النظامُ ما بَعد الأميركي بدأ بالفعل؟

كابي طبراني*

في الأسابيع التي تَلَت قرار الرئيس جو بايدن بعدمِ الترشُّحِ لإعادةِ انتخابه، سَرَت موجةٌ من الأمل بين صنّاعِ السياساتِ القلقين بشأن استعدادِ واشنطن للحفاظِ على التزاماتها الأمنية العالمية. ورُغمَ أنَّ استطلاعاتَ الرأي تُشيرُ إلى أنَّ المعركة بين المرشَّحة الجديدة للحزب الديموقراطي، نائبة الرئيس كامالا هاريس، والرئيس السابق دونالد ترامب ستظلُّ مُحتَدِمةً ونتائجها مُتقاربة، فإنَّ ظهورَ تَحَدٍّ انتخابي ديموقراطي إنفتاحي قاابلٍ للفوز على نموذجِ ترامب الجمهوري الانعزالي الذي يتبنّى شعار “لنجعل أميركا عظيمةً مُجَدَّدًا”، أعادَ إحياءَ التفاؤل بين أولئك الذين ما زالوا مُقتنعين بأنَّ الزعامةَ الأميركية وحدها قادرةٌ على حلِّ الأزمات الجيوسياسية الخطيرة. مع ذلك، حتى مع استمرارِ كبارِ الشخصيّات في واشنطن في التأكيد، كما فعل السيناتور الجمهوري جون كورنين أخيرًا، على أنَّ “لا شيءَ يَحدُثُ في العالم بدون الزعامة الأميركية”، فإنَّ الطبيعةَ غير الفعّالة لاستجابةِ إدارة بايدن للصراعات المُسَلَّحة التي قد تُزعزِعُ استقرارَ النظامِ العالمي تُشيرُ إلى مدى تضاؤلِ ​​نفوذِ الولايات المتحدة بالفعل في العديدِ من أنحاء العالم.

كانَ تراجُعُ قدرة الحكومات الأميركية على تشكيلِ النتائجِ في الصراعات الرئيسة واضحًا فعليًّا قبل فترةٍ طويلةٍ من تولّي الرئيس بايدن منصبه في كانون الثاني (يناير) 2021. في حين شهدت رئاستا جورج بوش (الأب) وبيل كلينتون في التسعينيات الفائتة نصيبهما من الإخفاقات في السياسة الخارجية، فقد ظلّت واشنطن قادرةً على مُمارسةِ نفوذٍ حاسمٍ على معظمِ النقاطِ الساخنة الجيوسياسية في العالم. ففيما أدّى انهيارُ الاتحاد السوفياتي إلى دَفعِ موسكو إلى الفوضى، وانشغلت بكين بالتركيز على النموِّ الاقتصادي، كان اهتمامُ زعماء الاتحاد الأوروبي مُنصَبًّا على بناء مؤّسّساته المُعقّدة. لكن بمرورِ الوقت، بدأت الولايات المتحدة تُعاني وتُكافِحُ لموازَنةِ حملاتِ مكافحة التمرّد الفاشلة في العراق وأفغانستان مع المنافسة المتزايدة بين القوى العظمى، من الصين وروسيا، مما عنى أنَّ قدرةَ واشنطن على التعامُل مع كلِّ صراعٍ كبيرٍ بدأت تنخفض.

هذا التراجُعُ التدريجي للنفوذِ الأميركي خارج المجالات الأساسية للتركيز الاستراتيجي نادرًا ما يَظهَرُ في المناقشات الشرِسة في واشنطن بين أولئك الذين يعتقدون أنَّ الولايات المتحدة يجب أن تظلَّ مُنخرِطة بعمقٍ في الشؤون العالمية، وبين ما يُسَمى ب”المُقَيِّدين” أو “المُكبِحين” على اليسار والجمهوريين الإنعزاليين (ماغا) على اليمين الذين يُشكّكون في الالتزامات الأمنية خارج حدود أميركا. ومع تركيزِ الاهتمامِ على الصراع بين إسرائيل وإيران ووكلائها، وحرب أوكرانيا ضدّ روسيا، والضغوط الصينية في شرق آسيا، لم يُلاحِظ الكثيرون من صنّاع السياسات والمعلّقين في واشنطن كيف يُمكِنُ للصراعات المتصاعِدة الأُخرى أن تُعطِّلَ، بمرور الوقت، العُقَدَ الرئيسة للتجارة والأمن العالميين، وهم يكافحون لفَهمِ مدى ضآلة النفوذ الذي يتمتّعون به الآن في العديد من المناطق العالمية الرئيسة.

