حوار الزجاج في صمت الهنيهات (1 من 2)

باحة مسجد ناصر الملْك

هنري زغيب*

بادرةُ تزيين النوافذ الكبرى، الخاصة أَو العامة، بزجاجيَّات ملوَّنة زخرفيَّة، ترقى بتاريخها إِلى الأَمبراطورية الرومانية. ولاحقًا، تعمَّمَت هذه البادرة الزخرفية لتَظهر على نوافذ الكنائس والكاتدرايات وبعض الأَبنية الخاصة الكبرى، خصوصًا إِبان العصور الوُسطى. ومع السنوات توسعَت هذه البادرة إِلى صروح غير مسيحية لدى جماعات دينية أَو علمانية أُخرى، لِما فيها من جمال هندسي كما تبدو النوافذ في الداخل  وكما تظهر في الخارج من قريب أَو بعيد، خصوصًا عند انعكاس أَشعة الشمس عليها وفْق التوقيت صباحًا أو ظهرًا أَو غُرُوبًا.

اليوم باتت الزجاجيات تزين نوافذ المساجد والأَبنية الحديثة في هندسات جميلة ذات سطوع لافت.

هنا، في جزء أَوّل من هذا المقال، ثلاثة صُرُوح دينية تتزيَّن نوافذها بالزجاجيات الجميلة.

من زجاجيات كاتدرائية أُوغْسْبُورغ

كاتدرائية أُوغْسْبورغ

أَقدم نوافذَ ذاتِ زجاجيات منذ الأَصل مبنيَّةٌ فيها، موجودة في كاتدرائية أُوغْسْبُورغ (مدينة في مقاطعة بافاريا – جنوبيّ أَلمانيا). يعود تاريخ هذه الكاتدرائية إِلى القرن الحادي عشر. بُنيَت لخدمة الجالية المسيحية هناك. وعلى عادة الجدرانيات والتماثيل والأَنصاب، تَعْمُرُ تلك النوافذ بكتاباتٍ من الكتاب المقدس (العهد القديم) واضحةِ القراءة للجمهور العادي من المؤْمنين. مع ذلك، في بعض النوافذ كتاباتٌ غير مفهومة حتى لِمؤَرخي الفنون الذين يرجِّحون أن تكون الزجاجيات رافقت، منذ البداية، بناء الكاتدرائية وتكريسها دينيًّا من الفاتيكان سنة 1065. وثمة بينهم من يرجِّح أَن زجاجيات النوافذ أُضيفَت إِليها في النصف الأَول من القرن الثاني عشر. وفي الحالين هي هناك منذ نحو أَلف عام.

ذاك عن الكتابات. أَما الوجوه في الزجاجيات، فهي لأَنبياء من التوراة (موسى، دانيال، داود، يونس، هوشع، …)  وجميعها في الجناح الجنوبي من الكاتدرائية. ويرجِّح بعض الدارسين أَنَّ تلك المجموعة الحالية هي جزءٌ من مجموعة أَكبر كانت في نوافذ الكاتدرائية. لكن الكاتدرائية تعرضت لسقوط القنابل عليها في ظروف تدميرية إِبان الحرب العالمية الثانية، وبقيَت فيها نوافذ ناجيةٌ ماثلةٌ اليوم للمؤْمنين والزوَّار.

زجاجية في “ضريح القيامة”

مسجد ناصر الـمُلْك – شيراز

بين روائع الفن الإِسلامي في عصوره الزاهرة: مسجد ناصر الملك في شيراز (جنوبي إيران). بدأَ بناؤُه سنة 1876 واستمرت عمليات تشييده 12 سنة (حتى 1888). وكان ذلك بناء على أَمر الميرزا حسن علي ناصر الملْك (1835-1893)، وهو من أُسرة إِيرانية أَرستقراطية شاءَت أَن تبني ضريحًا فخمًا لكبيرها عند وفاته. وجاء المهندسون بروعة هندسية ذات زجاجيات ملْءَ المسجد تحيط بها عناصر إِسلامية تقليدية جميلة ذات أَشكال أَخَّاذة، وواجهة ذات أَقواس عربية.

لا عدَّ للزجاجيات الملوّنة البهيجة، فهي بالآلاف من البلاطات الزجاجيات الصغيرة والوسطى والكبيرة، تمتد في السقف العالي وتنعكس على سجاد الأَرض الفارسي النقْش والحياكة. والمشهد الرائع يأْتي عند الفجر: ينعكس نورُ الصباح على الداخل فيصبح الداخل وهجًا جميلًا ساحرًا من الظلال والأَلوان التي معظمها زهريّ. من هنا أَن لهذا المسجد اسمًا آخر: “المسجد الزهريّ” لجمال ما فيه من سحر في الأَلوان البهية الساطعة.

نافذة زجاجية كبرى في “ضريح القيامة”

مقبرة “ضريح القيامة”

في مدينة جاسْتِسْ (بالعربية: العدالة)، وهي في مقاطعة كُوْك من ولاية إِيْلِيْنُوْيْ الأَميركية، مبنى فخم تكرَّسَ أَكبر مَعْلَمٍ في العالَم تضُم نوافذُه زجاجيات ملوَّنة، بشهادة “مؤَسسة غينيس” العالَمية للأَرقام القياسية.

التصميم هو لِمؤَسسة “بيكِل” Pickel التي أَسس محترفَها ومصنعَها للزجاجيات الملوَّنة كونراد بيكل في ولاية وِسْكُونْسِن سنة 1947، ونفَّذَ زجاجياتٍ لكاتدرائيات كبرى في عدد من الولايات الأَميركية. بعد وفاته، تولَّى المؤَسسةَ ابنُه بول بيكل (خريج كلية الفنون في جامعة وِسْكُونْسِن) وبلغ من نبوغه أَن صمم أَكبر زجاجياتِ صرحٍ في العالم: “ضريح القيامة” في مدينة جاسْتِسْ قرب شيكاغو في ولاية إِيلينُوي. وسنة 1975 نقَل المؤسسةَ ومحترفَها ومصنعَها إِلى مدينة Vero فيرو بيتش في ولاية فلوريدا.

مؤَسسة بيكل نفذَت العمل الضخم وفق تقْنية Dalle de verre التي تقوم على صباغة الأَلواح الزجاجية من المواد الصلبة التي تحتمل الحر والبرد وتقلُّبات الأَحوال المناخية المختلفة في الطبيعة. صُنِّعت الأَلواح بطريقة فسيفسائية جميلة، فبلغَت 2448 لوحًا ملوَّنًا مفْردًا امتدَّت على مساحة نحو 2000 متر مربَّع، غطَّت مساحاتٍ واسعةً من جدران الضريح، فإِذا مبنى الضريح رائعةٌ هندسية معمارية من أَعمال منتصف القرن العشرين.

على زجاجيات النوافذ كتاباتٌ من الكتاب المقدس، وصوَر دينوصورات من “جنة عَدَن” القديمة، وصُوَر انفجار نَوويّ، وصورة مركبة  “زُحَل 5″ في الفضاء، كما تكريمًا للـ”نازا” وإِنجازاتها في اختراق الفضاء الخارجي.

“ضريح القيامة” كان شهيرًا منذ البدء برواية عن “الصبية مريم” التي تقول الأُسطورة إِنها أَمضت ليلة من الرقص مع صديقها الشاب في قاعة للسهرة قريبة. لكنها تشاجرَت معه وخرجَت تمشي في الشارع وحدها فصَدَمَها سائق أَرعن وهرب تاركًا المكان، وبقيَت مريم تنزف حتى ماتت. وحين أَهلها وجَدوا جثَّتها دفَنوها في “ضريح القيامة” بكامل ثياب الرقص وحذائه. وتقول الأُسطورة إِنها ما زالت في تلك الناحية تَظهر على السائقين طالبةً إِليهم أَن يُقلُّوها إِلى مقبرة “ضريح القيامة” حيث تحب أَن تستريحَ نفسُها في هدأَة الموت.

في الجزء الآخر الـمُقبل من هذا المقال: صُرُوح أُخرى نوافذُها ذاتُ زجاجيات ملوَّنة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى