تَبَنِّي فرنسا لخطّةِ الحُكمِ الذاتي المغربية يؤكّدُ على تحوُّلٍ أوسع نطاقًا في نزاعِ الصحراء الغربية
بعدَ تأييدِ فرنسا والولايات المتحدة وإسبانيا، وأخيرًا فنلندا، لخطة الحكم الذاتي للصحراء الغربية التي طرحها المغرب، فإنَّ أيَّ تصعيدٍ من جانب جبهة البوليساريو سيكونُ غير حكيم لأنَّ المجتمعَ الدولي من المرجَّح أن يتجمَّعَ ويدعم الرباط بسرعة لوقفِ أيِّ زعزعةٍ مُحتَملة للاستقرار في المنطقة.
إنتصار فقير*
كَشَفَت رسالةُ التهنئة التي وَجَّهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العاهل المغربي الملك محمّد السادس في مناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلائه العرش عن تحوُّلٍ كبيرٍ في السياسة في ما يتعلق بصراع الصحراء الغربية. لقد أعلنَ ماكرون أنَّ فرنسا تنظُرُ إلى اقتراح الحكم الذاتي المغربي ليس فقط باعتباره حلًّا قابِلًا للتطبيق، بل هو الحلُّ الأكثر قابلية لتسوية الصراع. ويُشَكِّلُ هذا التحوُّل الدلالي تغييرًا كبيرًا في السياسة الخارجية الفرنسية، بعدَ تحوُّلٍ مُماثِلٍ في موقف إسبانيا، يُمكنُ أن يدفعَ دولًا أوروبية أخرى إلى أن تفعلَ الشيءَ عينه. وعلى نطاقٍ أوسع، فإنَّ هذه الخطوة لها أيضًا آثارٌ على الديناميكيات الإقليمية وستتطَلَّبُ في نهايةِ المطاف إعادة النظر في عملية حلِّ النزاعات التي تقودها الأمم المتحدة.
بعدَ عقودٍ من التفاوُض، تحت رعاية الأمم المتحدة، حولَ مجموعةٍ من الحلولِ المُمكِنة للنزاع الإقليمي ــ الذي يضع المملكة المغربية في مواجهة جبهة البوليساريو، وهي حركة تحرير تدعمها الجزائرــ بدأ المغرب الدفعَ بالنتيجة المفضلة لديه وتسويقها. ظهرت خطة الرباط للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية في العام 2007، وفي غيابِ السُبُلِ الأخرى القابلة للتطبيق لضمان تقرير المصير، حظيت خطة الحكم الذاتي بدعمٍ ولكن ليس تأييدًا صريحًا من الولايات المتحدة وأوروبا. وقد سعى المغرب إلى جعل الخطة الأساس الوحيد للتفاوُضِ على حَلّ، في حين حاولت الأمم المتحدة (ومختلف المبعوثين الشخصيين) توسيعَ السياق وضمان أنَّ المفاوضات سوف تستوعب جميع النتائج المُحتَمَلة. ومنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رفضَ المغرب المفاوضات المُحتَمَلة التي من شأنها أن تشمُلَ الاستقلال (من خلال استفتاءٍ لتقرير المصير)، في حين أصرَّت جبهة البوليساريو، على أساس الحق المعترف به دوليًا في تقرير المصير، على أنَّ المفاوضات يجب أن تشمُلَ مسارًا مُحتَمَلًا للاستفتاء الذي يُقدّمُ ثلاثة خيارات: الحكم الذاتي، والاستقلال، والتكامل الكامل. لكن القيادة المغربية عملت لسنواتٍ عديدة بنشاطٍ على الحدِّ من احتمالاتِ حدوثِ هذه النتيجة من خلالِ ترسيخِ سيطرتها الفعلية على معظم الأراضي من خلال التركيبة السكانية والاستثمارِ والتنمية الاقتصادية، وبالتالي خلقِ واقعٍ يكادُ يكون من المستحيل تغييره والتراجع عنه. وقد فشل المفاوضون المتعاقبون في تحريك الرباط بشأن هذه القضية، وهي نتيجةٌ غير مفاجئة بالنظر إلى الدعم الذي يحظى به موقف المغرب من الولايات المتحدة وفرنسا في مجلس الأمن الدولي.
مصالح متنافسة للجهات الفاعلة الدولية
اضطرَّت الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا (الجهات الفاعلة الأكثر تورُّطًا بشكلٍ مباشر في الصراع) إلى إدارةِ ومواجهةِ العديد من المصالح والمبادئ المُتنافسة بشأن هذه القضية، في مثالٍ مُبكرٍ على الطريقة التي أعاقَ بها القانون الدولي وعمليات حلِّ النزاعات الدولية السياسة الخارجية والأولويات الوطنية. وبسبب إِحجامِها عن الضغط على شريكٍ ثابت لقبول حلٍّ يمكن أن يضعفه، فقد حمت هذه الدول المغرب من الاضطرار إلى قبولِ تسوية. كما اضطرّت إسبانيا، القوة الاستعمارية السابقة والمسؤولة عن الصحراء الغربية، إلى إدارة التصوّرات المحلية بشأنِ هذه القضية. وقد تطَلّبَ الأمرُ من كلٍّ من إسبانيا وفرنسا موازنة شراكتهما مع المغرب مقابل شراكتهما مع الجزائر، البلد الداعمُ الرئيس لجبهة البوليساريو ولاعبٌ إقليمي مُهم ومُصَدّر للطاقة إلى الأسواق الأوروبية، خصوصًا بالنظر إلى التأثير الذي أحدثه الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022 على إمدادات الغاز إلى أوروبا.
نتيجةً لذلك، حافظَ هؤلاء الشركاء على الموقف المُتمثّل في التعامل مع الحكم الذاتي باعتباره أحد الأسس العديدة القابلة للتطبيق للمفاوضات، مع حماية المغرب في الوقت نفسه من أيِّ ضغوطٍ كبيرة على طاولة المفاوضات. ربما كان هذا التكتيك يهدفُ إلى استرضاء جبهة البوليساريو والجزائر، لكنه أصبح مصدرَ إحباطٍ وعاملًا، في نظر الأخيرتين، ينزعُ الشرعية عن عملية التفاوض الدولية، مما ساهم في انسحاب البوليساريو في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 من اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسّطت فيه الأمم المتحدة في العام 1991. وقد تعرَّضت الجبهة لضغوطٍ من اللاجئين المُحبَطين في مخيمات تندوف لاتخاذِ إجراءاتٍ دراماتيكية ضد المغرب والمدِّ المُتصاعِد من الدعم الديبلوماسي لموقف المملكة. لقد خاب أمل المغرب في دعم شركائه الضمني ولكن ليس العلني أو الرسمي للقرار الذي يُفضّله، لكنه نجح في الحصول على دعمٍ لخطة الحكم الذاتي، وحتى الاعتراف الصريح من العديد من الشركاء الأفارقة والعرب بمطالباته بالسيادة. وقد شهد العام 2020 سلسلة من الاعترافات، وكانت الإمارات العربية المتحدة والبحرين والأردن من أبرزها.
الولايات المتحدة تُغَيِّرُ مسارها مع الشركاء الأوروبيين
مع التحوُّلِ النموذجي الذي جلبته إدارة دونالد ترامب إلى هذا الصراع في كانون الأول (ديسمبر) 2020 بقبول السيادة المغربية على الإقليم، تمَّ تقليصُ دور الأمم المتحدة والنقاش حول سيناريوهات الحلِّ المُختلفة. بعد ذلك، وجدت إدارة جو بايدن نفسها تُبحِرُ في مسارٍ صعبٍ يتمثّل في السعي إلى إعادة تأكيد أهمية القانون الدولي وعملية الأمم المتحدة في التفاوض على حلٍّ دائمٍ مع دعم السياسة الخارجية الأميركية الجديدة، والتي سيكون عكسها مُثيرًا للجدل وقد يؤدّي إلى أزمةٍ في العلاقات الأميركية-المغربية. تعرّضت إدارة بايدن لضغوطٍ كبيرة من أنصار البوليساريو وأولئك الحريصين على رؤية العملية الدولية تمضي من دون عوائق للتراجع عن التغيير. ولكن بينما كان الاعتراف قائمًا، عاد خطاب الإدارة إلى موقف ما قبل إدارة ترامب المُتمثّل في الحفاظ على الحكم الذاتي كخيار. وبينما شعرِ بخيبة أمل بشكلٍ خاص إزاء التردّد والتراجع، فقد حقّقَ المغرب النصر. علاوةً على ذلك، لقد خلق موقف الولايات المتحدة توقُّعًا جديدًا لتأثير الدومينو.
من جهتها أخذت الرباط تُشجّعُ الشركاء الدوليين وتُقنِعهم وتَضغَطُ عليهم، إن لم يكن ليتبعوا خطى واشنطن بالضبط، على الأقل لإظهارِ دعمٍ أقوى للنتيجة التي تُفضِّلها. بدأ الضغط يتزايد مع أقرب شركاء المغرب الأوروبيين، إسبانيا وفرنسا، حيث صمدت الأخيرة لسنواتٍ عدة. وبينما كانت تُديرُ وتدرسُ مطالب المغرب المتكرّرة بمزيد من الدعم الكامل، ادّعت فرنسا أنها قادرة بشكلٍ أفضل على مساعدة المملكة من خلال الحفاظ على حيادها بشأن خطة الحكم الذاتي. مع ذلك، لم يردع هذا الموقف المغرب، ومع وضع هدف جلب الاستثمار الأجنبي المباشر الدولي (بما في ذلك الفرنسي) إلى المنطقة الخاضعة لسيطرته، سعى إلى الحصول على دعم ديبلوماسي أكبر من جميع شركائه. وكانت إسبانيا، الأقرب جغرافيًا والمتورّطة في تعاونٍ كبير مع الرباط بشأن الهجرة والأمن، كافأت المغرب بتغييرٍ في السياسة في العام 2022 – وهي الخطوة التي استدعت ردَّ فعلٍ قويًّا من الجزائر في محاولةٍ للالتفاف على تغييرٍ أوسع مُحتمَل في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.
النتائجُ المُحتَمَلة والآثارُ الإقليمية لتحوُّلِ السياسة الفرنسية
حدثَ تحوُّلُ فرنسا بعدَ سنواتٍ عدة من التوتّرات الثُنائية التي شملت قضايا سبقت إدارة ماكرون -بدءًا من الاحتكاك الديبلوماسي إلى مزاعم التجسّس إلى مبادرات فرنسا تجاه الجزائر- وربما اعتبرها الرئيس الفرنسي خطوةً ضرورية لتحريض إعادة صياغة العلاقة. وفي حين يُبشّرُ هذا الموقف الجديد بتحسُّنِ العلاقات مع الرباط، فإنَّ فرنسا تواجه الآن شبح الضغوط والتوترات الإضافية في علاقةٍ مُعقَّدة أصلًا مع الجزائر، التي ردّت على رسالة ماكرون بسحب سفيرها من باريس، وتتطلّعُ فرنسا إلى تجربة إسبانيا كسابقة. في حزيران (يونيو) 2022، قطعت الجزائر العلاقات مع إسبانيا وعلّقت التجارة في جميع القطاعات باستثناء الطاقة بعد قرار مدريد بدعم خطة الحكم الذاتي، وبدأت العلاقة للتو في التعافي. كانت السياسة الجزائرية مبدئية في دعمها لجبهة البوليساريو، مما يعكس المخاوف من طموحات المغرب التوسُّعية والتزام الجزائر التاريخي بإنهاء الاستعمار والأممية الثورية. ولكن جهود الجزائر للحدِّ من تقدُّمِ المغرب في هذا الصدد هي جهودٌ تفاعُلية. إذ تنظر الجزائر إلى المغرب باعتباره تهديدًا للأمن القومي بالمعنى الواسع الغامض، وبالتالي تفتقرُ إلى اتجاهٍ استراتيجي واضح. ويتلخّص نهج القيادة الجزائرية في إفسادِ تقدُّمِ المغرب وإبطاء زخمه، بدلًا من استباقِ الأحداث وتحديد الاتجاه. وفي هذه اللعبة، كان المغرب دائمًا مُتقدّمًا بخطوة، حيث شقَّ طريقه إلى النتيجة التي يريدها من خلال استراتيجيةٍ ذكية وسياسة القوة وتجنُّب النظام الدولي، في حين تصرخ الجزائر من دون صدى في ساحة القانون الدولي.
لكن مع سعي المغرب إلى تحقيق هذه المزايا في الصراع، لا يبدو أن قيادته تكترث لمجموعةِ العواقب الجانبية لأفعالها. وقد تعمل خطوة فرنسا، كما فعلت الاعترافات السابقة، على تمكينِ المُتشدّدين الجزائريين، مما قد يؤدّي إلى زيادة التوتّرات الثُنائية. وكانَ أحدث انقطاع ديبلوماسي بين البلدين في آب (أغسطس) 2021، في أعقاب اعتراف الولايات المتحدة والعلاقات المتنامية بين المغرب وإسرائيل. وكان التحوُّلُ في سياسة أميركا قد أدّى في السابق إلى تعقيدِ إمكانيةِ وقف إطلاق النار بين جبهة البوليساريو والرباط. ومع صعود وتقدُّم المغرب في هذه القضية، لا يوجدُ حافزٌ للبلاد لأيِّ تنازُل. والحقيقة الصعبة هي أنه مع كل اعترافٍ يحدث، يقع عبءٌ أكبر على عاتق جبهة البوليساريو والجزائر لتسوية هذه القضية، ويجب عليهما القيام بذلك بسرعة، قبل أيِّ خسائر أخرى في النفوذ. كلُّ اعترافٍ يحرُمُ جبهة البوليساريو من أيِّ فُرَصٍ ضئيلة كانت موجودة لحلِّ القضية في إطار الأمم المتحدة الحالي.
إنَّ العودةَ إلى الصراع النشط لم تُحقّق النتائج التي سعت إليها جبهة البوليساريو – فهي لم تجذب المزيد من الاهتمام الدولي بالصراع، ولم تُوَلِّد أيَّ إدانةٍ للمغرب، ولم تُسفِر عن أيِّ خسائر مادية قد تُجبِرُ المغرب على تقديمِ تنازلات. وعلاوة على ذلك، فإنَّ أيَّ تصعيدٍ من جانب جبهة البوليساريو سيكونُ غير حكيم لأنَّ المجتمع الدولي من المرجح أن يتجمَّع حول المغرب بسرعة لوقفِ أيِّ زعزعةٍ مُحتَملة للاستقرار في المنطقة. إن الولايات المتحدة وإسبانيا وفرنسا، بعد أن غيّرت ديناميكيات الصراع من خلال تحوّلها السياسي، تتحمّل الآن مسؤولية جلب جميع الأطراف إلى طاولة المفاوضات لمنع المزيد من التصعيد وتخفيف التوتّرات السياسية المُتفاقمة مع الجزائر.
- إنتصار فقير هي زميلة أولى ومديرة برنامج شمال أفريقيا والساحل في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.