“وِحدة ألفا” السوفياتية في بيروت؟

مايكل يونغ*

إحدى القصص الخالدة من سنوات الحرب الأهلية اللبنانية هي كَيفَ تَمَكّنَ الاتحاد السوفياتي من تأمين الإفراج السريع عن ثلاثةٍ من دبلوماسييه المُختَطفين في بيروت، على النقيض من الولايات المتحدة، التي شهدت احتجاز رهائنها لسنواتٍ عديدة. إنَّ أولئك الذين يُكرّرون القصة، عادةً في وسائل الإعلام الأميركية أو الغربية، يُصوِّرون الطريقة السوفياتية على أنها “الطريقة الصحيحة للتعامُل مع الإرهاب”.

هذا هو ما حدث تقريبًا. تمَّ القبضُ على أربعةِ ديبلوماسيين سوفيات يخدمون في لبنان في حادِثَين مُنفَصلَين في أيلول (سبتمبر) 1985. وهم فاليري ميريكوف، وأوليغ سبيرين، وأركادي كاتكوف، وطبيب السفارة نيكولاي سفيرسكي. الجماعة التي أعلنت مسؤوليتها عن الحادث كانت تٌدعى “الجهاد الإسلامي”، والتي وصفها البعض بأنها واجهة ل”حزب الله”. واعتبرها آخرون مجرد “منظّمة هاتفية”، على حدِّ تعبير الأكاديمي ماريوس ديب. وكانت حركة “الجهاد الإسلامي” أعلنت سابقًا مسؤوليتها عن الهجمات الانتحارية التي استهدفت قوات مشاة البحرية الأميركية والمظلّيين الفرنسيين التابعين لقوة حفظ السلام المتعددة الجنسيات في لبنان في العام 1983، والتي أسفرت عن مقتل ما يقرب من 300 جندي. والآن، بدا الأمرُ وكأن هذه الجماعة الغامضة تعملُ على توسيع قائمة أعدائها من خلال استهداف ليس فقط الدول الغربية، بل وأيضًا مصالح موسكو.

المقال عن الحادث الذي نشرته صحيفة “واشنطن تايمز”، نقلًا عن وثيقةٍ رفعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السرية عنها بموجب قانون حرية المعلومات، كان بمثابة الأساس الذي استندت إليه التفسيرات الأميركية للحادث. لقد أبرزَ المقالُ حقيقةً مفادها أنَّ الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أصبحا الآن في القارب نفسه. واستشهدَ المقال بمسؤولٍ سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وهو راي كلاين، حين قال: “إنَّ الروس ليسوا أفضل حالًا منّا؛ [ولكنهم] سوف يكونون أكثر قسوةً ووحشية”. وبحلول هذا الوقت، كانت حركة “الجهاد الإسلامي” قد اختطفت العديد من الغربيين، بمَن فيهم الأميركيون بنيامين وير، وتيري أندرسون، وتوماس ساذرلاند، وجيريمي ليفين، ورئيس مكتب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام باكلي، فضلًا عن موظف الأمم المتحدة أليك كوليت، وهو مواطنٌ بريطاني. وكان المزاجُ السائد في الغرب هو أن الرئيس رونالد ريغان آنذاك حاول تأمين إطلاق سراح الأميركيين من خلال توريد الأسلحة إلى إيران، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى إثارة فضيحة “إيران-كونترا”.

في ظلِّ هذه الأجواء، لم يكن من المستغرب أن يبحثَ الأميركيون عن حلٍّ سحري لإطلاق سراح رهائنهم ومنع تكرار مثل عمليات الاختطاف هذه. والسبب في ذلك هو أن الديبلوماسيين السوفيات أُطلِقَ سراحهم بعد أسابيع قليلة من اختطافهم، على الرُغم من مقتل أحدهم، أركادي كاتكوف، على أيدي خاطفيه، ربما لأنه أُصيبَ بجروحٍ بالغة وأُصيبَ بتسمُّمٍ في الدم. ولكن ما الذي جعل هذه الخاتمة السريعة نسبيًا مُمكنة؟ في غضون أشهر، حاولت وسائل الإعلام تقديم إجابة.

بحسبِ صحيفة “جيروزالِم بوست”، في مقالٍ استشهدت به وكالة “يونايتد برس إنترناشونال” في السادس من كانون الثاني (يناير) 1986، لعبت المخابرات السوفياتية دورًا رئيسًا في تأمين إطلاق سراح الرهائن. وجاء في مقال الوكالة : “قالت الصحيفة إنَّ المخابرات السوفياتية اختطفت رجلًا لبنانيًا، وأخصته وأرسلت خصيتَيه المقطوعتَين إلى قريبه، وهو زعيمٌ أصولي رئيس. ثم هدّدت المخابرات السرية السوفياتية بأنَّ أفراد الأسرة الآخرين سوف يتمُّ التعاملُ معهم بالطريقة نفسها إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن السوفيات الثلاثة على الفور. وقالت الصحيفة إنَّ الأسيرَ المخصي قُتل برصاصةٍ في رأسه.

إلتقطَ هذه الرسالة بنيامين زيتشر، الذي كتب في صحيفة “لوس أنجليس تايمز” بعد بضعة أيام، تحت عنوانٍ كاشف: “وحشية المخابرات السوفياتية تُنقِذُ الأرواح، وإنسانيتنا سوف تخسر”. في مقاله، كرر زيتشر القصة عن المخابرات السوفياتية، مُشيرًا إلى أنَّ أعضاءَ أحد أقارب مسؤول “حزب ا”لله “أُرسِلت إليه مع تحذير بأنه سيفقُدُ أقارب آخرين بالطريقة نفسها إذا لم يتم إطلاق سراح الديبلوماسيين السوفيات الثلاثة المُتبقّين … على الفور. وتمَّ إطلاق سراحهم بسرعة”.

ستظلُّ هذه القصة عن الحَسمِ السوفياتي قائمة لعقود. في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، كرّرها دارين كافانو وكأنَّ التفاصيلَ أصبحت الآن لا تقبل الشك. في مقالٍ عن “وحدة ألفا” التابعة للمخابرات السوفياتية، وهي وحدة كوماندوز، استشهدَ كافانو بكتاب ماثيو ليفيت من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، حيث كتب ليفيت، “في إحدى الروايات، اختطفت المخابرات السوفياتية أحد أقارب رئيس منظمة احتجاز الرهائن، وقطعت أذنه، وأرسلتها إلى عائلته. وفي روايةٍ أخرى، اختطفت “وحدة ألفا” أحد أشقاء الخاطف، وأرسلت إصبعَين من أصابعه إلى عائلته في مظروفَين مُنفَصلَين”.

لقد كانت هناكَ أشلاءٌ بشرية كثيرة تَطيرُ في كلِّ مكان، وفي “مظاريف” مُتعدّدة. لكن الحقيقة هي أنَّ كلَّ هذه الروايات تبدو مُفبرَكة إلى حدٍّ كبير. لم يكن هناك تقطيعٌ للضحايا، ولم يتم إرسال “وحدة ألفا” لتحرير الديبلوماسيين، ولم تكن هناك أساليب سوفياتية وحشية يُمكِنُ أن تُنفّذها الولايات المتحدة الأكثر “إنسانية” في نهاية المطاف لتحرير رهائنها، ولم تكن هناك رصاصاتٌ فضّية.

