روسيا ليست وَحدَها التي تُريدُ أن يعرفَ العالم أنّها تستطيعُ استخدامَ الأسلحةِ النووية
كابي طبراني*
في الأسبوع الفائت، أعلن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف أنَّ بلادَهُ “تُعيدُ النظرَ” في عقيدتِها النووية، التي تُعبّرُ عن نهجِ روسيا في التعامُلِ مع الاستخدامِ المُحتَمَلِ لترسانتها النووية. ويُمثِّلُ هذا أحدثَ مثالٍ حيثُ يَجِدُ العالمُ نفسه قلقًا ومتوتّرًا جرّاء تصريحاتِ أحدِ المسؤولين الروس بشأنِ الأسلحة النووية.
إنَّ السياسةَ النووية الحالية في روسيا تقومُ على الرَدعِ بطبيعتها، حيث تُحَدِّدُ على أنَّ مثلَ هذه الأسلحة لن تُستَخدَمَ إلَّا رَدًّا على هجومٍ نووي أو تهديدٍ وجودي للدولة. والقلقُ الذي أثارته تصريحات ريابكوف هو أنَّ المُراجَعةَ المُقبلة سوف تُخفِّضُ هذه العتبة، ربما لتشمل الاستخدامَ النووي أوّلًا أو استخدامَ الأسلحة النووية في مواجهةِ تهديدٍ غير وجودي، مثل تفجير أسلحة نووية أقل قوة ــأو “تكتيكية”ــ لمواجهةِ هجومٍ عسكريٍّ تقليدي على الأراضي الروسية. ويبدو السيناريو الأخير سببًا معقولًا لإعادةِ النظر، لأنَّ تصريحاتَ ريابكوف تأتي في الوقت الذي تُواصِلُ القوّات الأوكرانية تَقَدّمها في منطقة كورسك الروسية.
هذه ليست المرّةُ الأولى في السنواتِ الأخيرة التي تدقُّ فيها روسيا ناقوسَ الخطر بشأنِ الاستخدامِ النووي. ويبدو العالمُ الآن أقرب حقًّا إلى الهاوية النووية أكثر من أيِّ وقتٍ مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962، عندما دفعَ الخلافُ حولَ وجودِ رؤوسٍ حربية نووية في كوبا كُلًا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى حافةِ إطلاقِ ترسانتَيهما بشكلٍ استباقي على بعضهما البعض.
لكنَّ قرارَ روسيا بمُراجعةِ عقيدتها النووية ليس الوحيد في هذا المجال رُغمَ أنه الأحدثُ بالنسبة إلى اتّخاذِ دولةٍ مثل هذه الخطوة عَلَنًا. فقد أجرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مُراجَعةً، بتكليفٍ من الكونغرس، لوَضعِ الترسانة النووية الأميركية في العام 2022. وفي وقتٍ سابقٍ من هذا العام قامت بتحديثِ “إرشاداتِ الإستخدام النووي” في حالةِ وقوعِ مُواجَهاتٍ نووية مُنَسَّقة مع روسيا والصين وكوريا الشمالية. وعلى الرُغمِ من تَعهُّدِ بايدن في العام 2020 بأنه سيَضَعُ مَوضِعَ التنفيذ اعتقاده بأنَّ “الغَرَضَ الوحيد من الترسانة النووية الأميركية يجب أن يكونَ الردع -وإذا لزم الأمر، الانتقام- من هجومٍ نووي”، إلّا أنّهُ وافقَ في النهاية على عقيدةٍ نوويةٍ أميركية تسمحُ بالاستخدام النووي أوّلًا، بما في ذلك ضدّ التهديدات غير النووية، على الرُغمِ من أنَّ سقفَ الاستخدامِ مُرتَفِعٌ.
من المعروف أنَّ العقائدَ النووية هي مجموعةٌ فرعية من العقيدةِ العسكريةِ الأوسع، والتي تُعبِّرُ عن الوضعِ العسكري العام وكذلك النهجِ الاستراتيجي والتكتيكي لخَوضِ الحرب للقوات المسلّحة للدولة. قد تكونُ العقائدُ النووية ذاتَ طبيعةٍ هجومية، بمعنى أنها تهدفُ إلى نَقلِ المعركة إلى العدو، أو ذات طبيعة دفاعية، بمعنى أنها تهدفُ إلى الاحتفاظِ بالأرضِ وصَدِّ هجماتِ العدو. وتحقيقًا لهذه الغاية، فإنَّ العقائدَ النووية، مثل العقائد العسكرية بشكلٍ عام، تتجاوَزُ مجرّدَ اختيارِ الهدفِ والتخطيطِ للطوارئ. فهي عبارةٌ عن بياناتٍ عامة حولَ كيفيةِ ومتى تنوي دولةٌ ما استخدامَ أسلحتها.
لكنَّ المُراجعةَ الأخيرة لمثلِ هذه العقائد تُثيرُ سؤالًا أساسيًا: ما هي الفائدة من العقائد النووية، ولماذا تُكلِّفُ الدولُ أنفسها عناءَ مُراجعتها؟ هل هي مُجرَّدُ عملٍ بيروقراطي مُرهِقٍ لن يكونَ له في نهايةِ المطاف تأثيرٌ يُذكَرُ على كيفيةِ تعامُلِ الدولة وقادتها مع أزمةٍ فعلية؟
أحدُ الأجوبة يُرَكِّزُ على فكرة “الإشارات”، وهي فكرةٌ شائعةٌ بين خُبراءِ العلاقات الدولية والمُنَظِّرين لها. فالدولُ تصوغُ وتنشرُ العقائد، أو المبادئ، النووية لتوضيح نيّتها ومصداقيتها في استخدامِ مثلِ هذه الأسلحة في ظلِّ ظروفٍ مُحَدَّدة. علمًا أنَّ عقيدة “عدم الاستخدام أوّلًا” لا تزالُ تنصُّ بشكلٍ أساس وتقوم على أنَّ الأسلحة النووية يُمكنُ استخدامُها وسوفَ تُستَخدَم، فقط ردًّا على هجومٍ نووي من قِبَلِ خصم.
الواقع أنَّ صياغةَ ونشرَ عقيدةٍ نووية هما وسيلةٌ لجعلِ الأمرِ أكثر تصديقًا بأنَّ الدولةَ سوفَ تستخدمُ الأسلحة النووية وفقًا لهذه العقيدة. وهذا يخلقُ في الأساس ما يُسَمّيه خبراء العلاقات الدولية “تكاليف الجمهور” بالنسبة إلى الزعماء، حيث تُلزِمهم إمّا باستخدامِ الأسلحة بطريقةٍ تتفق مع العقيدةِ المُعلَنة أو مواجهةِ استنكارِ وغضبِ ناخبيهم لعدمِ وفائهم بكلمتهم. ونتيجةً لهذا فإنَّ العقائد النووية، وخصوصًا المُراجَعة المُعلَنة علنًا لهذه العقائد، تعملُ على تعزيزِ مصداقيةِ التهديدِ باستخدام الأسلحة النووية في ظلِّ ظروفٍ مُعيَّنة.
المشكلةُ في مثلِ هذه الحجّة هي أنها لا تتعامَلُ مع مشكلةٍ أساسيةٍ تتعلَّقُ بالأسلحة النووية: فتدميرُها المُروِّعُ وخطرُ التصعيدِ يجعلان استخدامها غير جديرٍ بالثقة بطبيعته. قد تزعَمُ دولةٌ ما أنها لن تتردّدَ في أن تكونَ أوَّلَ مَن يستخدِمُ سلاحًا نوويًا، ولكن هل يكون زعيمها على استعدادٍ حقًّا للكَبسِ على الزِرّ في أزمة، مع العلمِ أنَّ ذلك قد يَحمُلُ إمكانية الانتقام النووي؟ وعلى الجانب الآخر، هل تشنُّ دولةٌ تعرَّضَت لضربةٍ نوويةٍ ضربةً نووية انتقامية، علمًا أنَّ ذلك من المُرجَّحِ أن يؤدّي إلى مزيدٍ من التصعيد؟
وهناكَ تفسيرٌ آخر لوجودِ العقائد النووية يَتَّسِمُ بقدرٍ من التناقُض: فهو لا يتعلّقُ باستخدامِ الأسلحة النووية على الإطلاق، بل إنه يتعلّقُ بوَضعِ حدودٍ لاستخدامها، بهدفِ إعادةِ ترسيخِ دورِ الأسلحةِ التقليدية. ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك عندما تبنّت إدارةُ الرئيس الأميركي آنذاك جون كينيدي سياسةَ “الرَدِّ المَرِن” في العام 1961 كبديلٍ من سياسةِ “الانتقامِ الشامل” التي فَضَّلتها إدارةُ سلفه الرئيس السابق دوايت أيزنهاور.
كانت سياسةُ “الانتقامُ الشامل” تنصُّ على أنّهُ في حالةِ وقوعِ هجومٍ سوفياتي ضدّ الولايات المتحدة أو حليفٍ لها، سواءَ بالأسلحة التقليدية أو النووية، فإنَّ واشنطن سوفَ تردُّ بقوّةٍ ساحقة، بما في ذلك استخدام ترسانتها النووية. لكنَّ التطوُّرَ السريع لتكنولوجيا الصواريخ العابرة للقارات وأنظمة الإطلاق في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين كانَ يعني أنَّ سياسةَ “الانتقام الشامل” من شأنها أن تضمَنَ “التدميرَ المُتبادَل المُؤكَّد”: إذا شنّت الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي هجومًا نوويًا، فإنَّ كلا الجانبَين مُسلَّحان بما يكفي من أسلحة الضربة الثانية النووية لإبادتهما.
وقد أدّى هذا إلى تقويضِ مصداقيةِ عقيدة “الانتقام الشامل”، ومعه الردع النووي الأميركي. كانت إدارةُ كينيدي راغبةً في الالتفاف حولَ هذا الجمود الناجم عن العقيدة من خلال التوضيح بأنَّ الأسلحةَ التقليدية لا تزالُ خيارًا، على أملِ استعادةِ مصداقيةِ التهديدَين الرادِعَين.
في حين أنَّ الغرضَ من العقائد النووية ليس واضحًا دائمًا، فإنَّ ما هو واضحٌ هو أنّها تُشَكِّلُ نقيضًا رئيسًا لفكرةِ “المُحرَّمات النووية”، بمعنى فكرة وجودِ حظرٍ مِعياري عالمي ضدّ استخدامِ الأسلحة النووية، وخصوصًا الاستخدام أوّلًا. إنَّ الفكرةَ القائلة بأنَّ استخدامَ الأسلحة النووية أمرٌ يتجاوزُ الأخلاق إلى الحدِّ الذي يجعل عدم استخدامها هو “القاعدة” المعيارية من الصعب التوفيق بينها وبين قيامِ الدول بتقديمِ بياناتٍ واضحة حول متى سوف تستخدم هذه الأسلحة.
لكن، في حين أنَّ العقائد النووية تُشكّلُ نقيضًا للمحرّمات النووية، فإنها لا تُبطِلُ هذا المُحرَّم تمامًا. الواقع أنَّ تشارلي كاربنتر، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس أمهرست أشارت في مقال لها أخيرًا في “واشنطن بوست” إلى أنَّ تهديدَ روسيا بالأسلحة النووية ربما عزّزَ المحرّمات بشكلٍ غير بديهي من خلالِ جعلِ احتمال الحرب النووية أكثر وضوحًا لعامة الناس. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لأنه، كما كتبت كاربنتر، “غالبًا ما تكون المعايير أكثر قوةً عندما يتمُّ تحدّيها أو يُنظَرُ إليها على أنها ضعيفة، لأن هذا هو الوقت الذي يظهر فيه حُماة المعايير ويزيدون من بروزهم من خلال تذكير الجميع بالقواعد”.
لا شكَّ أنَّ المخاطرَ المُدمّرة التي تُشكّلها الأسلحة النووية لا يُمكنُ إنكارها. ولهذا السبب عمل المدافعون منذ نشأتها على السيطرة عليها بل وحتى العمل للقضاء عليها في نهاية المطاف. لكننا بعيدون كل البُعدِ من هذه النقطة، وهو الأمر الذي يوضّحه لنا استمرار وجود وتحديث العقائد النووية.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @GabyTabarani