سعَيِّد لا يَترُكُ أيَّ شيءٍ للحَظِّ أو المُصادَفة في الانتخاباتِ الرئاسِيَّةِ التونسية
عندما تولّى قيس سعَيِّد منصبه لأول مرة في العام 2019، لم يَكُن هناك ما يدعو للاعتقاد بأنَّ أستاذَ القانون السابق المُتَغطرس سيحاول تقويضَ العديد من المكاسب الديموقراطية في تونس، وسينجح في القيام بذلك، في ولايته الأولى. فلا عجب إذًا أن يَشعُرَ الكثير من التونسيين بالفزع والقلق إزاء احتمالية ولايةٍ ثانيةٍ له.
فرانسيسكو سيرانو*
عندما سارَ آلافُ الأشخاصِ في شارع بورقيبة، في وسط مدينة تونس، في 13 أيلول (سبتمبر) للاحتجاجِ على حُكمِ الرئيس التونسي قيس سعَيِّد، كانَ رَدُّ فِعلهِ الفوري على الاضطراب هو إلقاءَ اللومِ على المُحَرِّضين الأجانب.
منَ المُؤكَّدِ أنَّ حَجمَ الحَشد -الذي قدّرته تقاريرُ وسائل الإعلام المحلّية بين 2000 و3000 شخص- كان بعيدًا من جماهير الناس الذين أطاحوا على مدارِ أسابيع من الاحتجاجات الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي في العام 2011. كان هذا الإحتجاج صغيرًا حتى مُقارنةً ببعضِ الاحتجاجات العديدة التي هزّت البلاد من حينٍ لآخر في السنوات التي أعقبت الثورة التي أطلقت في بداياتها الديموقراطية قبل أن تتعثّر.
مع ذلك، كانت مظاهرةُ منتصف أيلول (سبتمبر)، قبل أقلّ من شهر من الانتخابات الرئاسية التونسية التي ستجري في 6 تشرين الأول (أكتوبر)، أكبرَ تعبيرٍ عن المُعارَضة لحُكم سعَيِّد الذي ازداد استبداديةً بشكلٍ كبير في العامين الماضيين. وقد هتفَ المتظاهرون “ليرحل الديكتاتور سعَيِّد”، وحملوا لافتات تُطالبُ بإجراءِ انتخابات نزيهة.
لقد أبرَزَت المُظاهرةُ حقيقةً صارخة: بعدَ سنواتٍ من الادِّعاء للتونسيين بأنه الوحيدُ القادرُ على “إنقاذ تونس”، يترشّحُ سعَيِّد لإعادة انتخابه من دونِ أن يُحقِّقَ الكثير من وعوده خلالَ فترةِ وجوده في منصبه.
على الرُغمِ من تركيزِ قدرٍ مُتزايد من السلطة بين يديه، لم يتمكَّن سعَيِّد من حلِّ العديدِ من القضايا التي ابتُلِيَت بها تونس لسنوات، بما في ذلك البطالة والركود الاقتصادي وتراكُم الديون الحكومية. ولم يَصِغ أو يُشَكِّل الرئيسُ بَعد أيَّ استراتيجيةٍ واضحة طويلة الأجل لتونس تتجاوز خطاباته الشعبوية اللاذعة المُعتادة.
والأمرُ الذي لا يُساعدُ الوضعَ الراهن هو أنه منذُ تنفيذِ انقلابه الدستوري في صيف العام 2021، أقال سعَيِّد ما يقرب من 100 مسؤول حكومي، بمن فيهم رؤساء حكومة ووزراء وولاة. ويعني دوران وتغيير الموظفين المُنتظم هذا، أنَّ المعيارَ الوحيد للتعيين في هذه المرحلة في أيِّ منصبٍ رفيعِ المستوى في الحكومة أو البيروقراطية الحكومية هو الولاءُ لسعَيِّد.
وتبدو نتائج أسلوب الإدارة الفوضوي هذا واضحة. لم يتم إطلاقُ أيّ إصلاحاتٍ هيكلية تقريبًا لإنعاش الاقتصاد المُتعثّر في البلاد. ولا تزالُ العشراتُ من الشركاتِ المملوكة للدولة غارقةً في الديون وتُعاني من تضخُّمٍ في عدد الموظفين. وفي حين سمح التحسُّن الطفيف في الميزان التجاري للبلاد وفي احتياطات النقد الأجنبي –والتي تمَّ تأمينها من خلال زيادة أعدادِ السياح الوافدين وصادرات زيت الزيتون القياسية- للاقتصاد التونسي بالصمود والبقاء على قيد الحياة على الرُغمِ من رَفضِ سعَيِّد لخطة الإنقاذ التي اقترحها صندوق النقد الدولي، فإنَّ التهديدَ بالتخلُّفِ عن سداد الديون السيادية لا يزال قائمًا.
في هذا العام، سوفَ تحتاجُ تونس إلى تمويل نحو 36% من الموازنة العامة من خلال الديون. كان معدّلُ البطالة أعلى من 16% في الربع الأول من العام 2024، وفقًا لأحدث الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء التونسي، وأعلى من 23% لخريجي الجامعات. وغالبًا ما يصعب العثور على السلع الأساسية على رفوف المتاجر الكبرى، وعلى الرُغم من التباطؤ، ظلّ التضخم الغذائي عند 8.5% في آب (أغسطس) الفائت.
يُدركُ سعَيِّد كلَّ هذا، وحقيقةُ أنَّ حياةَ التونسيين العاديين لم تتحسَّن في السنوات الخمس الماضية تعني أنه لا يستطيع الترشُّح على أساسِ سجلِّه في انتخابات الشهر المقبل. بدلًا من ذلك، اختارَ مَنعَ أيِّ مُنافسةٍ سياسية حقيقية ضدّه.
ومن عجيب المُفارقات أن هجماته اللفظية ضد أولئك الذين يُعارضونه اليوم تعكُسُ تلك التي استخدمها بن علي والعديد من الدكتاتوريين الإقليميين الآخرين الذين رَؤوا شرعيتهم تتزعزع –وفي بعض الحالات انتهى حكمهم على نحوٍ مُماثل- خلال الانتفاضات العربية التي بدأت في تونس قبل أكثر من عقد من الزمان. وهذا يقول الكثير عن كيفية رؤية سعَيِّد لسجلّه وخياراته للمضي قُدُمًا.
بعدَ فترةٍ وجيزة من انتخابه ديموقراطيًا في العام 2019، بدأ سعَيِّد في توجيه الكثير من طاقاته نحو تفكيكِ الديموقراطية الناشئة في تونس. منذ تنفيذ انقلابه الذاتي في صيف العام 2021 بإغلاق البرلمان وإقالة حكومته، نجح سعَيِّد في تمرير دستورٍ جديد، وتقليصِ سلطة البرلمان ومَلَأَهُ في الغالب بأتباعه.
ولإسكاتِ أيِّ انتقاد، استغلَّ القضاءَ لمُلاحقة المُعارضين السياسيين والصحافيين والمحامين ونشطاء حقوق الإنسان. فمنذ العام 2022، وُجِّهَت اتهاماتٌ إلى أكثر من 70 من منتقديه أو احتُجِزوا تَعَسُّفيًا بسبب عددٍ كبيرٍ من الجرائم في موجاتٍ مختلفة من الاضطهاد القضائي.
وقد تمَّ إسكاتُ العديد باستخدامِ سلاحِ سعَيِّد المُفَضَّل الجديد ضد المعارضة: المرسوم 54، الذي صدر في العام 2022، لمُعاقبة ما يُسمّى بالأخبار الكاذبة بالغرامات والسجن.
وأخيرًا، في 11 و12 أيلول (سبتمبر)، تمَّ اعتقالُ 97 عضوًا من حزب “النهضة”، الحزب السياسي الإسلامي المعتدل. وكان حزب “النهضة”، أحد الأحزاب الرئيسة في البرلمان وجُزء من معظم الحكومات في العقد الذي أعقب ثورة 2011، هدفًا مُفضَّلًا لسعَيِّد. ويقضي زعيمه ورئيس البرلمان السابق حتى انقلاب سعَيِّد الذاتي، راشد الغنوشي البالغ من العمر 83 عامًا، بالفعل عقوبة بالسجن لمدة 15 شهرًا بعد اعتقاله في نيسان (أبريل) 2023 بتهمة التحريض على الكراهية، بعد انتقاده لنظام سعَيِّد.
إنَّ التحرُّكَ لتحييدِ أكبرِ عددٍ مُمكنٍ من قيادات “النهضة” قبل الانتخابات الرئاسية هو جهدٌ شفاف لمنعِ أيِّ احتجاجاتٍ قبل أو بعد الانتخابات. كما يهدفُ أيضًا إلى تقليصِ أيِّ انتقادٍ لشرعيةِ سعَيِّد، حتى مع انخراطه في مهزلةٍ انتخابيةٍ للبقاء في السلطة.
لقد أدّى هجوم سعَيِّد على الديموقراطية إلى استيلائه على مؤسّسات تتجاوز القضاء وقوات الأمن. أشرفت هيئة مراقبة الانتخابات في البلاد، الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، على انتخاباتٍ نزيهة وشفافة لسنوات بعد ثورة 2011. لكن في عهد سعَيِّد، تُساعد هذه الهيئة الآن على ترسيخ الاستبداد في تونس.
منذ العام 2022، تمَّ اختيار أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من قبل سعَيِّد، وأثبتت الهيئة الانتخابية أنها مدينة بالولاء الكامل للرئيس. من بين المرشحين الرئاسيين الأربعة عشر الذين سعوا إلى الترشُّح في انتخابات الشهر المقبل، صادقت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فقط على ترشيحات سعَيِّد وسياسيَين آخرَين: زهير مجزاوي، الذي يُعتبرُ مُقرَّبًا من الرئيس، وعياشي زملي.
تزعمُ أحزابُ المعارضة وجماعات المجتمع المدني أنَّ المرشَّحِين الآخرِين رُفِضوا لأسبابٍ تعسّفية. على سبيل المثال، رفضت وزارة الداخلية منح العديد منهم نسخة من سجلاتهم الجنائية الخاصة – وهي إحدى الوثائق اللازمة للترشُّح.
تَعَزَّزَ الانطباعُ بأنَّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ووزارة الداخلية تعملان على إفساحِ الطريق أمام سعَيِّد لإعادةِ انتخابه بعد بضعة أسابيع، بعدما طعنَ العديد من المُرشّحين الذين رفضتهم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في قرارها أمام المحكمة الإدارية في تونس. وتلقّى ثلاثةٌ منهم -عماد الدايمي ومنذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي- حكمًا إيجابيًا. لكن على الرُغم من أمر وقرار المحكمة الإدارية بإعادة قبولهم كمُرشّحين، فقد رفضت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ببساطة الامتثال. في 20 أيلول (سبتمبر)، ذهب 30 نائبًا برلمانيًا متحالفين مع سعَيِّد إلى أبعد من ذلك، حيث اقترحوا مشروعَ قانونٍ عاجل من بين تغييراتٍ أخرى على قانون الانتخابات، من شأنه أن يُجرّدَ المحكمة الإدارية من أيِّ سلطة إشرافية في ما يتعلق بالنزاعات الانتخابية. ومن المرجح أن تمرَّ التغييرات قبل الاقتراع، وسط الحملة الانتخابية. وفي ظل هذه الظروف، لا يوجد سببٌ لتوقع أن يكونَ الاقتراع في 6 تشرين الأول (أكتوبر) حرًّا ونزيهًا.
الواقع أنَّ سعَيِّد قد أوضحَ أنه سيفعل أيَّ شيءٍ للبقاء في السلطة. لكنَّ الجانبَ الأكثر إرباكًا في حُكمه هو أنه بعد مرور خمس سنوات على تولّيه الحكم، أصبح من الصعبِ فَهم الدوافع الحقيقية التي دفعته إلى ذلك. من الواضح أنه يسعى جاهدًا إلى إبقاءِ كلِّ عمليةٍ لصُنع القرار تحت سيطرته، ولكن من غير المؤكد ما إذا كان هذا راجعًا إلى تعطُّشه إلى السلطة المُطلقة أو مجرَّدَ شعورٍ مُبالَغ فيه بقدراته الذاتية.
لا يزال من غير الواضح ما إذا كان المجتمع المدني التونسي وأعضاء المؤسّسات الحكومية الأساسية سوف يثورون لمعارضته. لكن احتمالات الاضطرابات الاجتماعية في مواجهة القمع المستمر من قبل النظام سوف ترتفع خلال الأسابيع المقبلة.
عندما تولّى سعَيِّد منصبه لأول مرة في العام 2019، لم يَكُن هناك ما يدعو للاعتقاد بأن أستاذ القانون السابق المتغطرس سيحاول تقويضَ العديد من المكاسب الديموقراطية في تونس، وسينجح في القيام بذلك، في ولايته الأولى. فلا عجب أن يَشعُرَ الكثير من التونسيين بالفزع والقلق إزاء احتمالية ولايةٍ ثانية له.
- فرانسيسكو سيرانو هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي برتغالي. نُشر أحدث كتاب له في العام 2022 بعنوان ” أنقاض العقد” (As Ruínas da Década)، عن الشرق الأوسط في العقد الذي أعقب الثورات الشعبية في العام 2011.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.