسألةَ ترتيبِ مستقبل اليمن على أساسِ عمليّةٍ سياسية تشملُ كلَّ الأطراف تقتضي إضعافَ الحوثي أوّلًا وإجباره على الدخول في مسارٍ سياسي مع القوى الأخرى؟

أثبتت جماعة الحوثي أنها الأقدر بين فصائل ما يُعرَفُ ب”محور الممانعة” على الصمودِ وتَحَمُّلِ الضغط الأميركي الهائل. فرُغمَ تعاقُب إدارَتي جو بايدن ودونالد ترامب على قَصفِ معاقلها لا زالت الصواريخ والمُسَيّرات تنطلق، وحركة الملاحة لم تَعُد إلى طبيعتها في البحر الأحمر على الرُغم من أنَّ مسؤولًا إيرانيًا سرّب لصحيفة “التِلِغراف” البريطانية ما يُشبِهُ رَفعَ الغطاءِ عن جماعة الحوثي باعتبارها باتت ورقة خاسرة تُربكُ حسابات طهران مع ترامب بعد تهديده المباشر لطهران بقصفٍ لم يسبق له مَثيل.

الحوثي والارتباط بالجماعات المتطرّفة

فَصّلت دراسةٌ لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى كيفَ نسجَت حركة الحوثي خلال السنوات الماضية علاقاتٍ مع مجموعاتٍ من الحشد الشعبي في العراق خصوصًا في مجالِ نقل الأموال وتخزين المُسَيّرات واستعمال ميناء البصرة في عمليات التهريب من خلالِ تزويرِ وثائق الشحنات عبر مرافئ الترانزيت حتى تصل إلى باب المندب. وتتابع دراسةٌ أخرى لمركز كارنيغي للشرق الأوسط المسارَ من بابِ المندب حيثُ يتمُّ نقلُ البضائع المُهرَّبة عبر شبكاتٍ مُعقَّدة من القوارب الشراعية تُشغّلها مجموعاتٌ إجرامية من القراصنة الناشطين في منطقة القرن الأفريقي تتقاسمُ الحصص من البضائع والغنائم من عمليات السطو على السفن العابرة مع جماعة الحوثي. وتتداخل علاقات جماعة الحوثي في الصومال بحركة “الشباب” المرتبطة بتنظيم “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، حيث نجحت، بمساعدة عناصر من الحرس الثوري، بحسب الدراسة، في تجاوز الهوّة العقائدية مُعليةً المصلحة المشتركة باستهداف الولايات المتحدة وحلفائها. وتؤمّن التنظيمات السلفية الجهادية طُرُق الإمداد والتهريب مقابل التدريب على استخدام السلاح وتصنيع الصواريخ واستخدام المسيّرات في معسكرات الحوثيين. وتفتح هذه العلاقات باب القرن الأفريقي امام النفوذ الإيراني وتضمن شريانًا ماليًا مهمًّا بالنسبة إلى الحوثي يُمكّنه من الاعتماد على نفسه في حال انقطاع المَدَد عنه.

ولا يكتفي الحوثيون بتهديدِ عنق التجارة العالمية، بل باتوا يشكّلون فكَّي كمّاشة حول المملكة العربية السعودية من خلال تموضعهم مع فصائل عراقية على المثلث الحدودي مع الأردن. وقد نجحت المملكة في استيعاب الحالة الحوثية إلى حدٍّ كبير والمواءمة بين خطرٍ محدود قد تشكله الجماعة لو دخلت في مسار سياسي يُطبّع العلاقة مع الشركاء في الوطن، وخطرٍ أكبر هدد مصالح المملكة ودولة الامارات غير مرة من دونِ أيِّ ردِّ فعلٍ أميركي لحماية الحلفاء. وقد شَكّلَ التعامل الأميركي بخفة مع هواجس الدولتَين الخليجيتين محطّة فارقة في العلاقات حيث خاضت بعدها المملكة مسارَ بكين للتقارُب مع إيران، ورَعَت وساطةً لتقريب وجهات النظر بين الحوثيين والمجلس الرئاسي اليمني، وعمّقت العلاقات مع روسيا والصين مع الحفاظ على علاقات متينة مع واشنطن.

الضربات الجوية غير كافية

يُجمعُ المُحلّلون العسكريون والخبراء في الجماعات المسلّحة على اختلافِ أهوائهم على أنَّ الضربات الأميركية بشكلها الحالي، وإن تكثّفت، لن تفلحَ في تحقيقِ أيٍّ من الأهداف السابقة الذكر ما لم تكن هناك قوةٌ على الأرض تعمل تحت الغطاء الجوي الأميركي من عناصر يمنية وغير يمنية للدخول إلى مناطق حكم الحوثي والسيطرة عليها، وما لم يكن هناك جهدٌ حقيقي في تجفيف مسالك التهريب وإغلاق طرق الإمداد التي تَمَكَّنَ من خلالها الحوثييون تطوير قدراتهم العسكرية واللوجستية وتجاوزوا الحصار والعقوبات. وهذا يقتضي تعامُلًا أميركيًا مع أكثر من بلد وأكثر من جهة دولية لإطباق الخناق على الحوثيين الذين باتوا، من خلال علاقاتهم في القرن الأفريقي، يُشكّلون تهديدًا مُحتملًا للقاعدة الأميركية في جيبوتي أيضًا. وتشير المعلومات التي أوردتها شبكة “سي أن أن” (CNN) أنَّ الولايات المتحدة ربما تُفكّرُ في إرسالِ عددٍ محدودٍ من القوات الخاصة الأميركية لدعم قوات الحكومة اليمنية في عدن لشنِّ عمليةٍ برية من الشرق والجنوب والساحل لطردهم من صنعاء وميناء الحديدة. وهذا يعني حربَ شوارع ومسارًا طويلًا يُشكّك البعضُ في إمكانية الحفاظ خلاله على وحدة القوات اليمنية التي تتنازعها الولاءات لغير دولة في المنطقة ما يؤثّر في أدائها في مواجهة الحوثيين الذين ما زالوا يُعتَبَرُون الأكثر قوة وتماسُكًا، فضلًا عن التشكيك في قدرتها على فرض سيطرتها على صنعاء إن نجحت في طرد حركة الحوثي منها بسبب شبكة المصالح واقتصاد الحرب الذي ارتبط لفترة طويلة بسيطرة الجماعة على صنعاء وما مارسته من تأطير عقائدي لمجاميع الشباب الذين حكمتهم. ومن غير الواضح ما إذا كانت السعودية أو الإمارات ستشاركان في الحملة المزمعة، وما هي حدود هذه المشاركة إن حصلت. فالأرجح أنَّ المملكة تخطو بعناية وبكثيرٍ من التأنّي في هذا الملف وربما ليست في وارد الإطاحة بسنوات من الجهد المضني في مغامرةٍ قد لا تقودُ إلى أيٍّ نتيجة سوى ما توصّلت إليه الديبلوماسية السعودية سابقًا.

هدفٌ أميركي آخر

الواقع أن الإدارة الأميركية وإن أدركت انها لن تستطيع القضاء على حركة الحوثي من خلال الضربات الجوية فقط مهما اشتدت قوتها، وقد اختبرت هذا المسار في فيتنام وأفغانستان والعراق، لا تمانع في استمرار الحملة كما هي لأنها أصلًا تستفيدُ منها بأشكالٍ أخرى. فقد نشرت الولايات المتحدة عددًا هائلًا من القطع العسكرية من اسطولها البحري في إطار تكثيف الضربات على الحوثيين ووضع الضغط الأقصى على إيران للدخول في مسارٍ تفاوضي. فالولايات المتحدة ترى أنَّ السيطرة على البحر الأحمر تُكرِّسُ هيمنتها العالمية، تماشيًا مع عقيدة “ماهان” البحرية التي تربُطُ بين التفوُّقِ البحري والتفوُّقِ الاقتصادي والسياسي. هذه الهَيمَنة تُضعفُ قدرات قوى صاعدة كالصين، التي تضطر لاستثمار مليارات الدولارات في مساراتٍ بديلة أقل فاعلية. وفي الوقت نفسه، تُرسي واشنطن مكانتها كضامن للنظام التجاري العالمي، ما يعزّز تحالفاتها ويُثني الآخرين عن تحدّيها. ويمنح البحر الأحمر الولايات المتحدة أدواتٍ استراتيجية واقتصادية مُتكاملة، فهي تضمنُ أمنَ التجارة وتؤثّرُ في تدفّقات الطاقة، من خلال تأمين المُرافقة العسكرية لهذه السفن حفاظًا على سعر برميل النفط مُنخَفضًا، وتراقب خصومها وتستخدم الممرات البحرية لردعهم أو احتوائهم.

لقد أدّى استمرار استهداف السفن في البحر الأحمر إلى تراجُعِ حركةِ الملاحة في قناة السويس بمعدّل الثلثين منذ هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) ودخول الحوثيين في المعركة، ما كَبّدَ الاقتصاد المصري مثلًا أكثر من 7 مليارات دولار ورفع كلفة نقل الحاويات بأكثر من 200% عبر رأس الرجاء الصالح، وأخّرَ وصولها إلى المستوردين في أوروبا بشكلٍ خاص. ويمرُّ عبر قناة السويس حوالي 12% من التجارة العالمية وأكثر من 40% من التجارة بين جنوب وجنوب شرق آسيا وأوروبا، فيما تبقى المسارات التجارية الأميركية عبر المحيط الهادئ وقناة بنما سالكة امام حركة السفن والحاويات، ما يضع أوروبا والصين بشكلٍ خاص في موقع المتضرّر الأول. وقد أظهرت أزمات جنوح السفينة “آفر غرين” في العام 2021، واستهداف الحوثيين للسفن بالصواريخ والمسيّرات منذ بداية الحرب في غزة، أنَّ تعطيلَ مسارات البحر الأحمر يؤدّي إلى ارتفاع التضخّم وتَراجُع الإنتاج الصناعي في أوروبا ويُقلّل الصادرات الصينية فيما يكسب الاقتصاد الأميركي ميزات تنافسية حيث ترتفع تكاليف منافسيه بينما تستفيد صناعته، ويُكَدّسُ ترامب أوراقَ ضغطٍ سياسية تضعُ جُزءًا من الاقتصاد الأوروبي تحت الحماية العسكرية الاميركية. فعمليًا باتت الولايات المتحدة تتحكّمُ اليوم في حركة التجارة عبر باب المندب من خلال اختيار السفن التي تُقدّمُ لها المُرافَقة البحرية لتأمين عبورها الآمن قبالة السواحل اليمنية. لذا لا تبدو الولايات المتحدة مستعجلة للخروج من البحر الأحمر قريبًا، وليس غريبًا على مَن يريد تحويل غزة الى ريفييرا جديدة، ومَن يُريدُ الاستيلاءَ على غرينلاند وكندا وقناة بنما، أن يُفَكّرَ في السيطرة على باب المندب وقناة السويس وبينهما البحر الأحمر.

ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة صحافية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية من خلال عملها التلفزيوني في محطة “بي بي سي نيوز” عربي. وهي متخصّصة في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة من جامعة كينغز كوليدج لندن. يمكن التواصل معها عبر “Linkedin” على:www.linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى