ضَوءَان صحافيَّان في زمن العتمة
هنري زغيب*
فيما تَغرق صحافتُنا اللبنانية وسْط مستنقَع الصعوبات من كل نوع، بين احتجابٍ وتَعثُّر ومكابَدة ومعانَدة للبقاء، وتتناثَر موادُّها على منصات الوسائط الإِلكترونية، تبقى لنا بعدُ مناراتٌ تقاوم الريح كي لا ينطفئ نورُ المنارة.. أَكتُب هذا وأَمامي ضَنى العزيزة نايلة تويني ونخبةِ رفاقها من الزملاء في “النهار” للاستمرار في مقاومة العتمة بمجموعة “النهار” الورَقية والإِلكترونية ما يجعل “النهار”، حين غدًا يُكتَب تاريخُ الصحافة اللبنانية، نموذجًا للعناد اللبناني الناجح مُواجهًا صعوباتِ العصر القاصمة..
أَكتب الآن وأَمامي تجربتان صحافيتان تجعلان المتشائمين والمستسلمين والنقَّاقين فطرًا مسمومًا في فترتنا الراهنة.. والتجربتان ضَوءَان ساطعان يجعلان لبنان نورًا دائمًا لا تُطفئُه عوادي دهره الشرسة..
- التجربة الأُولى يقودُها الصديق رمزي أَمين الحافظ في مجلته الفصلية بالإِنكليزية “غالري” Gallery المتخصصة بالفنون الجميلة في لبنان.. مَن يطالعها يشعر أَن لبنان في قمة نهضته وازدهاره الفني والثقافي ولا يصدِّق أَن هذه المجلة تصدر وسْط الانهيار في كل قطاع.. وهي أَنيقة بأَعلى ما في الفن الطباعي من إِخراج وجمال، وما زالت منذ عددها الأَول (خريف 2018) تواظب على الصدور مهما عنُفَت عواصفُ دمارٍ يسبِّبُها لنا “بيت بو سياسة” المتخصصون في أَخْذِنا إِلى الدمار.. في العدد الجديد (التاسع عشر – صيف 2024) ملفٌّ خاص عن أَمين الباشا في 20 صفحة بهيَّة الأَناقة نصًّا وَصُورًا لمجموعةٍ كبيرة من لوحات الباشا تُعيده إِلى زمنه حين كان قُطْب الساحة التشكيلية.. وفي العدد أَيضًا إِطلالة على متحف الرائدة سلوى روضة شقير في بلدة رأْس المتن، وصفحات أُخرى لزوغة معارض في العاصمة وخارجها توحي بأَن لبنان في قمة نهضته التشكيلية لدى صالات عرض حافلةٍ بمعارض رسامين ونحاتين كما في أَزهى أَيام الستينات والسبعينات.. وفي العدد كذلك نتائج “مسابقة المجلة” وقاطفي جوائزها الست في ستة قطاعات فنية مختلفة..
- التجربة الصحافية الأُخرى تتولَّاها المهندسة كريستيانّ طويل في مجلتها الفصلية (الرقمية) بالفرنسية Côté Déco. وهي متخصصة بالديكور، عالية الأَناقة الإِخراجية والجمالية اللائقة بمجلة في هذا الاختصاص (صدر عددها الأَول في خريف 2023).. أَمامي عددها الخامس (خريف 2024) وهو في 108 صفحات.. على غلافها منظرٌ أَخَّاذٌ من بلدة رأْس المتن، وفي الداخل مقال خاص كتبَتْه رئيسة التحرير كريستيانّ طويل عن متحف سلوى شقير الذي أَنشأَتْه في هذه البلدة ابنتُها هالة وزوجها عُمَر غرزالدين.. وفي العدد مطالعاتٌ وأَنشطة وإِضاءات على أَعمال جديدة، بينها ريشةُ زاد ملتقى الذي صَعَقَهُ غيابُ والدَيه (أَنطوان ولطيفة) بفترة حفنة أَسابيع، فترجمَتْ الغيابَ ريشتُه صراخًا حافيًا في نفق الحياة.. وتتنقَّل صفحاتُ العدد على صُوَرِ بيوتٍ وحدائقَ لبنانية أَنيقة يُتوِّجها الفن المعماري ديكورًا في الداخل وهندسةً من الخارج، في دير الحرف وبيت مري وعبَيْه… النصوص جميعها لكريستيانّ طويل، استعارت لجمال موضوعها ذكْرَ مائيات مصطفى فروخ وأَبياتًا من شارل قرم، فتكاملت الهوية اللبنانية في ثنايا المجلة.. ولأَن الهويةَ الوطنية أَصيلةٌ في وجدان كريستيانّ طويل، بسطَت على عرض الغلاف (منظر في رأْس المتن) عبارة “جبَلُنا… ما أَجمَلَهُ!” للدلالة على سُطُوع الهوى اللبناني في نبْض رئيسة التحرير.
هاتان إِذًا تجربتان مُضيئَتان في عتمة ما يُحيط بنا من قَرفٍ سبَّبَه لنا سياسيون شوَّهوا صورة لبنان في العالَم، إِنما يبقى لنا مَن يعاند العتمةَ بمقاومة ثقافية عالية النبرة والحضور، بها سينتَصر لبنان في ذاكرة التاريخ.. وكونُ المجلتَين بالإِنكليزية والفرنسية، تنبسطان على مساحة دُوَليَّة واسعة لقرَّاء من العالَمَين الأَنكلوفوني والفرنكوفوني يرَون فيهما لبنان غاردينيا رائعة تقدِّم للعالَم كلِّه جماليا لبنان.
رمزي الحافظ وكريستيانّ طويل: تحية إِجلال لكُما.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).