كانت حدودُ قدرةِ الولايات المتحدة على التأثير في التطوّرات على الأرض في الصراعات المُزعزعة للاستقرار، أو ردودِ أفعالِ الدول المُنخرطة فيها، واضحةً بشكلٍ خاص مع الحروب الأهلية في ميانمار والسودان التي بالكاد تظهرُ في نشراتِ الأخبار الأميركية المحلّية. في كلتا الحالتَين، فَشلَ صنّاعُ السياسات الأميركيون المُنشَغِلون بالتطوّرات في أماكن أخرى في تَوَقُّعِ ديناميكيات التصعيد الناشئة ثم فشلوا في تطويرِ النفوذِ الاستراتيجي اللازم لكَبحِ جماح الجيوش والميليشيات الوحشية التي أدّى دعمها من دولٍ أخرى إلى توسيعِ الحروبِ المُدَمِّرة بسرعة.

هذه الإخفاقاتُ كانت واضحةً بشكلٍ خاص في التحضيرِ للصراع الحالي في السودان بين “قوات الدعم السريع”، بقيادة محمد حمدان دقلو (المعروف ب”حميدتي”)، والقوات المسلحة السودانية، بقيادة عبد الفتاح البرهان. قبلَ وقتٍ طويلٍ من انزلاقِ هذه الجهات الفاعلة إلى حربٍ أهلية، حاولَ الديبلوماسيون ومسؤولو الاستخبارات الأميركيون في كثيرٍ من الأحيان تشجيع المفاوضات، لكن جهودهم تجاهلها على الفور وسطاءُ السلطة السودانيون.

في تسعينيات القرن العشرين، لم تؤدِّ جهودُ كبارِ صنّاع السياسات في الولايات المتحدة ومُمارسةُ الضغطِ من خلالِ العقوبات على القادة السودانيين، الذين قدّموا ملاذًا آمنًا لشبكاتِ الإرهاب، إلى مشاركةٍ أكثر شمولًا مع الديناميكيات البُنيوية على الأرضِ التي أغرقت السودان في دوراتٍ مُتكرّرة من الثورات والحرب الأهلية منذ الاستقلال في العام 1958. وعلى الرُغمِ من أنَّ إدارةَ جورج بوش (الإبن) أنفقت بعضَ رأسِ المال السياسي للمُساعدة على تأمينِ استقلالِ جنوب السودان والضغطِ على النظامِ الاستبدادي الذي يُهيمن عليه الإسلاميون بقيادة الرئيس عمر البشير لكَبحِ جماحِ الميليشيات التي ارتكبت فظائعَ مروِّعة في منطقة دارفور، فإنَّ مثلَ هذه المبادرات كانت نتاجًا لارتفاعٍ قصيرِ المدى في الاهتمام الأميركي والذي تضاءلَ بسرعةٍ بمجرّدِ تَغَيُّرِ انتباه واهتمام الجمهور الأميركي إلى مسائل أخرى.

أصبحت نقاطُ الضعفِ في الديبلوماسية الأميركية تجاهَ السودان واضحةً مرّةً أخرى بعدَ الانتفاضةِ الشعبية التي أطاحت البشير في كانون الثاني (يناير) 2018. ورُغمَ أنَّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بذلا بعضَ الجهودِ لدَعمِ انتقالٍ مدني إلى الحكم الديموقراطي في الأشهر التي تلت ذلك، إلّا أَّنَّ هذه المبادرات واجهت صعوباتٍ في مواكبةِ الموارد الضخمة التي أنفقتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وروسيا وغيرها من الدول لتعزيز موقف “قوات الدعم السريع” أو موقف القوات المسلحة السودانية. وبحلولِ الوقت الذي تآمرَ فيه الفصيلان العسكريان للإطاحة بالحكومة المدنية في نيسان (أبريل) 2019، ما أدّى إلى اندلاعِ صراعٍ على السلطة أوصلَ البلاد إلى حربٍ أهلية بعد أربع سنوات، كان استعدادُ الدول المُهتمّة بهذا الصراع (السعودية، الإمارات وروسيا وغيرها) لمضاعفةِ الدَعمِ للفصائل العسكرية المُتنافسة قد أدّى إلى تهميشِ موقف الولايات المتحدة على الأرض.