في ذلك الوقت، كان الصحافيون الذين يعرفون لبنان جيدًا يُدركون تمامًا ما حدث بالفعل. فقد أشار جيم موير، في مقال كتبه في صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” في تشرين الثاني (نوفمبر) 1985، إلى أنَّ “كلَّ المؤشّرات تُشيرُ إلى أنَّ تحرير السوفيات يوم الأربعاء كانَ نتيجةً لجهودٍ خاصة بذلتها سوريا، الحليف الرئيس لموسكو في الشرق الأوسط، والميليشيات اللبنانية المحلّية الصديقة”. وكتبت نورا البستاني، التي كانت تعمل آنذاك في صحيفة “واشنطن بوست”، بعد تحرير الديبلوماسيين: “كانت هناكَ تقاريرٌ وأدلّة واسعة النطاق … تُفيدُ بأنَّ الاتحاد السوفياتي وسوريا، التي لديها آلافٌ عدة من القوات في لبنان والتي شعرت بالحرج الشديد بسبب الاختطاف، قد بدأتا جهدًا شاملًا لإطلاقِ سراحِ الرهائن”.

في مذكّراته، كتب فاسيلي كولوتوشا، الذي أصبح سفير الاتحاد السوفياتي في لبنان في أيار (مايو) 1986، “على مدى ربع قرن من الزمان منذ هذه المأساة، نُسِجَت حولها أساطيرٌ وهرطقاتٌ ونصف حقائق وحكايات مشوَّهة…” بما في ذلك “قطع رؤوس” وغير ذلك. ولكنَّ الواقعَ أثبت أنه أكثر دنيوية. فقد طلب الاتحاد السوفياتي من حلفائه في لبنان، وخصوصًا سوريا، ولكن أيضًا إيران، الضغطَ على الخاطفين، الذين سعوا إلى إنهاء حصار سوريا للإسلاميين السنّة في مدينة طرابلس في شمال لبنان. وأخيرًا، ردّ الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، حليف الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الأهلية في لبنان، على سؤالي حول ما إذا كان العنف قد استُخدِم لتحرير الديبلوماسيين بالسخرية.

وكما كتب كولوتوشا، فإنَّ التقارير التي تُفيدُ بأنَّ الاتحاد السوفياتي أنزل قوات خاصة في لبنان لتحرير الديبلوماسيين جعلت الأمر يبدو وكأنهم “أبطال أفلام هوليوود”. وبطريقةٍ ما، وَضَعَ السفير الراحل إصبعه على شيءٍ ما. في مواجهة المواقف المُعقَّدة والمُحبِطة في بلدان الشرق الأوسط المعقدة، كان المعلّقون الأميركيون على وجهِ الخصوص على مرِّ السنين مَفتونين باحتمالِ أن يسمحَ لهم العنف باختراقِ شبكات التعقيد التي يواجهونها بانتظام. وعندما تتعرّضُ الولايات المتحدة لزعزعة الاستقرار، كثيرًا ما نجد المُنتقدين الذين يصرّون على أنَّ إخفاقاتها ناجمة عن عدم بذل واشنطن ما يكفي من الجهد في التعامل مع هذه المواقف.

لا عجب إذن أن تكون الدولة التي يعتبرها العديد من المسؤولين الأميركيين مثالًا يُحتذى به في محاربة “الإرهابيين” في الشرق الأوسط هي إسرائيل. فهم لا يدركون أنَّ إسرائيل أمضت عقودًا في استخدام العنف ضد أعدائها، ولكنها اليوم تجد نفسها أكثر عُرضةً للهجوم والازدراء من أي وقت مضى، عاجزةً تمامًا عن تقديمِ حلٍّ سياسي للمساعدة في حلِّ صراعها مع الفلسطينيين.

إنَّ استمرارَ قضية الرهائن السوفيات الأربعة في إثارة الإعجاب بين الناسِ المُضَلَّلين بسبب الأساليب القاسية التي تزعمُ موسكو أنها تستخدمها، يُخبرُنا بالكثير عن المُعجَبين أكثر مما يُخبرنا عمّا حدث بالفعل في العام 1985. في نهاية المطاف، من السيئ أن نعتقدَ أنَّ السكان الأصليين لا يفهمون إلّا القوة. فكل الأدلة من المنطقة تشير إلى أنَّ أميركا دفعت ثمنًا باهظًا لاعتقادها أنَّ العدوانَ قادرٌ على حلِّ عقدها الغوردية بسحر ساحر.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى