الانطباعية تَعبُرُ الأَطلسي
هنري زغيب*
انطلقَت الانطباعية من فرنسا في القرن التاسع عشر، واشتُهر رساموها بلوحاتهم ذاتِ الخيال الهانئ الهادئ، ذاتِ الرقشات (ضربات الريشة) الرفيعة المتدرِّجة نحو السميكة، ذاتِ الأَلوان الفَرِحة والزاهية، خصوصًا مع رواد هذا التيار التشكيلي الجديد (فترتئذٍ): كلود مونيه (1840-1926)، إِدغار دوغا (1834-1917)، أُوغست رُنوار (1841-1919). لكن هذا التيار الجميل لم ينحصر في فرنسا فقط، بل تخطاها عبر المحيط الأطلسي ليصل إِلى الولايات المتحدة ويتأَثر به رسامون أَميركيون أَنتجوا لوحات عادلَت تلك الفرنسية الانطباعية جمالًا ومضمونًا.
هنا خمسة من أُولئك الانطباعيين الأَميركيين:
- ماري كاسَّات (1844-1926)
لعلَّها أَبرز وأَشهر من تأَثَّر بالانطباعية. وُلدَت في مدينة آليغيني (ولاية بنسيلفانيا)، وانتقلت إِلى باريس سنة 1865 تَدرس على الرسام الأَكاديمي جان ليون جيروم (1824-1904)، وبقيَت في باريس نحو 10 سنوات والتقت بالرائد الانطباعي إِدغار دوغا الذي عرَّفها برسامي الانطباعية فتأَثَّرَت بهم عميقًا، وانفتح لها الأُفق لتعرض أَعمالها في ثمانية معارض انطباعية بين 1879 و1886، وأَظهرت براعتها في التقاط تقْنية الأُسس الانطباعية شكلًا ومضمونًا. وتنوعَت لوحاتُها على مواضيع عدة بين وجوه وأَشخاص ومناظر مأْهولة ومشاهد طبيعية، وعدد منها لمشاهد مسرحية عادية وأُوبرالية. وركزَت في عدد من لوحاتها على أُمهات وأَطفالهنَّ، وبدَت فيها براعتُها بنقل العُذوبة في ملامح الحنان الأُمومي والبراءَة الطفولية. وكانت ريادتُها أَميركيًّا في إِشراقة أَلوانها ورُقشاتها الدقيقة البارعة.
- تيودور روبنسون (1852-1896)
وٌلِد في إِيراسبُورغ (شمالي ولاية ڤيرموت). ومع أَنه نشأَ في ولاية وسكونسن، غادرَها باكرًا وعاش معظم حياته في فرنسا. وتأَثَّر باكرًا بالرسامين الانطباعيين الفرنسيين تقْنيةً ومضمونًا. وبينهم جمبعًا ربطَتْه علاقة تشكيلية خاصة مع الانطباعي كلود مونيه، فكانت له معه لقاءَات عدة في بيته (مدينة جيفرني=منطقة النورماندي شمالي فرنسا). وكان لاتصاله بالانطباعيين الأُوروبيين أَثَرٌ على أُسلوبه ورُقشاته الخاصة. ومع أَنه استخدم أَلوانًا أَكثر زهوًا وحيوية من مونيه، بقيَت مواضيعُه شبيهة بسائر الانطباعيين. وهو نال جائزتَيْن: جائزة ويب سنة 1890، وجائزة صندوق شاو سنة 1891.
- إِدموند تاربِل (1862-1938)
وُلد في مدينة غرونون (ولاية ماساشوستس) ودرَس في مدرسةٍ تابعةٍ متحفَ بوسطن، ثم سافر إِلى باريس يَدرس لدى أَكاديميا جوليان وفيها التقى عددًا من الانطباعيين الفرنسيين وتأَثَّر بهم. بعدذاك بدا تأْثيرُهُ واضحًا في أَوساط بوسطن التشكيلية وخصوصًا طلَّابه ومريديه الذين عُرفوا بالـ”تاربلّيين”، ذلك أَنه درَّس فترة طويلة وهو على رأْس دائرة الرسم لدى مدرسة “متحف بوسطن” كما أَدار في العاصمة واشنطن مدرسة كوركوران للفنون (تأَسَّسَت سنة 1878 في جامعة جورج واشنطن). وأَكثر: كان عضوًا في “مجموعة العشرة”، وهُم فريق رسامين استقالوا من “جمعية الفنانين الأَميركيين المحافظين”، وهو أَيضًا مؤَسس “رابطة فناني بوسطن” سنة 1914. ولكل ذلك، يَعتبر النقاد ومؤَرخو الفن أَن تاربِل كان رائد الانطباعيين الأَميركيين، ليس فقط لأَن لوحاته كانت تُلاقي إِعجاب الطبقة الميسورة من المجتمع لأَن لوحاته في مناخ الانطباعيين الفرنسيين، بل لأَنه بقي متفردًا عنهم في مناخ محلي جذَب زملاءَه وطلَّابه في بوسطن، خصوصًا بأَلوانه ودينامية رُقشاته.
- جون سِنْغِر سارجِنْتْ (1856-1925)
اشتُهر برسمه الوجوه والمناظر الطبيعية. وهو إِن لم يكن معتبَرًا انطباعيًّا في سياق تيارها، فتقْنيتُه ارتكزَت على عناصر الأُسلوب الانطباعي، لذا يمكن إِدراجه في مناخ الفنانين الانطباعيين، خصوصًا بتأْثيره الواضح على بيئته التشكيلية. وهو وُلِدَ في باريس من والِدَين أَميركيَّين مهاجرَيْن إِلى فرنسا. درَس الرسم في باريس وفيها التقى مونيه سنة 1876. وتمكَّن من المشاركة في معرض باريس السنوي أَكثر من مرة متميّزًا بفرادة مقاربته التيارَ الانطباعي، وإِن لم يكُن منضبطًا بعناصر ذاك التيار. وفي مطالع مسيرته تأَثَّر برحلاته إِلى أُوروبا وشمالي أَفريقيا قبل أَن ينتقل إِلى رسم الوجوه التي اشتُهر برسمها في أَميركا وخصوصًا في بوسطن. وبين أَبرز داعميه السيدة إِيزابيلَّا ستيورات غاردنر (1840-1924) وهي هاوية جمع اللوحات، رسمَها جون، واللوحة اليوم في صدارة مجموعتها الخاصة. تفرَّدَ جون بأُسلُوبه الخاص الذي ميَّزَهُ بجمال مواضيعه ورُقشاته وأَلوانه، خصوصًا في لوحاته لمناظر طبيعية. يعتبره البعض واقعيًّا في تعبيره، لكنه ميال أَكثر إِلى تقْنية التعابير الانطباعية، متأَثِّرًا خصوصًا بمونيه، وزاره في جيفرني سنة 1885. وفي أَواخر حياته مال في أَكثر لوحاته إِلى رسم المناظر الطبيعية لا في أُوروبا وحسب بل في إِنكلترا وأَميركا، كما رسم أَصدقاء مقربين منه، بينهم خصوصًا الكاتب البريطاني الأَميركي هنري جيمس (1843-1916)، ورجل الأَعمال الأَميركي جون روكْفلر (1839-1937).
- وليام ميريت تشايز (1849-1916)
ولد في مدينة نينوى (ولاية إِنديانا)، وانتقل لاحقًا إِلى ميونيخ يعمل فيها فترة ثم عاد إِلى أَميركا يزاول مسيرته التشكيلية، ليصبح أَحد أَبرز وأَشهر الرسامين الانطباعيين الأَميركيين، مع أَنه لم يتخلَّ عن مقارباته المحافِظة خصوصًا في رسم الوجوه والطبيعة الصامتة. كما رسَم وجوه نساء من الطبقة الميسورة، وعددًا من لوحات الأَسماك، ولوحات الحدائق العامة (خصوصًا في نيويورك) ما فتَح له آفاقَ الطبيعة على أَوسع مساحاتها المدينية. وأَيًّا يكن أُسلوبه الذي شاءَه متفرِّدًا متميِّزًا، بقي بأَلوانه ورُقشاته انطباعيًّا في العُمْق.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.