كما أدّى عدمُ قدرةِ الرؤساء الأميركيين على التركيزِ على نقاطِ اشتعالٍ عدّة جيوسياسية في وقتٍ واحد إلى إخفاقاتٍ استراتيجية في ميانمار. كانت الانعزاليةُ سمةً أساسيةً للأنظمة العسكرية التي حكمت ميانمار منذ الاستقلال في أواخر الأربعينيات، لذا كانت خيارات الولايات المتحدة لتشجيع الإصلاح بعدَ الاحتجاجات الجماهيرية في العام 1988 محدودةً بالفعل. أعطى الدَعمُ من الصين للحكومة العسكرية في ميانمار، وعدم رغبة الهند في التدخُّل، النظامَ مساحة لتجاهُل تفضيلات الولايات المتحدة، ورَفض الاعتراف بنتيجةِ الانتخابات التي كانت ستُمكِّنُ زعيمة المعارضة “أونج سان سو كي” من تولّي السلطة في العام 1990. وعلى الرُغم من أنَّ الضغوط الاقتصادية الغربية حثّت النخبة الحاكمة على قبولِ الإصلاحات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين التي منحت حكومةً مدنية تحت قيادة “سو كي” بعضَ السيطرة على سياسة الدولة، إلّا أنَّ السرعة التي استولى بها الجيش على السلطة مرة أخرى في اللحظة التي شعرَ بتخفيفِ قبضته، أشارت إلى حدودِ قدرةِ واشنطن على التأثير في الديناميكيات البُنيوية الأساسية داخل النظام السياسي في ميانمار.

ورُغمَ أنَّ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فرضا عقوباتٍ على المجلس العسكري الذي أمَرَ باعتقال “أونج سان سو كي” في العام 2021، فقد أسقطَ صنّاع السياسات في واشنطن وبروكسل في البداية أيَّ أملٍ قريب الأمد لاستعادةِ الحُكم الديموقراطي في ميانمار. ونتيجةً لهذا، فوجئ صنّاع السياسات في الولايات المتحدة بالسرعة والنطاق اللذين تمكنت بهما حركة تمرّد شعبية متحالفة مع ميليشيات عرقية دينية راسخة من العثور على المجنّدين والأموال اللازمة لشنِّ عمليات عسكرية ناجحة في معظم أنحاء البلاد. وبعد أن خصّصوا اهتمامًا متقطِّعًا فقط لميانمار في أفضلِ الأحوال منذ نهاية عهد باراك أوباما، افتقرَ صنّاعُ السياسات في واشنطن إلى الوعي الظرفي الكافي بالتطوّرات على الأرض التي أشعلت شرارة انقلاب العام 2021 ثم أشعلت تمرُّدًا فعّالًا بشكل متزايد. والواقع أن التأثير الأوسع لهذا التمرّد يُعيدُ تشكيلَ الديناميكيات الجيوسياسية في منطقةٍ بالغةِ الأهمّية بالنسبة إلى الهند وكذلك الصين.

إنَّ إخفاقَ واشنطن في مواجهةِ الصراعات داخل ميانمار والسودان، التي تحوَّلت الآن إلى أزماتٍ جيوسياسية أوسع نطاقًا، هو نتاجٌ لتحوّلات طويلة الأمد في توازن القوى العالمي. وفي حين ستواصل واشنطن الاضطلاعَ بدورٍ حاسم في إدارة الصراعات التي تنطوي على منافسة القوى العظمى، مثل غزو روسيا لأوكرانيا، والتوتّرات بين إسرائيل وإيران، والحزم الاستراتيجي للصين في عهد شي جين بينغ، فإنَّ تأثيرَ الولايات المتحدة في العديد من الأجزاء الأخرى من العالم سوف يقتصرُ على البيانات الصحافية الديبلوماسية التي تُعبّرُ عن القلق الشديد.

سواءَ فازت كامالا هاريس أو دونالد ترامب في الإنتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، لم يَعُد بإمكانِ القوى العالمية الأخرى مثل الهند والصين والاتحاد الأوروبي أن تفترضَ أنَّ واشنطن راغبةٌ أو قادرةٌ على الاضطلاعِ بدورٍ نشطٍ في حلِّ بعض أخطر الأزمات الجيوسياسية في العالم. ومع بدء الصراع في السودان وميانمار في اجتياحِ الدول المجاورة، فإنَّ الجهودَ الرامية إلى تجنُّبِ المزيدِ من التصعيدِ ستتطلَّب مؤسّساتٍ إقليمية أكثر فعالية تتمتّعُ بالقدرة على تشجيعِ المفاوضات ورَدعِ المزيد من العنف. وحتى مع قلقِ العديد من المعلِّقين وصنّاع السياسات بشأن ما قد يتكشّفُ بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، فقد وصلَ بالفعل نظامُ ما بَعد الأميركي إلى معظمِ أنحاء العالم.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى