أميركا جعلت الشرق الأوسط أكثر تَقَلُّبًا جَرَّاء رَغبتها في الحفاظِ على تَفَوُّقِها
مايكل يونغ*
صار إصرارُ أميركا على الحفاظ على تفوُّقها العالمي موضوعًا رئيسًا للمناقشة بين الأكاديميين والصحافيين وحتى على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع مواجهة واشنطن للصين الصاعدة، هل يُشَكِّلُ جهدُ الولايات المتحدة للحفاظِ على هَيمنتها عاملَ استقرارٍ في العلاقات الدولية، أم عاملَ زعزعةٍ للاستقرار؟ وبشكلٍ أكثر تحديدًا، كيف يرتبطُ هذا بالوضع في الشرق الأوسط؟
بشكلٍ عام، ادَّعَت الولايات المتحدة أنها دولةٌ تعملُ على تعزيزِ السلامِ والأمنِ في المنطقة، وبالتالي الاستقرار أيضًا. مع ذلك، على كلِّ هذه المستويات، كان سلوكُ واشنطن في العقدَين الماضيين أقلَّ كثيرًا مما زَعَمَ خطابها. كانت الولايات المتحدة انتقائية في تعزيزِ السلام والقِيَمِ الليبرالية المُستَمَدَّة من هذا؛ كانت غير مُتَوَقَّعة وغائبة في بعض الأحيان في توفير الأمن، وكانت أفعالها عمومًا تؤدّي إلى تفاقُمِ عدمِ الاستقرار.
إنَّ حربَ إسرائيل وغزّة هي أحدثُ مثالٍ على تقويض صورة أميركا عن نفسها في هذه الفئات. إنَّ عدمَ رغبة إدارة الرئيس جو بايدن في فرض وقف إطلاق النار بعد أكثر من عشرة أشهر من القتل الجماعي هو دليلٌ على ازدواجية واشنطن. فهي تدَّعي أنها تُريدُ وقف إطلاق النار، لكنها لم تستخدم أيًا من أدوات قوتها لإنهاء الصراع. والواقعُ أنَّ الأسلحة الأميركية تسبّبت في خسائر فادحة في الأرواح في قطاع غزة، في حين لم يفعل الأميركيون سوى القليل في العقود الأخيرة لخَلقِ بيئةٍ يُمكِنُ أن تنجحَ فيها مفاوضاتُ السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
لكن ما الذي يحدث في غزة؟ إنَّ غزّة ليست مجرَّد حربٍ أخرى في الشرق الأوسط. فهي تأتي في وقتٍ تتنافسُ فيه الولايات المتحدة بشكلٍ متزايد مع الصين الصاعدة، لذا فإنَّ الاستياءَ الذي أحدثته غزة يلعب دورًا في هذه المنافسة. ينظُرُ العديد من الدول إلى الصراع باعتباره نافذة يُمكِنُ من خلالها تحدّي الهيمنة العالمية الأميركية، وحقيقةُ أنَّ واشنطن مُتواطئة في معاناة غزة عزَّزت وجهةَ نظرٍ بين العديد من البلدان مفادها أنَّ مثل هذه الهيمنة يجب أن تنتهي.
وينطبقُ الشيءُ نفسه على القِيَمِ المُصاحِبة للسلام. إذا كانَ السلامُ، من وجهةِ نظرِ أميركا، يُوَفّرُ سياقًا مثاليًا لتعزيزِ المبادئ الليبرالية والإنسانية، فإنَّ محاولات واشنطن التي تعوزها الحماسة لإنهاءِ الحرب في غزة تكشفُ أنَّ التزامها بهذه المبادئ سطحي.
ماذا عن الأمن؟ لم يُعزّز الوجودُ الأميركي في الشرق الأوسط الأمنَ على المستوى الإقليمي كثيرًا. لقد وفَّرَ الأميركيون الأمنَ لبعضِ الحلفاء، لكنهم لم يفعلوا ذلك على مستوى نظامي. وحتى هناك، فإنَّ السجلَ مُتقطّع. عندما ضربت طائراتٌ مُسيَّرة إيرانية منشأة نفط بقيق في المملكة العربية السعودية في العام 2019، لم تفعل الولايات المتحدة شيئًا، على الرُغم من أنَّ حمايةَ النفط السعودي كانت ثابتًا استراتيجيًا للوجود الأميركي.
قد يَزعَمُ البعضُ أنَّ مُكافحةَ الإرهاب تُشكّلُ عنصرًا رئيسًا من عناصر الأمن الإقليمي، وهو ما نجحت أميركا في تحقيقه على رأس التحالف العالمي لهزيمة “داعش”. ربما، ولكن هذا أيضًا مَهَّدَ الطريق لكثيرٍ من عدمِ الاستقرار، حيث كان التحالف الأميركي مع القوات الكردية ضدّ “داعش”، ولا يزال، يُنظَرُ إليه باعتباره تهديدًا وجوديًا من قِبَل تركيا.
في الوقت نفسه، لم يؤدِّ عجزُ الولايات المتحدة أو عدم رغبتها في تطويرِ أيِّ حَلٍّ إقليمي أو دولي لسجناء “داعش” وأفراد أسرهم إلّا إلى إنتاجِ وَضعٍ مُتَفَجِّرٍ يجعَلُ إحياءَ التنظيم أكثر احتمالًا.
سوفَ يتعزّزُ الاستقرارُ الإقليمي بشكلٍ كبير إذا وافقت الولايات المتحدة على العمل مع الصين — وهي جهة فاعلة رئيسة أخرى لها مصلحة في مثل هذا الاستقرار لضمانِ استمرار تدفُّقِ النفط لاقتصادها. مع ذلك، فإنَّ الأولوية الأميركية هي الحدُّ من نفوذِ الصين في الشرق الأوسط. والمُفارَقة هنا هي أنَّ التقارُبَ السعودي-الإيراني بوساطة بكين في العام الماضي، على سبيل المثال، ساعدَ على تهدئة التوتّرات الإقليمية. وقد دفع هذا الأمر الدول في الشرق الأوسط إلى النظرِ بشكلٍ أكثر إيجابية إلى دور الصين، وعلى النقيض من ذلك، بشكلٍ أكثر إنتقادًا إلى دور أميركا.
هناكَ غموضٌ في الموقفَ الأميركي والذي يكشُفُ الكثيرَ عن نواياه. فمنذُ إدارة باراك أوباما، أشارت الولايات المتحدة إلى أنها لا تُريدُ الحفاظَ على دورها البارز في الشرق الأوسط. ولكنها في الوقت نفسه لا تنظرُ بعين الرضا إلى الدور الصيني الأكبر، ولا تُريدُ أن ترى مزاياها العديدة مَوضِعَ تَحَدٍّ.
إنَّ عدم اليقين هذا مُربكٌ، ويضرُّ بتبريراتِ تصرُّفات الولايات المتحدة في المنطقة. ففي رغبتها في الحفاظ على تفوُّقها (وبالتالي تفوُّق حلفائها مثل إسرائيل)، فقد جعلت الولايات المتحدة المنطقة أكثر تقلُّبًا وأقل سلمية واستقرارًا. وفي فَرضِ أولوياتها الأمنية الخاصة، اصطدمت واشنطن بدولٍ أُخرى لديها أولويات أمنية خاصة بها. وفي معارضتها صعود الصين، فقد تخلّت الولايات المتحدة عن تعاوُنٍ قَيِّمٍ مُحتَمَل يمكن أن ينزَعَ فتيلَ الأعمال العدائية الإقليمية.
من المؤكّد أنَّ الأميركيين محكومٌ عليهم باللعنة سواءَ فعلوا ذلك أو إذا لم يفعلوا. إنَّ دَعمَ حليفٍ واحد، إسرائيل، قد يؤدّي إلى عدم الاستقرار، في حين أنَّ الفشلَ في دَعمِ حليفٍ آخر، المملكة العربية السعودية، قد يؤدي بالقدر نفسه إلى توليد عدم الاستقرار. والمشكلة هي أن الولايات المتحدة يبدو أنها لا تملكُ استراتيجيةً شاملة لتسوية التناقُضات. وينبع هذا إلى حدٍّ كبيرٍ من حقيقةِ أنَّ واشنطن تُقاوِمُ إعادة التفكير في تفوُّقها في الشرق الأوسط.
إنَّ الأميركيين سوف يُدرِكون عاجلًا أم آجلًا أنه كما ساعدَ الانفراجُ مع الاتحاد السوفياتي قبل عقودٍ في تهدئةِ العداءِ العالمي، فإنَّ بعضَ أشكالِ القبولِ بدور الصين سوف يكون ضروريًا للقيام بالشيء عينه في المستقبل. وهذا صحيحٌ بشكلٍ خاص في الشرق الأوسط، حيث لا يهتم الصينيون، أكثر من الأميركيين، بحروبٍ جديدة، وحيث تتمتّع الدولتان بالقدرة على حلِّ النزاعات من خلال العملِ المُشترَك والمُنسَجِم.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.