هل تُجبرُ الهجمات الإسرائيلية “حزب الله” وإيران على التخلّي عن استراتيجية “وحدة الساحات”؟
مايكل يونغ*
لا شكَّ أنَّ الإصاباتَ والوفيات في لبنان في الأسبوع الفائت، مع انفجارِ أجهزةِ النداء واللاسلكي التي هي بحوزة أعضاء “حزب الله”، كانت بمثابةِ لحظةٍ جديدة في “معركة الإسناد” التي دامت قُرابةَ عامٍ بين “حزب الله” وإسرائيل بشأن الصراع في غزة.
لقد أظهرت قدرة الإسرائيليين على تفخيخِ وتفجير الأجهزة أن لديهم مجموعةً من الإجراءاتِ المُحتَمَلة التي يُمكِنهم استخدامها ضد مجموعةٍ مُقَيَّدةٍ جدًا في أفعالها. ولم يتأكد هذا إلّا يوم الجمعة الماضي، عندما قتل الإسرائيليون القائد العسكري الأعلى ل”حزب الله”، إبراهيم عقيل، والعديد من القادة من قوة الرضوان النخبوية. ثم خَطَت إسرائيل خطوةً أُخرى إلى الأمام يوم الاثنين، عندما نجحت في تهجيرِ جُزءٍ من السكان الشيعة في جنوب لبنان ووادي البقاع الغربي، بعد غاراتٍ جوية أسفرت عن مقتلِ أكثر من خمسمئة شخص وإصابة أكثر من ألفٍ وستمئة آخرين.
منذُ بداية القتال في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) من العام المُنصَرم، وَجَدَ “حزب الله” نفسه مُحاصَرًا بين ضروراتٍ مُتناقِضة. من ناحية، كان لزامًا عليه أن يتدخّلَ لمساعدة حركة “حماس” في غزة دفاعًا عن استراتيجيةٍ تمَّ تطويرها بالتعاون مع إيران والمعروفة باستراتيجية “وحدة الساحات”. كانت هذه الفكرةُ أنَّ الأطرافَ في “محور المقاومة” الذي تقوده طهران سوف تُوَحِّدُ جهودها لمحاربة إسرائيل إذا ما تعرّض أحدها لهجومٍ إسرائيلي.
من ناحيةٍ أخرى، كان على “حزب الله” أن يتجنَّبَ توسيعَ الصراع مع إسرائيل الذي قد يؤدّي إلى تدمير لبنان. إنَّ الانهيارَ الاقتصادي للبلاد في العامين 2019 و2020، والعداءَ الطائفي المُتزايد تجاه المجموعة من قبل عناصر في مجتمعات أهل السنّة والموارنة والدروز، وهَيمَنة “حزب الله” غير الشعبية على الدولة اللبنانية، يعني أنَّ قيادةَ المجموعة أدركت المخاطر الحقيقية التي قد تترتَّبُ على حربٍ مُدمِّرة على قدرتها على الانتصار في أعقابها.
كانَ أحدُ العناصرِ الأساسية في استراتيجية “وحدة الساحات” أنها كانت تستندُ إلى قدرةِ “محور المقاومة” على رَدعِ إسرائيل. حتى وقتٍ قريب، تمكّنت من القيامِ بذلك إلى حدٍّ كبير، على الرُغم من أنَّ هذا لم يمنع تدميرَ إسرائيل لغزة والقتل الجماعي للفلسطينيين. مع ذلك، فإنَّ قيودَ “حزب الله” محلِّيًا أوضحت أيضًا نقاطَ ضعفِ أقوى عضوٍ في “محور المقاومة”.
من خلالِ زيادة هجماتها ضد “حزب الله” خلال الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع، أظهر الإسرائيليون أنَّ الفجوةَ كانت تتزايد في علاقةِ الرَدعِ بين الجانبين. ومع تصعيدِ الإسرائيليين لأفعالهم، بدا “حزب الله” عاجزًا بشكلٍ مُتزايد عن الردِّ بالمثل. وإذا كان الأمرُ كذلك، فما الفائدة من استراتيجية “وحدة الساحات”؟
لكن هناكَ مخاطر عميقة في التفكير وراء هذه الاستراتيجية. ذلك أنَّ جميعَ البلدان أو الأراضي التي يتواجد فيها “محور المقاومة” ــلبنان وسوريا والعراق واليمن وغزةــ مُعَرَّضةٌ للخطر إلى حدٍّ كبير في حالة الانتقام الإسرائيلي. والسبب وراء هذا هو أنَّ القوّة الإقليمية الإيرانية بُنِيَت على أرضٍ قاحلة: فأينما تدخلت إيران مع حلفائها، خلّفت وراءها دولًا فاشلة أو مُنهَكة ومُنهارة.
قد يفترضُ المرءُ أنَّ هذا الوضعَ لَعِبَ لصالح حلفاء إيران، لأنَّ غيابَ الدول العاملة والفاعلة يعني أنّ أعضاءَ “محور المقاومة” يمكنهم أن يفعلوا ما يحلو لهم، من دون ردِّ فعلٍ أو معارضة. لكن هذا الواقع لا ينطبق تمامًا على لبنان، حيث تعني التركيبة الطائفية المُعَقَّدة للبلد والدولة الضعيفة تقليديًا أنَّ المجتمعات الدينية والهويات الطائفية أقوى كثيرًا من أيِّ مكانٍ آخر.
وفي حين أنَّ مثلَ هذه الهويات الطائفية ربما أدّت إلى توسيع الانقسامات التي سهَّلت اختطافَ “حزب الله” للدولة اللبنانية، فإنها خلقت أيضًا بؤرًا مُتقدِّمة للمقاومة والاستياء من “حزب الله” فشلت الجماعة الشيعية في التغلُّبِ عليها، ولكنها تحرُصُ أحيانًا على عدم تفاقمها. مع ذلك، من بين مظاهر الغطرسة التي يتّسِمُ بها “حزب الله” أيضًا أنه تجاهلَ هذه الحقيقة إلى حدٍّ كبير عندما تبنّى استراتيجية “وحدة الساحات”.
لكن مع تَدميرِ غزّة ومساحاتٍ شاسعة من جنوب لبنان، ومع كفاحِ “حزب الله” لمُواكَبَةِ إسرائيل في فَرضِ مُعادلةِ الردع، فقد يكونُ الوقتُ حانَ لإعادةِ تقييمٍ مفهوم “وحدة الساحات”. وهناكَ عوامل عدة تُؤكّدُ على ذلك: فقد تمَّ القضاءُ على غزة؛ و”حزب الله” ببساطة لا يستطيعُ تَحمُّلَ حربٍ أوسع نطاقًا؛ والحكومة السورية، التي تخشى رَدَّ فعلِ إسرائيل، أظهرت أنها لن تفتحَ جبهةً جديدة ضدّ إسرائيل.
ما هي قيمةُ هذه الاستراتيجية إذا أصبحت الساحات أقَلّ تَوَحُّدًا وأقلّ قدرةً على مواكبة التصعيدات الإسرائيلية؟ إذا اندلعت حربٌ شاملة في لبنان، على سبيل المثال، فقد لا يتمكّن “حزب الله” من الاعتماد على التدخُّلِ الفعّال من قبل حلفائه. ولا يستطيعُ حلفاؤه العراقيون ولا اليمنيون فعلَ الكثير، وقد تترَدَّدُ سوريا في السماح لحلفاء إيران بعبورِ أراضيها لشنِّ حربٍ ضدّ إسرائيل، ولا تُوجَدُ ضماناتٌ بأنَّ إيران ستُخاطِرُ بحربٍ مع الولايات المتحدة من خلالِ الدخولِ في المعركة.
في ضوءِ كلِّ هذا، فإنَّ التخلّي الهادئ عن استراتيجيةِ “وحدة الساحات” بمجرّد انتهاءِ الصراع الحالي، أو حتى قبل ذلك، قد يكونُ الخيارَ الأفضل. فقد أدّى اجتياحُ إسرائيل لغزّة بالفعل إلى شَلِّ هذه الاستراتيجية من خلالِ إبطالِ جُزءٍ كبير من مُكوّنها الفلسطيني. ولكن من غير المُرَجَّح أن يعترفَ “حزب الله” بمثل هذا التراجع علنًا. فقد أصبحت هذه الاستراتيجية ركيزةً أساسيةً لمصداقية إيران الإقليمية، لذا فإنَّ خسارتها ستكونُ بمثابةِ ضربةٍ قوية.
إنَّ السؤالَ الذي يجب طرحه هو مَن الذي جاءَ بفكرةِ “وحدة الساحات” في المقامِ الأول؟ منذ أن أعلن الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله عن الفكرة للمرة الأولى في أوائل العام الماضي، كانت لديها القدرة على أن تكونَ أقل من استراتيجية وأكثر من ميثاقِ انتحارٍ مُتبادَل. لكنها لم تتحوَّل إلى ذلك بالفعل، بل نجحت إلى حدٍّ ما في إعادة تأكيد النفوذ الإقليمي لإيران.
لكن الاستراتيجية أصبحت الآن مُحَدَّدةً بنقائصها أكثر من إمكانياتها. وإذا كان “حزب الله”، الفاعل الأقوى في نهج “وحدة الساحات”، يجد الآن صعوبةً في ردع إسرائيل، فماذا عن حلفائه الإقليميين؟ إنَّ الاستمرارَ على هذا المسار من المرجح أن يؤدّي فقط إلى توسيع الفجوة بين “محور المقاومة” من ناحية، وإسرائيل وراعيتها الولايات المتحدة من ناحية أخرى.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.